المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416451
يتصفح الموقع حاليا : 168

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1628774106446.jpg

مناقشة الوصول عند الصوفية

مناقشة خرق العادة

لمناقشة خوارق العادة عند الصوفية، يجب أخذ فكرة- ولو موجزة- عن تلك المخلوقات التي ترانا ولا نراها، والتي يجري خبثاؤها من ابن آدم مجرى الدم، هذه المخلوقات هي الجن، وخبثاؤها هم شياطين الجن.

لكن قبل المضي في ذلك، أحب أن أنبه إلى أمر:

يوجد في مجتمعاتنا، كما في كل المجتمعات، متعالمون يدعون العلمية، والفكر العلمي، والأسلوب العلمي في التفكير، وقد يكونون علماء -في اختصاصهم- فعلاً. وإلى جانب هذه الميزة، توجد عند بعضهم ميزة أخرى، هي مقدرتهم على الكتابة بأسلوب قد يكون رائعاً وقد يكون مقبولاً، كما قد يحمل بعضهم ألقاباً علمية عالية. قد يخطر على بال أحد هؤلاء العلميين أن يتكلم عن (الخرافة)، فيكتب مقالةً في جريدة أو مجلة، أو بحثاً في كتاب، يوزع فيه لقب (الخرافة) على كل ما يخالف قناعاته الفكرية التي لم يكلف نفسه بدراستها دراسة علمية عميقة.

ومن جملة ما يقذفونه في زنبيل (الخرافة) الجن وخرق العادة.

هنا، أرجو من القارئ الكريم أن يغلق أذنيه؟ لأنني أريد أن أهمس في أذن هؤلاء (العلميين) همسة صغيرة، فأقول لهم:

1- مرحباً يا علميون (لأن السلام قبل الكلام).

2- من منسياتكم: أساليب البحث العلمي ووسائله تختلف حسب الموضوع المعروض للبحث!

فمثلاً: وسائل البحث العلمي وأساليبه في مسألة فلكية، تختلف كلياً عنها في مسألة كيميائية، وهذه تختلف كلياً عنها في مسألة تاريخية... وهكذا.

وكلها تختلف كلياً عن جلسة الصفا أمام الكأس المفعمة في جو الموسيقى الراقصة في ماخور عام أو خاص.

كذلك البحث العلمي في مسألة الجن وخرق العادة له أساليبه ووسائله الخاصة، التي تختلف كلياً عنها في غيرها، ويمكن لكل من يريد متابعتها أن يتابعها، ليتأكد بنفسه من وجود الجن، ومن حدوث خرق العادة، وبذلك سيعرف أنه كان يغرف من زنبيل الخرافة، عندما كان يظن أن الجن وخرق العادة من الخرافة.

لكنه سيجد -في خوضه هذا البحث- أناساً يخوضون فيه، وقد مسخت الخرافة عقولهم! فهم يعزون كل شيء إلى الجن! ويؤمنون بخوارق لا وجود لها إلا في مخيلاته المريضة، فهم بفهمهم السقيم للجن وخرق العادة، يغرفون أيضاً من زنبيل الخرافة، ولكن من الجانب المقابل وبنهم لا يشبع.

فكلا الأخوين خرَّاف، ولكن ذوي الفهم السقيم في الجن وخرق العادة، هم أخرف من أولئك؛ لأن أكثر ما لا يفهمونه خاضع لسنن الله في خلقه، عدا عما يضخمونه من الأمور العادية.

وعلى كل حال، الجن موجودون، وخرق العادة موجود، وكاتب هذه الكلمات، خرقت أمامه العادة مرات ومرات.

- نعود لأخذ فكرة موجزة عن الجن:

للجن قدرات وخواص مادية وتشريحية وفيزيولوجية ونفسية، تختلف كثيراً عما يقابلها لدى الإنسان، يهمنا منها ما يلي:

1- يستطيعون الترائي للإنسان بأشكال مختلفة، وحجوم تتراوح أطوالها بين ميلليمترات (أو أقل)، وبضعة أمتار لا يستطيعون تجاوزها، وإن استطاعوا فغير كثير، وذلك تبعاً لحجومهم الطبيعية، ولعل الترائي بالحجوم الصغيرة جداً يكون بجزء من أجسامهم.

2- يستطيعون عندما يتراءون ألا يتركوا أحداً من الناس يراهم، إلا من يريدونه أن يراهم.

3- {إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم}، وبذلك يستطيع أن يدغدغ مراكز الحس التي يريد، فيثير البسط والقبض، واللذة والانزعاج، والتجلي الجمالي والتجلي الجلالي، مع العلم أن هذه الإحساسات وأمثالها، لها في الأساس أسباب فيزيولوجية.

4- يستطيعون قطع المسافات بسرعات كبيرة، فقد يقطعون في الثانية الواحدة مسافة تقاس بالكيلو مترات، إن لم يكن أكثر من ذلك.

5- يستطيع الواحد منهم (أو بعضهم) حمل ثقل يعجز عنه عدد من أفراد الإنس.

6- يظهر أن للجن متعة خاصة بالتلهي ببني الإنسان والتلاعب بعقولهم وعواطفهم، وملازمتهم.

بهذه الميزات، وبغيرها، يستطيع شياطين الجن أن يصنعوا لوليهم (العارف) بعض الأعمال الخارقة للعادة.

فقد يأتونه بخبر جديد من بلد بعيد بعض البعد، بعد وقوعه بدقائق، فيخبر به الناس، الذين عندما يتأكدون من وقوعه، يعتبرونه كرامة من كرامات الشيخ.

وقد يوسوسون لإنسان ما، بفكرة ما، ثم يلقونها إلى الشيخ، فيخبره بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.

وقد يلقي الشيطان إلى الشيخ أسماء أشخاص لا يعرفهم، فينبئهم بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.

وقد يكون الشيخ في بلد ما، في وقت ما، ويتمثل به شيطان في بلد آخر في نفس الوقت، وقد يتمثل به شيطان ثالث في بلد ثالث في نفس الوقت أيضاً، فيرى أهل كل بلد أن الشيخ كان عندهم في ذلك الوقت! دون أن يعرفوا -لجهلهم- أنها خدعة شياطين! ويعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.

