المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416612
يتصفح الموقع حاليا : 250

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629125316519.jpg

الاستطاعة مـن مقومات الحــــرية

سبق أن علمنا أن أوائل الصوفية أثبتوا اختيار حرا للإنسان ، بإرادة ذاتية وأصلية فيه ، وأن الذى يختاره سواء كان طاعة أو معصية فإنه لا يخرج عن مشيئة الله الشاملة وإرادته الكونية المطلقة وإن كان ذلك مخالفا كمعصية لأمره الدينى التشريعى ، وهم يعتبرون إثبات الاختيار الحر مقوما أساسيا فى إثبات حرية العبد ووقوعه تحت المساءلة وتوقيع الجزاء فى الآخرة ، وهنا نجدهم يثبتون مقوما آخر من مقومات الحرية يتمثل فى إثباتهم لاستطاعة الإنسان على تحقيق ما يختار وقدرته عليه فهم علموا وأيقنـوا أن الله استخلفهم فى الأرض وخولهم واسترعاهم فيها ليبتليهـم ، ويقرر أبو سعيد الخراز فى وضوح تام هذه الحقيقة الهامة فيقول : ( إعلم أن الأنبياء عليهم السلام والعلماء والصالحين من بعدهم  رضى الله عنهم أمناء الله تعالى فى أرضه على سره وعلى أمره ونهيه وعلمه وموضع وديعته ، والنصحاء له فى خلقه وبريته وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه وفهموا لماذا خلقهم وما أراد منهم وإلى ما ندبهم ) (1) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الطريق إلى الله لأبى سعيد الخراز ص 32 .

     ثم بين أنهم أصغوا إلى الله بآذان فهومهم الواعية ، وقلوبهم الطاهرة ولم يتخلفـوا عن  ندبته ، فسمعوا الله عز وجل يقول :

 { آمنو بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } (1) .

  • ثم قال : { ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون } (2) .
  • وقال تعالى : { لله ما فى السموات وما فى الأرض } (3) .
  • وقال تعالى : { ألا له الخلق والأمر } (4) .

    ويصل بعد ذلك إلى الحقيقة التى أيقن بها المؤمنون وجعلوها نصب أعينهم وفى كل أفعالهم فقال : ( فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى وكذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى ، وخلقوا للاختبار والبلوى فى هذه الدار ) (5) .

   والمحاسبى يجعل هذه الحقيقة فى كتابه الرعاية أول ما يجب على العبد معرفته والفكر فيه ويبوب لها بابا مستقلا يقوله فيه :

ــــــــــــــــــــــــ

1- الحديد / 7 .          

2- يونس / 4 .

3- البقرة / 284 .

4- الأعراف / 54

5- السابق ص 32  .       

     ( فتعلم أنك لم تخلق عبثا ولم تترك سدى ، وإنما خلقت ووضعت فى هذه الدار للبلوى والاختبار لتطيع الله عـز وجل أو تعصـى فتنقـل مـن هـذه الــدار إلى عذاب الأبد أو نعيم الأبد ) (1) .

     ومن ثم فإن الاستطاعة تظهر فى المفهوم الصوفى لأوائل الصوفية من خلال فهمهم للغاية من خلق الإنسان ، ووجوده فى هذه الأرض بالكيفية التى تحقق معنى الابتلاء ، فالله سبحانه وتعالى استخلف الإنسان فى الأرض وخوله فيها ، وهذا يعنى أن طبيعة الكائنات وماهية المخلوقات المستخلف عليها فى الأرض تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، كما أن إقامة النواميس الكونية والقوانين الطبيعية بحيث تمكنه من التملك السيطرة عليها دليل حازم على إثباتهم للاستطاعة والقدرة ، ويزدار الأمر وضوحا إذا تعرفنا على الاستطاعة من خلال دراستهم للكبر والعجب والغرور .

     فالله سبحانه وتعالى أعطى العبد ومكنه فأصبح قادرا مستطيعا فاعلا فأمره سبحانه بالتواضع واللين وأن يرد الفضل إلى خالقه وأن يعرف قدره فى بدايتــة وحياته وعاقبتـه .

     يقول المحاسبى : ( أحياه بعد ما كان ميتا ، وأسمعه بعد ما كان ــــــــــــــــــــــــ

1- الرعاية ص 47  .

