المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416747
يتصفح الموقع حاليا : 294

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629119926642.jpg

مفهــــوم الـــذا ت الإنســــانيـة عنـــد الصـــوفيــــــة

سبق القول بأن أوائل الصوفية يقررون أن كل شئ بقضاء وقدر حتى أفعال العباد ومعاصيهم ، فهى مخلوقه لله سبحانه وتعالى ، وفى هذا الفصل نرى موقفهم من أصالة الحرية فى الذات الإنسانية ، فهل يعنى ما سبق فى الفصل الأول أن الإنسان محمول على فعله مجبر فيه مستكرة عليه أم أن له اختيارا وقدرة يلزم منهما وجود المسألة والحساب فى الدنيا والآخرة ؟!

    هذا ما سنعرفه من مادة البحث فى هذا الفصل ، ونبدأ أولا بعرض نظرة الصوفية الأوائل لمفهوم الذات الإنسانية حتى نتمكن من تحديد مكانة الإنسان عندهم .

    فالصوفية الأوائل كان لهم من الذات الإنسانية موقفا يختلف عن المذاهب الفلسفية والنظرية ، وذلك لأنهم لم يطلبوا معرفة نظرية للنفس على غرار مقصد الفلاسفة ومنهجهم ، بل اهتموا بالمعرفة التى لا غنى عنها للنفس لتقديم السلوك الخلقى واجتياز الطريق إلى الله ، ولذلك كان لهم موقفا أكثر من كونه دراسة ومذهبا لها ، يقول الدكتور أبوالوفا التفتازانى :

     ( إن أسمى غايات التصوف إنما تكمن فى تهذيب النفس وضبط الإرادة على منهج العبودية وإلزام المرء بمكارم الخلاق حتى     ينفسح الطريق أمام السالكين نحو ربهم ليصللوا إلى مرضاته فى   الدنيا والآخرة ) (1) .

     ومع ذلك فإن هذا الموقف ينبثق عندهم بالضرورة من مفهوم خاص للنفس وخصائصها وينبنى عليه تعامل خاص للصوفى مع نفسه ، كما يمكن القول بأن الموقف الصوفى من الذات الإنسانية ظهر منه فى النهاية مذهب خاص فى النفس ، سرى فى كتاباتهم وركزوا عليه باهتمام بالغ    إذ كانت النفس الإنسانية شغلهم الشاغل ومراقبتها دأبهم المستمر .

ــــــــــــــــــــــــ

1- مدخل إلى التصوف الإسلامى د . أبو الوفا التفتازانى ص 9  طبعة  دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة سنة 1983م .

قلت : كلام التفتازانى محمول على الصوفية الأوائل لأنه إذا كانت هذه غاية التصوف عند المعاصرين من الصوفية ، فما موقف الدكتور التفتازانى من الطرق الصوفية بما حوته من أمور الشرك والعكوف على قبور الصالحين فى كل مكان واتشار البدع بكل أشكالها وأنواعها وهو شيخ مشايخ الطرق الصوفية ؟! وما موقفهم من المخالفات الصريحة التى لا يختلف عليها اثنان من وجود الأضرحة والقبور فى المساجد فى المدن والقرى ودعائها وعبادتها بالقلب والسان والجوارح ؟! هل هذه الأفعال توصل إلى مرضاة الله ؟! وهل الغاية من التصوف عند الأوائل هى ما يسعى إليه هؤلاء الجاهلون الذين يعملون لتدمير الإسلام فى قلوب الناس بالإصرار على هذا الشرك وتلك البدع ؟!

 وقد غلب عليهم إثبات جانبين للنفس الإنسانية : 

  • أحدهما : حسن طيب .
  • والآخر : شرير قبيح .

    وهذا المبدأ ينبثق عندهم من قوله تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (1)

    ولكن يبدو أن عناية الأوائل بجانب الفجور والهوى ومكمن الشهوات فى النفس كان أعظم من عنايتهم بجانب التقوى حتى يمكن القول إن بعضهم تناسوا هذا الجانب وتجاهلوه ، وليس ذلك من قبيل الحط من شأن النفس وطبيعتها والإجحاف بما فيها من خير ، ولكن من قبيل البعد عن مزالق الغرور وبقصد إنكار الذات والرجوع بالفضل كله لله عز وجل ، ولذلك بين القشيرى مراد الصوفية بالنفس فى قوله : 

    ( فهم إنما أرادوا بالنفس ما كان معلولا من أوصاف العباد ومذموما من أخلاقهم وأفعالهم ) (2) .