وقد يتراءى شيطان، أو شياطين، أمام الشيخ، بشكل شخص، أو أشخاص غائبين أو أموات، فيعدها الشيخ كرامة له.

وقد يتراءى شيطان الشيخ أمام الشيخ بشكل ما ويوهمه أنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد غيره من الأنبياء.

وقد يتراءى شيطان أو أكثر، أمام الشيخ بشكل أشباح تتطاير، فيظنهم من الملائكة أو من أرواح الأولياء.

وقد يحمل الشيطان وليه العارف في الهواء وينقله من مكان إلى مكان وقد يمشي به على سطح الماء.

...وقد.. وقد.. إلى آخر ما يسمونه -جهلاً أو افتراءً- الكرامات! والتي لا تزيد عن كونها ألاعيب شياطين يخدعون بها وليهم العارف، ثم يخدعون به وبها الآخرين.

وهنا نصطدم مع هؤلاء القوم، بفهمهم السقيم للغة العربية، وبالتالي، لنصوص الحديث الشريف، ومن قبله القرآن الكريم.

إنهم، في رؤيتهم لما يتوهمونه أنه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يظنون أنهم يرونه حقاً، ويحتجون لذلك بالحديث الشريف: {من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي}.

والحديث واضح البيان، لا لبس فيه ولا غموض! فهو يقول: {من رآني...}، والفرق كبير جداً بين هذا القول وبين: (من رأى شخصاً يدعي أنه أنا..)، أو: (من رأى شخصاً وظن أنه أنا..)، أو: (من رأى شخصاً وقيل له: إنه أنا..)! الفرق كبير جداً بين هذه العبارات وبين عبارة الحديث: {من رآني...}، التي تعني رؤيته صلى الله عليه وسلم، بشكله وصورته التي كان عليهما، بل وزيه أيضاً.

ويقول في الحديث أيضاً: {..فإن الشيطان لا يتمثل بي}، وفي رواية: {لا يتمثل بصورتي}، والمعنى واحد. وهنا أيضاً الفرق كبير جداً بين هذا القول، وبين قوله لو قال: (..فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا)، أو: (لا يستطيع شيطان أن يقول عن شيطان آخر: إنه أنا)، أو: (لا يستطيع أحد أن يُخدع فيتوهم شيطاناً يراه أنه أنا)!

إن عبارة {فإن الشيطان لا يتمثل بي}تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول وشكله وزيه التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في حياته، بحيث لو رآه أي إنسان من أصحابه لعرفه أنه هو.

وقد يتساءل متسائل: كيف نعرف إن كان من نراه في المنام هو الرسول أم لا؟ الجواب: تورد كتب الحديث وكتب الشمائل أوصافه صلى الله عليه وسلم، فمن رأى في منامه إنساناً تجتمع فيه كل تلك الأوصاف، دون استثناء، فهناك احتمال أن يكون هذا الذي رآه هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأقول هناك احتمال أن يكون هو الرسول؛ لأن الأوصاف المذكورة هي أوصاف إجمالية لا تفصيلية، وغير دقيقة، حيث يمكن أن نراها مجتمعة في عشرات الأشخاص الذين يختلفون عن بعضهم بدقائق صورهم وتفاصيلها.

وفي قصة جماعة الحرم عبرة لأولي النهى، فقد رأى عشرات منهم الرسول في المنام، وأخبرهم أن محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر، ولا يخلو أن يكون بعضهم على علم بأوصاف الرسول الموجودة في الكتب، وأن يكون رآه حسب تلك الأوصاف المجملة، ثم كانت النتيجة أن القحطاني لم يكن المهدي، وبالتالي كانت كل تلك الرؤى من وسوسات الشياطين، أو من حديث النفس.

إن في هذه الحادثة برهان عملي ساطع على أن الشيطان يدعي أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن معنى الحديث: {لا يتمثل بي}، أي: لا يظهر بصورته وشكله الكاملين اللذين كان صلى الله عليه وسلم عليهما في حياته.

كما يجب أن لا ننسى العدد الوافر من الأولياء العارفين الذين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم هم (المهدي المنتظر)، ثم كانت النتيجة أن الذي رأوه كان إما وسوسة شيطان، أو حديث نفس، أو كشفاً إن كان الرائي من المكاشفين.

هذا بالنسبة للرؤية في المنام أو في الجذبة.

أما ما يقوله المتصوفة من الرؤية في اليقظة فهذا واضح البطلان والضلال، كما هو واضح أن المترائي هو شيطان يضحك على أذقانهم، ويسلبهم عقولهم وإيمانهم، ويضل بهم غيرهم.

إن الشيطان يدعي أنه الله، فهل كثير عليه إن ادعى أنه الرسول؟

وهناك خارقة يؤخذ بها المخدوعون أكثر من غيرها، هي ضرب الشيش في الخدَّين والبطن حيث الأمعاء، وفي الجلد، وهي مشتهرة بين أتباع المشيخة الرفاعية والجزولية والعيسوية، يمارسونها في حضراتهم التظاهرية، وهي مثل غيرها لا تزيد عن كونها شيطانيات. بدليل أنها تحصل مع الكفرة، بل يحصل منهم ما هو أكبر منها، وفي فصل لاحق سنرى شيئاً من هذا. ولعله من الجائز أن يكون تفسير هذه الخارقة كما يلي:

1- لجلد الإنسان خاصة مطاطية، وكذلك الخدان والبطن والأمعاء، وهذا مشاهد ملموس.

ب- إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو بذلك يستطيع التخلل في أي مكان من الجسم.

ولعله يجد بذلك متعة خاصة نجهل طبيعتها.