أصما ، وبصره بعد ما كان لا بصر له ، وقواه بعد أن كان ضعيفا  وعلمه بعد أن كان جاهلا ، وأغناه بعد أن كان فقيرا ، وأشبعه     بعد أن كان جائعا ، وكساه بعد أن كان عاريا ، وهداه بعد أن       كان ضالا ) (1) .

      فإذا تذكر العبد وتفكر فى الأشياء وعلم أن حوله وقوته من الله واستطاعته منحة وفضل منه سبحانه وتعالى ، زال عنه الكبر ولزمه الخضوع والذلة والتواضع للمولى عز وجل والشكر للمنعم تعالى والانكسار للخوف من العقاب ويذكر المحاسبى أن الكبر والاستطالة على وجهين :

 أحدهما : بين العباد وربهم  وذلك يكون بالامتناع عن العبادة مع القدرة عليها كما قال سبحانه :

         { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قـالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } (2) فلما امتنعوا مع الاستطاعة فى الدنيا سلبها الله منه فى الآخـرة ، قـال تعالـى : { يوم يكشف عــن ســاق ويدعــون إلى السجــود فــلا يستطيعـون خاشعةأبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعــون إلى السجـود

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 317 .

2- الفرقان /60 .

وهـم سالمـون } (1) .

الوجه الثانى : بين العبد وبين العباد ويكون ذلك بالتعظم عليهم إما باحتقارهم أو رد الحق عليهم أن يقبله منهم وهو يعلم أنه الحق أو أمره بعضهم بخير أو نهاه عن منكر ، ويستدل لذلك بحديث سلمة بن الأكوع حيث قال النبى صلى الله عليه وسلــم لرجل : كل بيمينك .

         قال : لا أستطع .

         فقال النبى صلى الله عليه وسلم : لا استطعت ما منعك    إلا الكبر .

         قال سلمة : فما رفعها بعد ذلك إلى فيه (2) .  

    ويقيم الحكيم الترمذى الأساس فى نظريته للولاية بغض النظر عن آرائه المنحرفة فيها على أن الآدمى دون سائر المخلوقات هو المحل الوحيد ــــــــــــــــــــــــ

1- القلم 42 ، 43 .

2- السابق ص 305 ، 306 والحديث أخرجه مسلم فى كتاب الأشــربة ، باب آداب الطعام  برقم (2021) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 4 ص 45 ، 46 والدارمى فى سننه حـ 2 ص 97 وابن حبان فى كتاب التاريخ ، باب المعجزات  برقم (6512) والبيهقى فى دلائل النبوية حـ 6ص 238 ، والطبرانى فى الكبير 6235 وهذا الرجل هو بسر بن راعى العير .                                                                                                                          

  لهذه الولاية ، وذلك لأن الله هيأه وأعده الإعداد المناسب لها وجوهر ولاية المخلوق لله فى الخدمة والوقوف بين يديه والمبادرة إلى تدبيره والمسارعة فى تنفيذه ، يدل على ذلك عنده قوله تعالى : { إنى جــاعل فى الأرض خليفـة } (1) .

    وللخليفة شأن فى ملك المستخلف ، والآدمى هو المخلوق الوحيد الذى خلق لذلك (2) فقد خلق آدم بيده وعلمه الأسماء كلها ، وقد خلقنا لمحبته ، وجعلنا موضعا لتوارد مختلف أحكامه ، واقتضى منا الخدمة والوقوف بين يديه وتنفيذ هذه الأحكام .

    أما سائر المخلوقات فقد خلقت بقوله : { كن } وجعلت مسخرة لنا ولا تكليف له فيها ، فالسخرة لازمة لا تزول ، وهى قائمة فيها حتى تعود إلى الأصول التى خلقت منها فما خلق من التراب عاد ترابا ، وما خلق من النار عاد إلى النار التى خلق منها ، ويبقى الآدمى فى دار البقاء فى أبديته التى خلق لها (3) .

    ومن هنا يبدوا واضحا أن معنى السلطة والولاية والحكم مشتق من ــــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 3 .

2- الرياضة وأدب النفس للحكيم الترمذى ص 34 .

3- نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 382 ، 383 بتصرف .

 

معنى الخلافة ، وأن الخلافة تكون على أشياء دون مستوى الخليفة فى الدرجة الوجودية ، وأن الآدمى مؤهل بمؤهلات يتميز بها عن غيره  تجعله أهلا لهذه المهمة من دون الآخرين ، وذلك يستتبع أيضا أن يكون الإنسان مكلفا من قبل الله بأمور خاصة .