ـــــــــــــــــــــــ

1- الشمس / 8 1 وانظر تاريخ التصوف الإسلامى للدكتور قاسم غنى ص421 ترجمه عن الفارسية صادق نشأت ، طبعة النهضة المصرية القاهرة سنة 1390هـ .

2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 44 لاشك أن النفس المذكورة فى القرآن وصفت بأنها مطمئنة تارة ولوامة تارة وأمارة بالسوء تارة أخرى فليست كلها شر وإن كان أوائل الصوفية يلحقون النفس المطمئنة بالروح الممثلة لجانب الخير إلا أن الالتزام بالنص القرآنى أولى .

ويصور الهجويرى النفس البشرية على أنها حيوان دنىء  يجب على الصوفى أن يحذر منه فيقول :

     ( النفس كلب باغ وجلد الكلب لا يطهر بالدباغ ) (1) .

   ولقد عرض الدكتور كمال جعفر مفهوم النفس عند سهل بن عبد الله التسترى باعتباره معبرا عن مذهب أغلب الصوفية فى القرن الثالث الهجرى ، بل يعتبر مذهبه تفسير للمبدأ الأساسى الذى فهم معظم الصوفية بعده الذات الإنسانية من خلاله ، فهو يقرر أن مصدر الخير فى الإنسان هو روحه ومصدر الشر والهوى نفسه ، وكل منهما ينقسم إلى مراتب ، ولا يعنى ذلك انقسام الذات الإنسانية ، بل هى ذات واحدة بدرجات متعددة ، فالروح عليا وسفلى وأسمى نقطة فــى الروح يسميها   الروح النورى ذات الأصل الإلهى المبـاشر ، وأسفل نقطة فى الروح يمنحها هذا الصوفى يسميها تسمية غريبة وهى نفس الروح أى النقطة التى تنتهى عندها الروح وتبدأ بعدها أوصاف النفس (2) .

   وتعتبر النفس العليا هى حلقة الاتصال بين الروح وبين النفس الحيوانية السفلى وهى مأوى الميول الحيوانية والشيطانية التى تظهر فى شهوة البطن والفرج واللهو واللعب ، والميول السحرية الإبليسية التى تظهر فى

ــــــــــــــــــــــــ

1- كشف المحجوب للهجويرى ص 258  .

2- من قضايا الفكر الإسلامى انظر تفريق بين مسرة بين النفس والروح ص 326 .

المكر والخداع والاستعلاء والاستكبار (1) .

    ومجاهدة أوائل الصوفية لأنفسهم ترمى إلى علاج كل ميل من هذه الميول فمنهاجهم وطرقهم كلها تقوم على أساس عدم الاستجابة لهذه الميول والعمل على تقويمها وعلاجها ومثال ذلك مـا يذكره المحاسبى فى محاسبة النفس وأنها على وجهين :

أحدهما : بالنظر إلى مستقبل الأعمال .

والثانى : بالنظر إلى ما استدبره الإنسان منها .

    فأما المحاسبة فى مستقبل الأعمال فقد دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها علماء الأمة وفى كتاب الله تعالى :

   { واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه } (1) .

   وهذا تحذير منه لنا وتنبيه على ما ذكره تعالى فى كل ما نأتى وما ندع ، واتقائه فى آداء فرائضه واجتناب نواهيه (2) .

  وأما المحاسبة فيما مضى من الأعمال فيستدل لها المحاسبى بقوله تعالى : 

{ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون } (4) .  

ــــــــــــــــــــــــ 

1- السابق ص 326 .

2- البقرة / 235 .

3- الرعاية لحقوق الله لأبى عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى تحقيق د . عبد الحليم محمود ص 48 طبعة دار المعارف .

4- النور / 31  .

ويذكر القشيرى أن المعلولات من أوصاف العبيد على ضربين :

أحدهما : ما يكون كسبا له كمعاصيه ومخالفته .

والثانى : أخلاقه الدنيئة فهى نفسها مذمومة .