وتتم العملية حسب الآتي:

يوجه الشيطان يد الشخص المتخلل فيه، ليضع الشيش في المكان المناسب من البطن، وعندما يضعه على الجلد، يباعد الجني بين خلايا النسيج الجلدي، وما تحته، بمقدار ما يمر الشيش بسلام دون أن يمزق شيئاً من الخلايا، وعندما يصل الشيش إلى الأمعاء (في المكان المناسب) يباعد الشيطان بينها، كما يباعد بين خلايا النسيج الذي يضمها بمقدار ما يمر الشيش بسلام أيضاً.. وهكذا.. يساعده على ذلك الخاصة المطاطية في هذه الأجزاء من الجسم، وسرعة الحركة التي يمتاز بها الجن.

ومثل هذا يحدث في الخدين وفي الجلد.

لكن مهما كانت الدقة التي ينفذ بها الجن هذه العملية بالغة، فلا بد من تمزق بعض الخلايا، مما يسبب سيلان قطيرة أو قطيرات من الدم عند سحب الشيش.

كما يبقى المكان الذي حصلت فيه العملية أحمر بعض الشيء لمدة ما، بسبب الضغط التي عانته الأنسجة.

- طبعاً، هذا تفسير ظني، أما الحق، فيجب أن تخضع هذه الظاهرة ومثيلاتها إلى دراسة علمية جادة. وستكون وسيلة لاكتشاف مساحات مجهولة من النفس الإنسانية، بل والحيوانية أيضاً، كما ستكون وسيلة لاكتشاف وظائف فيزيولوجية مثيرة.

أما عملية قطع العنق بالسيف، أو قطع اليد، وما شابهها، فهي خداع بصري يقوم به أيضاً خبثاء الجن، وكذلك ضرب الرصاص.

وهناك عملية الدخول في النار التي تكاد تنعدم عند متصوفة المسلمين، بينما توجد بين كهنة الهنادكة، وهي عملية يقوم بها الجن أيضاً، يساعدهم عليها سرعتهم الهائلة، وقوتهم على الحمل، ومقدرتهم على الترائي بشكل الإنسان، وأن النار العادية لا تؤثر فيهم.

كما يساعدهم أيضاً، خاصة بصرية عند الإنسان، فالعين الإنسانية لا تحس بما يحدث أمامها في مدة تقل عن عُشر الثانية.

تحدث العملية بأن يحمل شياطين الجن الفقير الذي يتظاهر بالعزم على دخول النار وتنقله إلى مكان آخر، ثم يتراءى شيطان مكانه بشكله.

تتم هاتان العمليتان في مدة تقل كثيراً عن عُشر الثانية، فلا يرى أحد من الناس الحاضرين شيئاً مما حدث، ويرون الفقير ما زال في مكانه يستعد للدخول في النار! يدخل الجني المترائي بشكل الفقير إلى النار، ويخرج منها، دون أن تؤذيه طبعاً، وبعد خروجه، يعيدون الفقير، ويتلاشى الجني بنفس السرعة السابقة، ولا يرى أحد من الناس الحاضرين إلا أن الفقير دخل في النار وخرج منها سالماً، بل والفقير نفسه، قد لا يحس بما حدث، وقد يظن أنه دخل النار في حالة غيبوبة.

* الخلاصة:

خوارق الصوفية، التي يسمونها كرامات، كلها ألاعيب شيطانية، وهي نفس الخوارق السحرية، ونفس الخوارق الكهانية التي تحدث في كل الوثنيات.

وللعلم: تعلم السحر يتم بالشرك الكامل في الشيخ الساحر (تماماً كالشرك في الشيخ الصوفي)، وبالقيام بنفس الرياضة الصوفية، وخاصة ما يسمونه (الذكر)، والذي يسمونه في السحر (القَسَم) أو (الطلسم) وليس هنا مكان هذا البحث.

إن الفرق بين الصوفية والكهانة والسحر هو الادعاء فقط، فالصوفي والكاهن يدعيان بغرور السير إلى الله والعروج إليه، والساحر أصدقهم. والصوفي والكاهن غايتهما الجذبة، والساحر يقف عند خرق العادة، وإذا أراد الجذبة اختصر الطريق إليها بتناول شيء من الحشيش أو الأفيون وما شابههما، وقد يصل إلى الجذبة بالرياضة.

إن هذه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها (كرامات) لا تكفي لدفع الشيخ وأتباعه إلى مستنقع الكفر؟ إلى وحدة الوجود! لأن الأمر يحتاج إلى تمثيليات من نوع آخر، تظهر فيها مناظر غريبة ذات أبعاد كبيرة، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها لصغر أجسامهم بالنسبة لها! لذلك كان لا بد من خواص الجذبة ليستطيعوا تنفيذ تلك التمثيليات. فلننتقل إلى مناقشة الجذبة وخواصها.

وقبل الانتقال، نذكر أن الكرامات الصحيحة موجودة، لكن الطريق إليها هو طريق الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تظهر أكثر ما تظهر في الانتصارات العجيبة التي تشبه الأساطير، وفي الأخلاق الكريمة والسلوك العادل المتسامح مع المسلم ومع غير المسلم، والدعوة إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق بصراحة تامة مع المقدرة على الاحتفاظ بصداقة الذي يدعونهم وينهونهم... وهكذا انتشر الإسلام.

مع ملحوظة هامة، هي أن الذي ينتهج النهج الصحيح في الإسلام، لا يعني أن كل خرق عادة يحصل أمامه هو كرامة، وعلينا أن نتذكر، بل علينا ألا ننسى الآية: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الأعراف:16]، وهذا يعني أن الخوارق التي تحصل أمام الذي ينتهج نهج الإسلام الصحيح، كما كان ينتهجه سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم، هذه الخوارق سيكون أكثرها من الشيطانيات، وأقلها، إن لم يكن أندرها، من الكرامات الحقيقية.

 

 

الفصل الثاني
مناقشة الجذبة وأحلامها

 

لمحة عن المخدرات:

من المفيد، قبل الدخول في مناقشة الجذبة، أن نلقي نظرة سريعة على مفعول المخدرات: الحشيش والأفيون والكوكائين وعقار الهلوسة (إل، إس، دي، 25) وغيرها.