    فيذكر السراج الطوسى فى بـذل الوسـع والاستطـاعة فى تحقيـق التكليف والعبودية أن معنى قوله عز وجل :

 { اتقــوا الله حــق تقــاته  } (1) .

 راجع إلى قوله : { فاتقــوا الله ما استطعتم } (2) .

والتشديد فى قوله : { فاتقوا الله  ما استطعتم } لأنك لو       صليت ألف ركعة واستطعت أن تصلى ركعة أخرى ، فأخرت ذلك   إلى وقت آخر فقد تركت استطاعتك ، ولو ذكرت الله تعالى ألف    مرة  واستطعت أن تذكره مرة أخرى فتؤخر ذلك إلى وقت ثان            فقد تركت استطاعتك .

    وكذلك لو تصدقت على سائل بدرهم ، واستطعت أن تعطيه   درهما آخر ، أوحبة أخرى فلم تفعل ذلك فقد تركت ــــــــــــــــــــــــ

 1- آل عمران / 102 .

 2- التغابن / 16 .

 

استطاعتك ، فمـن أجـل ذلك قلنا بالتشديد فى قولـه : { مــا استطعتــم } (1) .

     يقول الترمذى فى كتابه نوادر الأصول : ( ولما كانت سائر المخلوقات مسخرة مجبرة لا تكليف عليها وكان الآدمى على    خلاف ذلك ، كان من شأنه أن يوضع فى دار ابتلاء وأن        يكون ذا مشيئة يمكن أن تتعلق بأى حظ من حظوظ هذه الدار ، وأن يكون الأمر من الله علينا خاصة من طريق الكلفة والأسباب والاجتهاد والبلوى ، حتى يكون لنا اسم ومحمدة ، وفضيلة على سائر الخلق ، إذ لو لم يكن الأمر على طريق الاجتهاد والتكليف       وإقامة الحدود لما كان لنا اسم ولا نعت ولا صفة ) (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 122 قلت : فرق بين الاستطاعة فى آداء الواجب وترك المحرم والاستطاعة فى آداء المستحب وترك المكروه فالأول يجب أن يؤديه المسلم ما استطاع أما الثانى فهو مخير فيه مع وجود الاستطاعة ولا يعد مقصرا فى تقوى الله فكلام السراج فيه نظر لأن لازمه ترك الحياة بالكلية والسلبية حيالها وليس هذا ما دل عليه الشرع وإنما دل على أن الحياة  ابتلاء فيها الغنى والفقير والقوى والضعيف وغير ذلك من لوازم الابتلاء مما يعروف فى بابه ، فيجب التنبه إلى أننا أورنا كلامه للاستلال على اعتقدهم فى  اثبات الاستطاعة فقط دون إقرار وتسليم .

2- السابق ص 314 .

وكما أنهم أثبتوا استطاعة الإنسان وعلوه على ما دونه من المخلوقات المسخرات له ، فإنهم أيضا أثبتوا استطاعة ذاتية تقوم فى النفس البشرية وتتمثــل فى استطاعتة على إتمام الفعل المراد له ، وهذه الاستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم ، فالجوارح الظاهرية هى أدوات الاستطاعة التى تحول الفعل الداخلى للقلب والممثل فى الإرادة وتوابعها من أمور الاختيار إلى فعل خارجى ظاهر ملموس يحاسب عليه الإنسان ويكتسب به الحسنات والسيئات .

     ويحكى الكلاباذى إجماعهم علىذلك فيقول : ( وأجمعوا أنهم لا يتنفسون نفسا ، ولا يطرفون طرفة ولا يتحركون حركة إلا بقوة يحدثها الله تعالى فيهم واستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ولا يوجد الفعل إلا بها ) (1) .

     وفهم الاستطاعة على هذا النحو يبطل وصف الإنسان بأن له قوة مستقلة يفعل بها ما يشاء مما يوحى بإمكانية حدوث فعل خارج عن قضاء الله وقدره ، ولذلك فالاستطاعة ليست محدثة للفعل لأن الخالق هو الله وحده وإن كانت الاستطاعة مكتسبة للإنسان .

وقد ذم المحاسبى إضافة العمل إلى النفس على سبيل الكبر ونسيان ــــــــــــــــــــــــ

1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 63 .