     فإذا عالجها العبد ونازلها تنتفى عنه بالمجاهدة ، فالميل الحيوانى يعالج بالإيمان ، والشيطان يعالج بالعباد وكثرة التنفل ، والميل الإبليسى يمكن أن يداوى باللجوء إلى الله وهكذا (1) .

    ومن ثم يرمى الصوفى من عمله إلى القضاء على التنازع المتعدد فى الاتجاهات الكائنة فى ذاته وإيجاد الانسجام الخلقى أو على الأقل التخفيف من الصراع الدائر بين هذين المبدأين بمراتبهما (2) .

   وعندما يتم للإنسان ذلك ينمحى الشر من نفسه ويقضى على الفجور فيها وترقى نفسه وتنتقل من كونها نفسا أمارة بالسوء إلى كونها نفسا لوامــة ثم نفسا مطمئنة ، ويعتبر أوائل الصوفية الأنانية وحب الذات هما مصدر الشر فى الإنسان ، وبالتالى يعتبر مصدر الشر فى الوجود هو إبليس لعنه الله ، وذلك لحبه لذاته وأنانيته والركون إلى نفسه دون الاستعانة بالله أو الخضوع له .

والروح تمثل الانسان بما ينبغى أن يكون ، بينما النفس تمثله بما هو ـــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 262 .

2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 97 .

كائن (1) .

وهدف الصوفى فى الحياة ، هو الانتقال من ذاته الكائنة فى النفس وأنانيتها وفجورها إلى الاستضاءة بالروح باعتبارها المستوى الانسانى الأمثل ومصدر التكريم الانسانى ، ومن ثم فالصوفى يرى كمال الذات الانسانية فى الارتفاع بالخلق القويم والنجاة من أسفل السافلين .

    وهذه الحالة تتمل فى المكانة التى خلق الله آدم عليها عند الامتداد الغيبى للوجود الانسانى فى الزمان حيث أسجد له ملائكته بعد أن نفخ فيه من روحه .

   فالروح هى مبرر تكريم الانسان وارتفاعه إلى هذا القمة السامية بين المخلوقات ، والتى عبر عنها القرآن الكريم بالخلافة فى الأرض ، وقد سجدت  الملائكة تسليما له بالخلافة واستجابة لأمره سبحانه وتعالى وامتنع الشيطان أن يقر له بها ظلما وعلوا ، قال سهل بن عبد الله فى قوله تعالى : { وإذا قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة  قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون }

 (2) .

   قال : إن الله تعالى قبل أن يخلق أدم عليه السلام قال للملائكة : إنى ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 97 .

2- البقرة / 30 .

   جاعل فى الأرض خليفة ، وخلق آدم عليه السلام من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم (1) وأعلمه أن نفسه الأمارة بالسوء أعدى عدو له ، ويستطرد التسترى فيذكر أن الله خلق النفس وجعل فيها خواطر وهمّا وإرادة وأمرها بإدامة الافتقار إليه .

  • فإن أبدى عليها طاعة قالت : أعنى .
  • وإن حركت إلى معصية قالت : اعصمنى .
  • وإن حركت إلى نعمة قالت : أوزعنى .
  • وإن قال لها اصبرى على البلاء قالت : صبرنى .

ـــــــــــــــــــــــ

1- خلق الله آدم عليه السلام من طين مكون من ماء اختلط بالتراب كما قال تعالى   { وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فاقعوا له ساجدين  } ص / 71 ، 72 .

     أما القول بأن آدم عليه السلام خلق من نور محمد من طين العزة فهو باطل لانعدام الدليل وتعارضه مع الأدلة الصحيحة ، وكل ما ورد فى كون النبى صلى الله عليه وسلم هو أول ما خلق الله ، كالحديث الذى يروى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه قال : ( قلت يارسول الله : بأبى أنت وأمى أخبرنى عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ، قال : إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك ياجابر ، ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شئ ) وما فى معناه فهو باطل لا يصح ، انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس ، للعجلونى ص 263 وما بعدها .

ولا يساكن قبلـــه أدنى وسوسة لها دون الرجوع عنها إلى ربه .

   وقد جعل الله طبع النفس فى الأمر ساكنا وفى النهى متحركا  وأمر الإنسان بأن يسكن عند المتحرك ، ويتحرك عند الساكن بلا حـول ولا قوة إلا بالله ، أى لا حول له عن معصيته إلا بعصمته ولا قوة له على طاعته إلا بمعونته (1) .