* من تأثير الحشيش:-

يقول الدكتور محمد رفعت (نقلاً عن أحد الباحثين يصف تجربته مع الحشيش):

...أحسست كأن جسدي يتحلل أو يذوب.. بدوت وكأنني شفاف تماماً.

جفون عيني تطول إلى ما لا نهاية، هذه الجفون ما لها تسقط وحدها هكذا ككرات من ذهب، سرعتها تثيرني، ألوان جميلة تحيط بي، هل أنا أنظر في منظار سحري صغير يقدم تلك الأشكال الزخرفية الملونة...

...إن سمعي أصبح فجأة حاداً تماماً.. إنني أستمع إلى صوت الألوان، كنت لا أستطيع أن أسمع للألوان صوتاً من قبل.. الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء لها موجات صوتية تصلني وأميزها بوضوح([1]).. اهـ.

- هنا نسأل الأولياء الذين ذاقوا الفناءات وتحققوا بالأسماء، أليست هذه الرؤى، وما بعدها، هي صور من مكاشفاتهم؟

ويقول نفسه:

والحشاش قد يقنع نفسه بقدرته على إيجاد حل لكل مشكلة، وهذا طبعاً نتيجة ما يعتريه من هبوط في المراكز العصبية العليا، ومنها حاسة التقييم والتقدير، فيظل يهوم في آفاق وتصورات كلها سراب خادع وضلال مبين([2])...اهـ.

- لنتذكر هنا قول الصوفية عن كشوفهم: إنها حق اليقين وعينه ونوره، وعن أنفسهم: إنهم العارفون الذين عرفوا الأمور على ما هي عليه...

ويقول: عندما يتعاطى الشخص الحشيش لأول مرة فإنه يشعر بهذه الأعراض: ارتعاشات عضلية في جسمه...إحساسات جسمية خاطئة أو وهمية...مثل الشعور بطول في الأطراف...اضطراب في الحواس، خصوصاً السمع والبصر([3]). اهـ.

- لنتذكر وصف عبد العزيز الدباغ لمبدأ حاله بالجذبة.

ويقول: الآثار النفسية لإدمان تعاطي الحشيش: اضطراب الحواس، خصوصاً السمع والبصر، فتصبح الحواس حادة للغاية، إلا أن المدركات كلها تبدو في صورة مغايرة ومحرفة، سواء من ناحية الشكل أو اللون، كما يعاني المدمن من الهلاوس...فيرى أشكالاً ويسمع أصواتاً ليس لها وجود مادي، كما يعاني من خداع الحواس...فإذا رأى حبلاً ظنه أفعى، وإذا رأى كلباً خيل إليه أنه أسد...وهكذا...

واختلال إدراك الإنسان للزمان والمكان، فيبطئ إحساس الإنسان بالزمن...

فإذا قضى دقائق في عمل ما، يخيل إليه أنه قضى فيه ساعات طوال...أما بالنسبة للمسافات فإنها تطول جداً.. فإذا سار عشرة أمتار خيل إليه أنه قطع عدة كيلو مترات..

اضطرابات في التفكير تؤدي إلى اختلال في حكم الشخص على الأمور:

بطء شديد في عمليات التفكير بسبب التخدير الذي يشمل قشرة المخ، ويدفع الإنسان إلى عدم الاكتراث بما حوله، ويفقد المبادأة.. كما يعطل مراكز الضبط والتحكم وتمحيص الأمور...مما يجعل المتعاطي قابلاً للإيحاء...

اضطرابات وجدانية، فيشعر المتعاطي بشعور زائف بالسعادة الوهمية...وإحساس بالرضا والراحة.. يصل أحياناً إلى درجة النشوة. إلا أن هذه السعادة الزائفة تحمل في طياتها وسائل التدمير لشخصية الإنسان([4]). اهـ.

وسئل حشاش: بماذا تحس وأنت تحشش؟ فأجاب:

أحس بفرح، وربما بحزن، وقد أضحك كثيراً، أو أبكي كثيراً، حسب الحالة التي تجلبها الحشيشة، فليست كل الحالات سواء، ولكنني أشعر بحاجة إلى الهدوء...مرة شعرت بأنني أسابق السيارة المنطلقة في الشارع، بينما كنت جالساً في مكاني! والحالات مختلفة على كل حال([5]). اهـ.

- نعيد نفس السؤال موجهاً للأولياء المكاشفين: أليس مثل هذا ما يشاهدونه في مكاشفاتهم؟ وخاصة الفرح والحزن، اللذين يسمونهما (البسط والقبض)، وكذلك طول المسافات، وطول الزمن، والشعور بالسعادة، والوصول أحياناً إلى درجة النشوة؟...

* من تأثير الكوكائين:-

يقول الدكتور محمد رفعت:

ولعل أغرب مظاهر الشذوذ الحيوي في جسم المدمن، الهلوسة التي تصيب جلد مدمن الكوكائين... إلى أن المدمن هنا يحس وكأن آلاف القمل والبراغيث وشتى أنواع الهوام تنهش في جلده، وتجري تحت جلده مباشرة([6])...

والكاثين ضئيل الأثر، ويشبه الكوكائين في إحداثه نوعاً من الخدر أو التنميل([7])...

ويقول أحد الباحثين (دكتور لوغر):

يشعر مدمن الكوكائين بآلاف الهوام تدب على جلده وداخل جسمه، ويحس بلدغات مئات القمل والبق و...إلخ. وبظاهرة حسية غريبة ما اعتادت المخدرات الأخرى توليدها، تبلغ هذه الظاهرة حداً يرى فيه المدمن حشرات لا وجود لها على جلده فيأخذها متوهماً ويحبسها ويضعها في علبة، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة، ويا لغرابة الأمر... إنه يراها وقد تجسمت أمام عينيه كما لو أنها موجودة فعلاً. وغالباً ما يلاحق مدمن المخدرات هذه الطفيليات المزعجة يبحث عنها على الأبواب وفوق الكراسي وفي الفراش وبين الأظافر وفي جميع أجزاء جسمه وحتى داخل فمه ومنخريه وأذنه. وقد يغدو هذا النمط من الهذيان والهراء (الهلوسة) جماعياً...إذ لا غرابة أن تجد مدمنين اثنين يبحث كل منهما عن هذه الهوام على جلد الآخر مخففاً عنه العذاب على حد اعتقاده([8]).