الفضل الذى من الله به على العبد إذ خلقه ووفقه إلى العمل .

   قال له سائل فى ذلك : وكيف لا أضيف الشئ إلى نفسى ولم يعمل ذلك العمل غيرى ، ولو لم أعلم أنى أنا الذى عملته ما عددته نعمة ولا رجوت ثوابه من الله عز وجل ؟

    فأجابه المحاسبى بأنه ليس من العجب علمك بما عملت ولكن بالإضافة إلى نفسك بالحمد لها ونسيان منة المولى بذلك ، فأما إذا علمت أن ذلك كان بمنة الله عز وجل ، وأن نفسك لو تركتها ومحبتها لركنت إلى خلاف ذلك فتفرد الله بالمـنة فـى ذلـك ، فلسـت معجـبا (1) .

    ويفرق المحاسبى بين معرفة العبد أن العمل تم باستطاعته ، وبين إضافة الفضل فى هذه الاستطاعة إلى نفسه وحمده عليها فيقول : ( معرفتك بأنك عملت العمل بالاستطاعة معرفة قائمة فى الطبع بالاضطرار لا تقدر أن تجحد أنك عملته ولا تحتاج إلى ذلك ولا مخاطبة نفسك به  ولكنك مع ذلك تتناسى فلا تنظر فيه إلى منة الله عز وجل إذ وهبك القدرة على العمل والطاعة ، فلو كان الله عز وجل لم يمن عليك بشئ من ذلك ، أكنت تقوى عليه أو ترى لنفسك من القدرة فى القوة والاستطاعة على إنفاذه ؟ ) (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

 1- الرعاية ص 271 باب لإضافة العمل إلى النفس  .

 2- السابق ص 271 .

    وفى إثبات الاستطاعة مخلوقة لله والعود بالفضل فيها إلى الله لا إلى شئ سواه ، ما قاله الله فى كتابه يوم حنين لأصحاب محمـد صلى اللـه عليه وسلـم وهم خير عصابة على وجه الأرض : { ويوم حنين إذ أعجبتكـم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضـاقت عليكم الأرض بما رحبت ثـم وليتم مدبـرين } (1) .

    وذلك أن قائلا منهم قال : ( لن نغلب اليوم من قلة ) فلما أعجبوا بكثرتهم واتكلوا على قوتهم ونسوا الله عز وجل فى ذلك ، رفع الله  فى ذلك الوقت النصر عنهم ليعلمهم أن كثرتهم لا تغنى عنهم شيئا  وأن الله عز وجل الناصر الغالب لهم على عدوهم لا عددهم ، ثم عطف الله عـز وجـل عليهم بالنصر إكرامـا لنبيـه صلـى اللـه عليـه وسلـم  ولهم ونصرا لدينه (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التوبة / 25 .

2- انظر فى غزوة حنين : مغازى الواقدى حـ 3 ص 885 ، طبقات ابن سعد     حـ 2 ص 108 ، وتاريخ الطبرى حـ 3 ص71 وسيرة ابن هشام حـ 2 ص 437 والكامل لابن عدى حـ 2 ص 135 وانظر صحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، باب فى غزوة حنين حـ 5 ص 166 ، 167 ، والمستدرك للحاكـم  حـ 3 ص 327  والمسند لأحمد بن حنبل حـ 1 ص 207 ، وانظـرالرعاية لحقـوق اللـه للمحاسبى   ص 272 ، 273 .

    قال ابن خفيف :

   ( هذا معتقدى ومعتقد الأئمة السادة والعلماء القادة الذين قبلى وفى زمانى من أهل السنة والجماعة ) (1) .

     فذكر فى بيان الاستطاعة :

   ( ويعتقـد أن الأفعـال لله تعالى لا للخلـق والاكتساب للخلق  والاكتساب خلق اللـه فلا خلـق لهـم ) (2) .

     وبيان ذلك أن الله تعالى هو المعطى ، يعطى من يشاء ما يشاء ولا يعطى لمن لا يشاء ، فالأفعال لله والكسب للعبيد فكل ما يصدر عن العبد من طاعة أو معصية ، فاللـه يخلقها بتمامها ، ولكن صورة الكسب للعبد ، والكسب أيضا مخلوق من الله تعالى لا من خلق العبد ، فليست للعبد قدرة على خلق شئ قط ولا يكون أبدا (3) .