     ثم أدخل الله الإنسان ممثلا فى آدم عليه السلام وزوجته تجربة لتحقيق الذات إذ خلقه وكيفه على نحو يحقق ذلك ، ليصل إلى أقصى كمال ممكن من خلال محبة الله له ورضــاه عنه ، فأمره بدخول الجنة والأكل منها رغدا حيث شاء ، ونص عليه فى النهى الأكل من الشجرة  التى تسبب له الهلاك .

   { وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } (2) .

    ويفسر التسترى كيف ظهر حب النفس وكان سببا فى الهلكة عندما دبر الانسان لصالحـه فيقول :

     ( فلما دخل الجنة ورأى ما رأى قال : لو خلدنا وإنما لنا أجل

ــــــــــــــــــــــــ

1- تفسير سهل بن عبد الله ص 10 بتصرف .

2- البقرة / 35 .

 

     مضروب إلى غاية معلومة ، فأتاه إبليس من قبل مساكنه قبله بوسوسه نفسه فى ذلك فقال :

     هل أدلك على شجرة الخلد التى تتمناها فى هذه الدار وهى سبب البقاء والخلود وملك لا يبلى ) (1) .

    فكان الشيطان عاملا مساعدا للنفس فى إتمام المعصية وإحداث النسيان .

     ويقول التسترى : ( ألحق الله به وسوسة العدو لسابق علمه فيه وبلوغ تقديره وحكمه العادل عليه ، وأول نسيان وقع فى الجنة نسيان آدم عليـه السـلام وهـو نسيـان عمـد لا نسيـان خطـأ وهو المراد من تركه لعهد الله ) (2) .

     والتسترى يقرر بذلك الامتداد الغيبى للإنسان فى الزمان قبل وجوده فى الحياة الدنيـا وأنه لا يحيا فى الدنيا بمعزل عن السابق أو اللاحق لها فوجوده الوضعى الذى نحسه محصور بين وجودين غيبيين  والعالم المشهود ليس سوى صفحة بين عالمين غيبيين ، وأن الحكمة الإلهية اقتضت ذلك لما سبق فى تقدير الله وعلمه من ابتلائهم واستخلافهم فى الأرض .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 10 .

2- السابق ص 10 .

    قال أبو سعيد الخراز (1) :

    ( إن الله إنما أهبط آدم عليه السلام إلى الدنيا عقوبة ، وجعلها سجنا له حين أخرجه من جواره وصيره إلى دار التعب والاختيار  فمن ملك من أهل الصدق شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل لا له إلا من طريق حق ما خــوله اللــه تعالـى ، وهو مبلى بــه حتى يقوم بالحق فيه ) (2) .

    فالخلافة فوق أنها وظيفة الإنسان الكونية وتحقيقها يمثل الكمال الإنسانى فى إثبات الذات إلا أن الصوفى لا يعمل لتحقيق هذه المكانة الدنيوية فقط وإنما لكونها سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى وهو محبة الله ورضاه ، ولا يكون ذلك عنده إلا باخضاع النفس للروح والخلوص بها من دار الابتلاء إلى دار البقاء فى الآخرة وبهذا يكون تحقيق الذات الإنسانية عند مشايخ الصوفية الأوائل .

ــــــــــــــــــــــــ

1- هو أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز ،  بغدادى النشأة والمنبت ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى ، وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم ، وقيـــل : إنه أول من تكلم فى علم الفناء  ، صحب ذا النون ونظراءه وتوفى سنة 277 هـ وقيل سنة 279 هـ ، انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 117، الرسالة القشيرية حـ 1 ص 276  ومرآة الجنان حـ 2 ص 223 ، تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام حـ 16 ص 22  .

2- الطريق إلى الله أو كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز  ص 33 .

   سئل الجنيد بن محمد عن غاية السائرين فقال :

        ( إنــه الظفــــر بنفوسهــــم ) (1) .  