* الملحوظة:

لننتبه إلى أنه يرى حشرات وقد تجسمت أمام عينيه، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة..

أي يرى ما لا وجود له في الحقيقة؛ وكذلك الرؤى الكشفية.

* من تأثيرات عقار التهليس (L. S. D.25):-

يقول محمد رفعت:

وهذا العقار يعتبر من السموم الكبرى ذات الأثر العميق فيما يتعلق بانتقال المتعاطي من عالم الهلوسة والهذيان، وهم يطلقون عادة على الحالة الجديدة للمريض المدمن اسم (رحلة)، وهذه الرحلة لا يلزمها الكثير من هذا السم الزعاف، إذ يكفي من (200) إلى (400) ميكروغرام.

وبعدها يكون الرحيل إلى سفر يستغرق ثماني ساعات من الزمن يتخيل المريض وكأنها رحلة عمر كامل من الهلوسة والهذيان والتخيلات التي يسودها اللامعقول والإثارة الحسية، والنشاط الحيوي المزعوم، بينما يكون المدمن في واقع الأمر جثة هامدة طيلة السفر بعد الرحيل([9])...

...وتختلف آثار هذا العقار على الإنسان باختلاف شخصيته، وتركيبه النفسي، وكذلك باختلاف الجو العام الذي يتم فيه التعاطي، وهذه بعض الأعراض (لتعاطي 3 ميكروغرام):

زغللة بالعينين، واضطراب في شكل المرئيات، وظهور بعض الأشياء التي لا تحمل أي معنى، كعلامة في الحائط مثلاً، كما لو كانت كلمات مفهومة مثلاً، أو وجه إنسان، أو أي شيء آخر له معنى.

- هلاوس بصرية... أي: رؤية أشياء ليس لها وجود مادي.. فيكفي أن يتخيل الفرد شيئاً أو يتمنى رؤيته، حتى يراه أمامه مجسماً، وبالألوان الطبيعية أيضاً.. فهلاوس هذا العقار تتميز بأنها تظهر بالألوان، عكس هلاوس الحشيش والأفيون التي تظهر أبيض وأسود فقط. (في الواقع، هلاوس الحشيش والأفيون ليست واحدة عند كل الأشخاص، فمنها ما يكون بالألوان الطبيعية).

- اضطراب في إحساس الفرد بالزمن.. فقد يتوقف الزمن تماماً، أو يمر ببطء شديد.. وقد يسرع جداً، فيبدو كأن آلاف السنين قد مرت في لحظات.

- توقف كامل للنشاط العقلي.. فيصبح من الصعب على الإنسان أن يبت في أي أمر، أو يفكر في أي مشكلة، أو حتى يقوم بالعمليات الحسابية البسيطة.

- إحساس زائف بالراحة والسعادة الدافقة.. أو يحدث العكس تماماً.. فيشعر الإنسان باكتئاب شديد ورعب...(لنتذكر البسط والقبض).

ولكن أعجب شعور يمكن أن يحسه الإنسان هو ذلك الشعور بتداخل الحواس... عندما يتداخل السمع مع البصر مع الشم مع الذوق مع اللمس، فينتج عنه ذلك الخليط العجيب من الحواس الذي يعتبر من الأعراض المميزة لعقار الهلوسة... عندما يسمع الإنسان لون الورد، ويشم صوت الموسيقى، ويرى الطَّرْق على الباب، ويشم جرس التلفون([10])... إلخ.

- وهنا نعيد السؤال، نوجهه إلى أي صوفي مكاشف: أليست رؤاه الكشفية مثل هذه الرؤى الهلوسية؟ يمر بفكره شيء فيراه مجسماً أمامه؟ يحسب اللحظات سنين طويلة؟ ثم الرؤى الناتجة عن تداخل الحواس؟ وغيرها؟

ومما يذكره مكتشف العقار (هوفمان) عن تجربته له يقول: وجدت نفسي عند العصر مجبراً على التوقف عن العمل.. فأغمضت عيني.. لأرى، كما يرى الناظر في المنظار السحري، عرضاً لسبحة لا تنقطع من صور عجيبة مجسمة وغنية بألوان غير عادية، وقد دام ذلك العرض ساعات عديدة([11])... اهـ (أليست رؤى الجذبة هكذا؟).

ومما حدث له، في تجربة ثانية:

بعد أربعين دقيقة، شعر بدوار خفيف وإثارة واضطرابات في الرؤية ونوبات حمقاء من الضحك ما استطاع لها ردعاً...كانت الوجوه تبدو له كأقنعة مضحكة... وأكثر ما أدهشه هو التلون الشديد الذي كانت تتلون به الأشياء ويتلون به الأشخاص، وعلى خلفيات يسيطر فيها اللونان الأخضر والأزرق كانت تضطرب ألوان ذات صفاء ولدونة مدهشين، كان كل شيء ينقلب إلى ألوان، حتى إن أصوات البوق الآتي من الشارع كان يراه كشعاع ملون، وكانت المشاهد تترى، كان يرى نفسه يومئ، ويصمت ويتحرك([12]).

* من تأثير الهروئين (من مشتقات الأفيون):-

الهروئين، يحمل الإنسان إلى جنان خيالية، وخيالات من نوع أنه أصبح من الملائكة، أو أنه أصبح نبياً، أو أن له موعد مغازلة مع القمر (الذي هو الشمس)، ثم يدفعه ذلك أن يتصرف حسب تصوره هذا، فيحاول الطيران من أعلى البناية باتجاه السماء، فيسقط على الأرض وتتهشم ضلوعه([13])...