     أما موقع الاستطاعة من الفعل فيقول فيها :

  ( ويعتقد أن الاستطاعة والقدرة مع الفعل ، أى حينما يشتغل   العبد به ويفعلـه يهبه الله القدرة ، وأنه يخلق هذا الفعل            أيضا ، وذلك أن القدرة له قبـل أن ينشغـل العبـد به ــــــــــــــــــــــــ

1- سيرة الشيخ الكبير أبى عبد الله ابن خفيف ص 342 .

2- السابق ص 349 .

2- السابق ص 349 .

ويعتقد أن الله تعالـى لا يجبـر عباده على معصيته ) (1) .

    وهذا التصور للاستطاعة البشرية الحادثة يدل على أن أفعال العباد التى بها صاروا مطيعين أو عصاة مخلوقة لله تعالى ، وأن الله منفرد بالخلق والإيجاد كما قال تعالى : { الله خالق كل شئ } (2) .

    وأوائل الصوفية لا يعتبرون الاستطاعة البشرية هى الأعضاء والجوارح بل هى ما يرد من القوة على الأعضاء السليمة ، فهى ليست قوة أو ملكة دائمة فى النفس الإنسانية .

   يقول الكلاباذى : ( ولو كانت الاستطاعة هى الأعضاء السليمة لاستــوى فى الفعل كـل ذى أعضاء سليمة ، فلما رأينا ذوى أعضاء سليمة ولم نر أفعالهم ، ثبت أن الاستطاعة ما يرد من القوة على الأعضـاء السليمة ) (3) .

   وتلك القوة متفاضلة لديهم فى الزيادة والنقصان وفى وقت دون وقت ، ويستدل الكلاباذى على أن لكل فعل استطاعة يخلقها الله عز وجل فى العبد يفعل بها هذا الفعل الذى خلقت من أجله ، وأنها لا تبقى بعده ولا تصلح لغيره مـن الأفعـال بقـوله تعـالى فى قصة موسى ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 356 ، 357 .

2- الرعد / 18 .

3- التعرف ص 63 .

عن العبـد الصالح : { إنك لــن تستطيع معـى صبـرا } (1) .

   ومعلوم أن ثمة استطاعات لأفعال أخرى كالتى يقـوم بها موسى عليه السلام فى هذا الوقت ، فالإنسان مستطيع بالنسبة لفعل عاجز بالنسبة لغيره ، ويستطيع بالنسبة لفعل ما فى وقت عجز عنه فى وقت آخر .

    ومن ثم فاستطاعة الإنسان ليست قوة أو قدرة ذاتيـة مستقلة ومصاحبة له طيلة حياته (2) .

   فالإنسان ليس محدثا لفعله أو خالقا له بل فعله مخلوق لله ، ويقتصر دورالاستطاعة البشرية إيزاء الفعل المخلوق لله على اكتسابه فقط  وبذلك يتوافق مفهوم الاستطاعة ودورها مع مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية المتقدم وإفراد الله بالخلق والأمر .

    والكسب ليس منسوبا للعلل الطبيعية وإنما هو للفاعلية الإنسانية فقط حيث هو مناط التكليف والثواب والعقاب ، ولما كانت الطبيعات غير مكلفة أو محاسبة فليس لديها اختيار أو استطاعة ، وخلق الله عز وجل لأفعال الإنسان الخلقية لا يتعارض مع الأمر والنهى والثواب والعقاب فى الآخرة ، بل  يتوافق معه لأن الإنسان لا يكتسب من الأفعال إلا ما يختاره هو اختيارا حرا ، ومن ثم فهو لا يجازى على ذات الفعل لأن ــــــــــــــــــــــــ

1- الكهف /66 .

2- السابق ص 64

ذلك من خلق الله وإنما يجازى على المعصية الخلقية  للفعل المكتسب    أو على الطاعة الخلقية المبنية على الاختيار والنية والقصد من حيث كونه خيرا أو شرا حسنا أوقبحا .

   والحكم بالحسن والقبح للفعل يبنى على أنه نتيجة لاختيار العبد  وليس نتيجة لخلق الله لهما ، فإن وافق الشرع كان خيرا وإن خالفه كان شرا ، فعلة كون الفعل خيرا أوشرا هو الاختيار الإنسانى ، أما علة حدوث الفعل بعد أن لم يقع بصرف النظر عن كونه خيرا أو شرا فهـى خلق الله عـز وجـل مـن ناحيـة وخلقه لصفات الإنسان المكتسبة له بناء على اختياره من ناحية أخرى .