     وتحقيق الذات الإنسانية بهذا المفهوم يأخذ معنى لدى أوائل الصوفية مخالفا عن نظيره عند الآخرين ، حيث أن تحقيق هذه الذات لا يكون ببروزها ولا يعنى ذلك استقلالها واعتدادها بنفسها ، كما أن ذلك لا يكون بتعقلها للحقائق الكونية واستطالة الانسان فيها ، ولكن تحقيق الذات الإنسانية عند الصوفية يكون بالتحرر مما سوى الله وترك العبد لنفسه فيتحرر من قيودها ويؤدى العبودية على الوجه اللائق ، ولذلك فإن التسترى يشير إلى المعنى الذى يحصل بدخول آدم  إلى الجنة وخروجه منها ، فيذكر أن فعل آدم صار علما وسنة فى ذريته إلى يوم القيامة ، ولم يرد الله تعالى معانى الأكل فى الحقيقة وإنما أراد معانى مساكنه الهمة مع شئ هو غيره .

 فآدم عليه السلام لم يعتصم من الهمة والفعل فى الجنة فلحقه ما لحقه .   من أجل ذلك وكذلك من ادعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظرا إلى هوى نفسه فيه ، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما حل عليه من نفسه ، إلا أن يرحمه فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها ، فأهل الجنة معصمون فيها من التدبير الذى كانوا به فى دار الدنيا لأن آدم لم ــــــــــــــــــــــــــــــ

1- رسائل الجنيد ضمن كتاب التصوف طريقا وتجربة ومذهبا  ص 303 .

يعصم من مساكنة قلبه تدبير نفسه بالخلود (1)  .

    فليس للإنسان عدو أشد من نفسه ، وهو يرى أن البلاء يكمن فى الانفرادية التى هى أصل الأنانية (2) .

    ومن ثم فإن الذات الإنسانية فى مفهوم أوائل الصوفية وجدت فى الدنيا كامتداد لما سبق فى الغيب وتنتقل بعدها إلى خالقها ، كل ذلك للقيام بواجبها فى الدنيا على النحو الذى يرضى الله سبحانه ، فإن فعلت فقد وصلت إلى الكمال فى تحقيق الذات وتحقيق الهدف من وجودها .

    وهذه الحقيقة يقررها أبو سعيد الخراز فى قوله :

    ( فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى ، و كذلك ما خولهم  وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى وخلقوا للإختيار والبلوى فى هذه الدار ) (3) .

    ثم يروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين سمع : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا  } (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله ص11 .

2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 98 .

3- كتاب الصدق ص 33 .

4- الإنسان / 1 .

    قال : ياليتها ما تمت ؟! يعنى قبل قراءة : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } (1) فهمهم عمر وعجز فى التلاء عجزا .

  يقول أبو سعيد : ( ومعنى قول عمر رضى الله عنه ياليتها ما تمت  يعنى لم يخلق حين سمع الله يقول : { لم يكن شيئا مذكورا } وذلك من معرفة عمر رضى الله عنه بواجب حق الله ، وقدر أمره ونهيه وعجز العباد عن القيام به ، وقيام الحجة لله تعالى عليهم عند تقصيرهم  وما تواعدهم به  إذا ضيعوا ) (2) .

* ويمكن أن نلخص ما سبق فى النقاط الآتية :

1- أن الإنسان له وجود غيبى قبل الزمان والمكان .

2- أن الإنسان مستخلف فى الأرض وتحقيـق الذات يكمـن فى طاعــة الله والقيـام بمــا أوجب عليه .

3- أن مصدر الخير فى الإنسان روحه ومصدر الشر نفسه .

4- أن نفسه الأمارة بالسوء أعدى عدو له .

5- أنه فى الجنة معصوم من التدبير الذى كان به فى الدنيا .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الإنسان / 2 .

2-كتاب الصدق ص 33 .

   

 

    وهذا الإجمال يتطلب دراسة الموقف الصوفى لأوائل الصوفية من إمكانية تحقيق الإنسان لدوره الأساسى فى الدنيا وكيف كيفه الله لتحقيقه ؟ مما يدفعنا إلى البحث عن أصالة الحرية فى الذات الإنسانية ومقومات الاختيار فيها وعلاقة الإرادة الإنسانية الحادثة بالإرادة الإلهية المطلقة ، وكيف تتحقق المساءلة ويتم توقيع الجزاء مع عدم المساس  بعدل الله سبحانه وتعالى ؟ وهذا ما سيتضح من الأبحاث الأتية فى هذا الفصل إن شاء الله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • الاثنين PM 04:18
    2021-08-16
  • 2130
Powered by: GateGold