* من تأثير الإيتير:-

يقول أحد الذين جربوه (الكاتب الفرنسي غي دوموباسان): كان أول ما شعرت به همساً خفيفاً ناعماً ومهدهداً، ثم ما لبثت أن لاحظت بأن جسمي أخذ يخف...أخذ يخف ويخف، حتى بدا لي فيها كما لو أنه كان يتبخر، أحسست بأنه لم يبق لي من جسمي سوى الجلد.. لم يبق سوى ما يكفي لأشعر بلذة العيش، بأن أشعر بأنني أتأرجح في هذه السعادة التي تغمرني...ما كنت أرى أحلاماً كالتي يسببها الحشيش، وما كان ذهني يمتلئ بالرؤى التي يسببها الأفيون، لقد كان إحساساً بحدة ذهنية كبيرة، إحساساً بشكل جديد من الكينونة والتفكير والإحساس والحكم على الحياة، إحساساً بالاقتناع بأنني كنت أدرك عندئذ الواقع الحقيقي للعالم.. كان يبدو لي بأنني تذوقت ثمرة شجرة الحياة، وأن كل الأسرار تنكشف أمامي([14])...

- وهنا أيضاً نتوجه إلى أي صوفي وصل إلى مقام الجمع، وذاق الفناءات، ونسأله: أليست هذه الحالة وهذا الشعور والهمسات المهدهدة الناعمة تشبه ما ذاقه أثناء فناءاته وما سمعه من خطابات توهمها إلهية، وذلك الإحساس الزائف بأنه صار يدرك واقع العالم؟

* من تأثير فطر المكسيك المقدس:-

قام بالتجربة شخص اسمه (آلان ريشاردسن) مع رفيق له اسمه (غوردن واسن):

وقد تمت التجربة في أعالي المكسيك بين الهنود الأصليين:

كانت الغرفة مظلمة ومزدحمة بالناس. كانوا جميعاً هنوداً مكسيكيين... وكانت هناك كاهنة تغني ملوحة بالفطر في دخان لهب نار تتقد في المذبح لتطهر الفطر من أدرانه فيغدو جاهزاً للتناول.

قدم الهنود للرجلين اثني عشر فطراً مطهراً فأخذا يأكلانها... لكن الكاهنة انبرت تغني بمزيد من النشاط، مصفقة بطريقة غريبة وبلحن مهدهد، وفجأة دار (ريشاردسن) نحو رفيقه هامساً في أذنه بأنه يرى أشياء غريبة. فأجابه (واسن) إن الرؤى ستترى، وإنك ستراها سواءً أسدلت جفنيك أو فتحت عينيك.

بدأت الرؤى تظهر رسوماً فنية، كسجادة تبرق بزينتها وتتألق، ثم تتحول إلى قصور وباحات وأقواس وحدائق.. تراءى لريشاردسن حيوان أسطوري يجر عربة ملكية ذات عجلتين، ثم بدت له الجدران وكأنها تنحل...وأحس بروحه تطفو.. وشعر بأن نظره يحيط بفراغات لا متناهية...كان يرى نماذج من الأفكار الأفلاطونية، وصوراً غير كاملة للحياة اليومية([15]) اهـ.

- السؤال: أليست هذه الرؤى هي نفس ما يراه الأولياء العارفون المكاشفون؟ مع العلم أنه لو كان جلوسه في مكان غير الغرفة المظلمة، أو لو كانت ثقافته غير ثقافته، لأمكن أن تتغير رؤاه قليلاً أو كثيراً.

ويقول الدكتور صلاح يحياوي:

يستهلك سكان بولينزيا (الكافا) بكميات كبيرة ليعيشوا دائماً تقريباً في رؤى جنة صنعية يهيؤها لهم هذا المخدر([16]) اهـ.

- ونفس السؤال إلى نفس الأولياء المكاشفين: أليست هذه الهلوسات هي نفس الهلوسات التي تهيؤها لهم جذباتهم؟

- كيف كان الناس ينظرون إلى المخدرات؟

يقول الدكتور صلاح يحياوي:

...كان من المعروف بأنهم (الكهان) كانوا في طقوس (المسارة) يستخدمون مخدرات ما كان يعرفها غيرهم، وبذلك كانوا يعمرون أذهان المبتدئين بأحلام مرعبة وواضحة إلى درجة كانت تجعل هؤلاء يعتقدون أنها واقعية([17]).

...كان (باراسلو) يحمل الأفيون دائماً معه، مطلقاً عليه اسم (حجر الخلود)([18]).

...ففي القرن الحادي عشر، وبعد ثلاثمائة عام من نشر العرب لاستخدام الأفيون، بدأ يظهر ثناء العامة وإطراؤهم على هذا المخدر، فكانوا يتغنون به كـ (شراب الآلهة)([19]).

...لقد أكد الإينكا (سكان البيرو الأصليين) للإسبان بأن الكوكا (منها يستخرج الكوكائين) نبتة إلهية أوصى بها الإلهان (مانوكو كاباك) وزوجته (ماما أوكيو).

لقد خصت هذه الصفة الإلهية، والتي لا زال بعض هنود أمريكا الجنوبية يؤمنون بها، خصت حكام الإينكا وحدهم بحق امتلاك مزارع هذه الشجيرة، ويقاسم الكهان الحكام هذا الامتياز([20]).

ومما يذكره صلاح يحياوي أيضاً:

كانت جميع شعوب العالم القديم تعرف هذا المخدر (الحشيش)... وقد أحاطت الهالات خواصه، فنسب إليه الهندوس أصلاً إلهياً، فقالوا بأن الإله (فيشنو)([21]) قد نصح جميع الآلهة الصغار وجميع الشياطين بأن يجتمعوا في يوم حدده لهم للحصول على إكسير الخلود...وكانت النتيجة أن إكسير الخلود هو القنب الهندي الذي استخلص منه الحشيش([22])..

* وملاحظتان هامتان من المفيد إيرادهما:

يقول الدكتور محمد رفعت:

من الطريف أن نعرف ماذا يفعل المخدر بالإنسان...مع ملحوظة أن هذه الأعراض لا تظهر جميعاً في نفس الوقت ولا بنفس الشدة في جميع الحالات...كما لا تظهر عند كل الناس([23]).