   ومن ثم يقرر الكلاباذى أن أوائل الصوفية أجمعوا على أن لهم أفعالا وأكسابا على الحقيقة هم بها مثابون وعليها معاقبون ولذلك جاء الأمر والنهى (1) .

    ويكاد يفهم الكلاباذى الاكتساب بمفهوم الأشاعرة له حتى يمكن القول : إنه يبدو متكلما نحو هذه المسألة أكثر من كونه صوفيا ، ودليل ذلك قوله : ( إن معنى الاكتساب أن يفعل بقوة محدثة ) (2) .

    وقد حاول الأشعرى فى هذا المجال التوفيق بين أن يحدث ــــــــــــــــــــــــ 

 1- السابق ص 64 .

 2- السابق ص 64  .

الفعل بقدرة الله تعالى وفاعليته خلقا وإبداعا مع نسبة الفعل بوجه ما إلى الاستطاعة البشرية حتى يوجب ذلك على العبد المسئولية والجزاء .

  • شكل يوضح الفرق بين مذهب أوائل الصوفية ومذهب الأشعرى فى مسألة الكسب

 

أولا : مذهب أوئل الصوفية :

 

                                                        نجد الخير

 

    الإرادة                 الاستطاعة                     

 

                                                        نجد الشـر

 

 

( الاستطاعة صالحة للضدين من الأفعال بين الخير والشر )

 

ثانيا : مذهب الأشعرى :

                                                                       نجد الخير

 

                                      الاستطاعة                        

 

  الإرادة                 

         

                                               الاستطاعة

                            

                                                                       نجد الشـر

 

 

( الاستطاعة صالحة لواحد من الفعلين فقط إما الخير وإما الشر )

   وملخـص هــذه المحاولة الفكـرية أن الله حين يرى من العبد عزما بالاستطاعة البشرية التى يقتصر دورها على اكتساب الفعل المخلوق .

     فدور الاستطاعة فى فعلها ليس فى إحداثه من عدم  ، أى خلقه وإيجاده وإنما هو فى اكتساب الفعل الذى يخلقه الله عز وجل للعبد حالة اختياره وعزمه وتصميمه عليه ، من أجل ذلك أصر الأشعرى على أن تكون الاستطاعة مع الفعل للفعل لا تسبق الفعل ولا تبقى بعده (1) .      

      إن دور المسئولية الإنسانية عند أوائل الصوفية يكمن فى امتثال الإنسان الطاعة فى الوقت الذى كان فيه مستطيعا لاكتساب المعصية والعكس كذلك ، فالاستطاعة عندهم مجردة وصالحة للضدين من الأفعال خيرا كان أو شرا ، أما الأشعرى فالاستطاعة عنده يخلقها الله  لا تصلح إلا لفعل واحد ، وذلك عند إرادة  العبد للخير أو الشر فهى صالحة للخير فقط أو الشر فقط وهذا فيه شبه من مذهب الجبرية .

   ويذكر الكلاباذى فى اعتقاد أوائل الصوفية ، أنهم مختارون لاكتسابهم مريدون له وليسوا بمحمولين عليه ولا مجبرين ولا  مستكرهين له (2) .

    ولكن هذا الاختيار ليس على التفويض كليا أزليا من الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع ص 72  .

2- التعرف السابق ص 64 .

للإنسان يفعل به ما يشاء ، بل هو أمر يخلقه الله عز وجل فى    الإنسان إبان الفعل لينتفى به الإكراه والجبر والضرورة عن الإرادة   لحظة الاختيار .

     يقول الكلاباذى : ( ومعنى قولنا مختارون : أن اللـه تعالى خلق لنا اختيارا فانتفى الإكراه فينا وليـس ذلك على التفويض ) (1) .

     ثم يورد قول سهل بن عبد الله التسترى : ( إن الله لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين ) (2) .

     ومن ثم فإن الله لم يجبر عبدا على الاختيار ولو كان إلى الطاعة  فهو سبحانه يمد المؤمن بعد اختياره للإيمان والطاعة وبعد رفضه للكفر والمعصية يمده بالاستطاعة الصالحة لما يريد ويعينه على ذلك .