ويقول الدكتور صلاح يحياوي:

...إن أفعالها (أي: المخدرات) مطابقة لما يسببه الجنون في أطواره البدائية([24]).

- أقول: إن هذه الملحوظةالأخيرة التي يذكرها الدكتور صلاح يحياوي تدلنا على أن باستطاعة الجسم أن تتولد فيه مادة تفرزها غدة ما، لها نفس مفعول المخدرات، وهذه المادة هي التي تسبب الجنون.

- وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، نسأل أي صوفي فتح عليه فوصل إلى الجذبة ورأى الكشوف وذاق الفناءات، أليست هذه الرؤى والمشاهدات الهلوسية التحشيشية هي صوراً مشابهة لرؤاه ومشاهداته في جذباته ومعارفه المتوهمة؟

إن كان الصوفي الذي سيُسأل هذا السؤال صادقاً مع الله تعالى ومع الناس ومع نفسه فسيقول الحق ويعترف أنها شيء واحد، وإن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه فسيتوب ويرجع ويحاول إصلاح ما أفسد، وإلا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وليعلم أن عليه آثام من استجرهم والمستجَرِّين بمن استجرهم إلى يوم القيامة.

ويجب أن لا ننسى أن الحشاشين لو كان لهم شيخ يوجههم لكانت مشاهداتهم مطابقة كل المطابقة لمشاهدات الصوفية في فتوحهم وكشوفهم وفناءاتهم؛ وذلك لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان (لكن من هو الشيطان؟).

* مناقشة الجذبة:

لنناقشها أولاً على ضوء القرآن والسنة:

يدعي الصوفية، دون خوف من الله، أن رياضتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، هي الطريق إلى الله سبحانه ومعراجهم إليه؛ لأنها توصلهم إلى الجذبة! ويعتقدون أن الله سبحانه يجذب بها العبد إليه، ولذلك سموها الجذبة، ومفهوم لفظ الجلالة (الله) عندهم يعني -كما أصبح واضحاً الآن- كل الموجودات بما في ذلك ذواتهم، ومعنى (يجذبهم إليه)، أي: يزيل عنهم الحجاب، الذي هو الوهم بأنهم غير الله، ويبعدهم عنه، ويجذبهم إلى استشعار الألوهية في أنفسهم، أي: يشعرون أنهم الله (سبحان الله)، ويشاهدون أن كل شيء هو الله، وهذا هو ما يسمونه الوصول إلى الله، والجذبة هي الولاية والصديقية...إلخ، وهي عندهم حال يتدرج ويمر بأطوار من الرؤى والمشاهدات المختلفة والاستشعارات حتى تصبح مقاماً.

ففي بادئ الأمر، قد يصل السالك إلى الجذبة بعد رياضة، طويلة أو قصيرة، لكن الجذبة تزول بسرعة ثم لا تعود إلا برياضة مثل الأولى، أو أكثر أو أقل، فالولاية هكذا هي حال.

ومع المثابرة يصل إلى درجة يقع فيها في الجذبة بشيء من الذكر، وتطول مدتها، فتكون ولايته هنا مقاماً، ويصير ولياً صديقاً مقرباً... مقيماً إذا صارت الجذبة دائمة.

فهل في هذا التصور شيء من الصحة؟

الجواب: لا! للأسباب التالية:

1- إن كون الجذبة ولاية وصديقية وقرباً و.. هو، في أحسن الحالات، أمر غيـبي لا يعرف إلا بنص من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أي: بنص من القرآن والسنة الصحيحة، ولا وجود لمثل هذا النص، إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة وافتراءاتهم الظالمة. ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:144].

2- إن ادعاء الولاية والصديقية هو هو تزكية النفس على الله، وهو من كبائر الإثم: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50] و((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].

وكذلك اتهام الآخرين بالولاية والصديقية هو من كبائر الإثم. لقوله سبحانه مخاطباً رسوله: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9] ولغضب رسوله عندما سمع صحابية جليلة تزكي صحابياً جليلاً، فقال لها: {والله ما أدري ما يُفعل بي وأنا رسول الله. ثم أقرها عندما قالت: فلن أزكي بعدها على الله أحداً}، أي: إنه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن لا نزكي على الله أحداً.

وهكذا كان فهم الصحابة الكرام، فهذا علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن مسعود فيقول: [[إنه لخيرنا، ولا أزكي على الله أحداً]]! إن علي بن أبي طالب لم يزك عبد الله بن مسعود على الله!

إذن، فتزكية النفس وتزكية الغير هما من كبائر الإثم، والإصرار على ذلك هو كفر بالقرآن والسنة.

وبذلك يكون الادعاء بأن الجذبة صديقية وقرب وولاية هو كفر بنصوص القرآن والسنة.

3- رأينا في الفصول السابقة أن السالك يدخل في الشرك الأكبر منذ الخطوة الأولى في طريق الصوفية، ثم يسير في طريق كلها بدع وضلالات وطقوس طاغوتية وتشبه بالكفرة ومخالفة للقرآن والسنة وتزوير لنصوصهما وافتراء على الله سبحانه، وخداع لعباده (بل ولنفسه أيضاً) بادعائه اتباع القرآن والسنة، وكذب على الله وعلى ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذب على الحقائق، وكذب على التاريخ والجغرافيا، واحتقار للعقل والعلم اللذين كرم الله بهما بني آدم، وتقديس للجهل والعته والجنون!

ثم لم يكتفوا بهذا حتى مزجوه بالإسلام! فشوهوا الإسلام وحرفوه! وهنا الطامة الكبرى، وقد رأينا كل هذا فيما مضى من فصول الكتاب من نصوصهم وأقوال أقطابهم وعارفيهم وعلمائهم.

فهل يمكن لمسلم في قلبه إيمان بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر أن يعتقد أو يظن أن هذه الطريق هي الطريق إلى الله؟ أو أنها تقود إلى حق أو حقيقة؟

بل هل يمكن لذي عقل سليم كائناً من كان، أن يعتقد أو يظن أن طريق إبليس هذه هي طريق السير إلى الله والعروج إليه؟ سبحان الله عما يصفون.