     كذلك يفعل مع الكافر حيث يمده ويخلق له الأفعال صلحة للكفر والإيمان كما قال سبحانه وتعالى :

     { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن     يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها   وسنجـزى الشاكرين  } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 64 .

2- السابق ص 64 .

3- آل عمران /145 .

      ومما يجدر ذكره أن التسترى ينفرد عن سائر الصوفية فى عصره فى فهم الاستطاعة البشرية بمعنى زائد ، حيث يقرر أنها قبل الفعل وأثناؤه وبعده ، ولكنه مع ذلك  يؤكد عدم استقلال الاستطاعة البشرية عن الفاعلية الإلهية ، وذلك لأن الاستطاعة تكون خاضعة للإرادة الإلهية  أثناء الفعل .

   ورأى التسترى فى الاستطاعة ينطوى على عمق سببه حرصه على إثبات المسئولية الخلقية للإنسان ، وفى نفس الوقت إثبات حدوث الفعل بخلق الله عز وجل .

     وقد عبر الدكتور كمال جعفر عن هذا العمق بأن الاستطاعة الفعلية ضرورية للفعل قبل الفعل بواجبه نحو ربه ، وهى ضرورية أيضا بعد الفعل من حيث القدرة على الشكر إذا كان العمل من أعمال الطاعة   أو التوبة والاستغفار إذا لم يكن كذلك (1) .

    ومعنى ذلك أن الاستطاعة قبل وبعد الفعل باعتبار مقدماته ونتائجه فهى أفعال متتابعة متلاحقة لا تنقطع ، بيد أنه يكون من البدء عقليا     ثم سلوكيا ثم نفسيا أو وجدانيا وهكذا ، ومن ثم فالفعل نفسه لا قيمة له فى حد ذاته بل إن القيمة الحقيقية تنصب على النية والدافع         الذى يسوقه إلى الفعل ، وهما فيما يرى سهل بن عبد الله فى نطاق ــــــــــــــــــــــــ 

 1- من التراث الصوفى ص266 .

الاستطاعة الإنسانية (1) .

     ومن ثم تأكد لنا أن سهلا حينما قال بالاستطاعة قبل وأثناء وبعد الفعل ، لم يكن فى ذلك القول مختلفا من حيث الأصول والنتائج عن سائر مشايخ الصوفية الأوائل حيث لم يجعل الاستطاعة بذلك محدثة للفعل ، وجعل أهمية الفعل منحصـرة فـى الدافـع إليـه ونتائجـه كمـا أشـار إلـى ذلـك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

   ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى فمن كانت هجـرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى اللـه ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصـيبها أو امرأة ينكحها فهجـرته إلى ما هـاجر إليه ) (2) .

     ويرى سهل بن عبد الله أن الحكمة من تزيين الله للإنسان بالاستطاعة هى الابتلاء شأنها فى ذلك شأن الأسباب الخارجية التى تتدخل فى حياة الإنسان ابتلاء واختبارا ، كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل والخير والشر ، والإنسان كما أنه مطالب بأن ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 266 .

2- أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ، باب كيف بدأ الوحى رقم (2) وأخرجه مسلم فى كتاب الإمارة برقم (1906) وأبو داود فى كتاب الطلاق برقم (20) والترمذى فى كتاب فضائل الجهاد برقم (1647) والنســائى فى كتاب الطهارة برقم (75) وابن ماجه فى كتاب الـزهد برقم (4227) .

يصارع قواه الباطنية إذ أملت عليه الانحراف ، كذلك فإنه مطالب بجعل هذه الاستطاعة التى منحه الله إياها آداة يدين بها للإله الواحد (1) .

   ومهما يكن من أمر فما نود تأكيده هو أن مشايخ الصوفية الأوائل  قد أثبتوا للإنسان قدرة أو استطاعة حقيقية لا يمكن إنكارها ولا يؤثر ذلك عندهم فى مدى شمول قدرة الله وإرادته أو الحد منها  ، كما أن تفسير العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية بالكسب هو التفسير الذى ارتضوه مع أهل السنة والجماعة وسيأتى المزيد من التفصيل فى المباحث الآتية .

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر من التراث الصوفـى ص 267 ، وانظـر التصـوف طريقـا وتجـربة ومذهبـا ص 282 .

  • الاثنين PM 05:48
    2021-08-16
  • 1303
Powered by: GateGold