إن طريق الشيطان لا تقود إلا إلى مسارح الشياطين ومتاهاتهم...

والجذبة مسرح شيطاني ومتاهة إبليسية، وليست صديقية!

4- إن الجذبة الإشراقية تشبه الجذبة التحشيشية الأفيونية تماماً مظهراً ومخبراً وجملة وتفصيلاً، فإن كانت جذبة الصوفية ولاية وصديقية فجذبة التحشيش مثلها، ويكون الحشاشون والأفيونيون أولياء صديقين، ويكون الهيبيون هم الأبدال والأقطاب والأغواث.

* الخلاصة:

ليست الجذبة ولاية ولا صديقية، وإنما هي مسرح شيطاني، وكذب وباطل ما يدعون.

وفي الجذبة تكشف لهم الكشوف ويتلقون العلوم اللدنية ويرون المناظر الغيبية والمشاهدات الإلهية، إلى آخر الهلوسات الجذبية.

فإلى مناقشتها وعرضها على الكتاب والسنة.

* مناقشة أحلام الجذبة:

التي يسمونها: الكشف، أو العلوم اللدنية، أو المناظر الإلهية، أو المشاهدات.

(قبل البدء، أرجو من القارئ الكريم أن يعيد قراءة مفعول المخدرات، ويكرر قراءتها).

نستطيع أن نقسمها، من حيث مصدرها، إلى قسمين:

1- هلوسات فيزيولوجية: وهي تسربات من الأماني والمعلومات (الصحيحة أو المتوهمة) المختزنة في اللاشعور، تتسرب من مخازنها، لتنزلق مباشرة إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت منها صوراً بصرية، انطبعت في مركز التفسير البصري، فيراها المجذوب وكأنها ماثلة أمامه، سواء فتح عينيه أم أغمضهما! لأنها لم تصله عن طريق العين. وما كانت منها صوراً سمعية، انطبعت في مركز التفسير السمعي، فيسمعها أصواتاً لا يعرف مصدرها بالضبط! لأنها لم تصله عن طريق الأذن. ومثلها ما كان صوراً شمية أو ذوقية أو لمسية.

2- هلوسات شيطانية: يتراءى بها شيطان المجذوب أمامه، مستفيداً من خاصة الجذبة في تضخيم الأطوال، أو ينفثها في لا شعوره، وهو الميدان الذي يستطيع الشيطان أن ينفث فيه وسوساته، لتتسرب منه إلى مراكز الحس في الدماغ، مثل بقية الهلوسات الفيزيولوجية.

لا يكون هاذان القسمان منفصلين عن بعضهما، بل ممتزجين، إلا فيما ندر، وفي حالات كثيرة يمكن التمييز بينهما.

وإن تسميتهم لها المناظر الإلهية، أو الكشف، أو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، أو غيرها مما مر في هذا الكتاب ومما لم يمر، ما هي إلا جهل مغرور، وافتراءات على الله الكذب، وضلالات موغلة في الجرأة عليه سبحانه وجل عما يفترون. والبراهين ما سبق وما يلي:

1- إن الله سبحانه كرم الإنسان ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) [الإسراء:70] عندما خلق فيه مراكز الوعي، ووهبه بها العقل وتوابعه، كالإدراك والفهم والعلم، ومنها التكاليف.

فالله سبحانه، عندما يخاطب الإنسان، فإنما يخاطب فيه العقل والوعي والشعور، وعندما أرسل الرسل بالدين والتكاليف، فإنما أرسلهم يخاطبون العقل والوعي والشعور. والآيات المبينة الدالة على ذلك كثيرة، منها: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى)) [طه:54].

((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الرعد:4].

((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الروم:28].

((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)) [آل عمران:13].

((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)) [الحشر:2].

((وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران:7].

((لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص:29].

((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِِ)) [آل عمران:190، 191].

((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [يونس:24].

((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [الرعد:3].

((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) [الحاقة:12].

((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [البقرة:230].

((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [الأعراف:32].

((فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)) [السجدة:27].

((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)) [الروم:23].

((فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)) [الحج:46].

((انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:65].

((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:98].

((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) [الأنعام:126].

((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) [النحل:13]

والآيات كثيرة، كلها تبين أن الوعي في الإنسان هو الذي أعده الله تعالى لتلقي كلماته، وهو الذي أعده لفهم الحقائق وإدراكها، وخاطبه بالوحي، ليكون الوحي المرتكز الأساسي الذي ينطلق منه العقل الواعي في جميع ميادينه.

وعندما يكون الخطاب الإلهي موجهاً إلى الوعي والشعور، فهذا يعني أن الطريق إلى رضوان الله لا يمكن أن تكون إلا عن طريق الوعي والشعور التامين.

أما الشيطان، فاللاشعور في الإنسان هو ميدانه الذي يصول فيه ويجول، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) [الناس:1] ((مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)) [الناس:4، 6].

((فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا)) [الأعراف:20].

((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) [محمد:25].

((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) [الأنعام:121].

((وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)) [المؤمنون:97]...

وعلى ذلك لا تكون الجذبة فتحاً إلهياً، بل استحواذاً شيطانياً، ولا تكون هلوساتها نور اليقين ولا عين اليقين ولا حق اليقين، وإنما وحي إبليس وجنوده، ولا تكون مناظرها إلا مسارح الشياطين وهلوسات الحشاشين.

2- مر في بحث سابق الآيات التي تبين أن طريق الضلال لا تقود إلا إلى ضلال، وأن سبيل الشيطان لا تؤدي إلا إلى غرور ((وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) [النساء:120].

ورأينا ما هي الطريق إلى رؤية هذه المناظر وتلك الكشوف، إذن فهي كلها باطلة، وهي كلها شيطانية.

3- إذا كانت هلوسات جذبة الإشراق كشوفاً إلهية، فهلوسات جذبة المخدرات مثلها تماماً، لأن الجذبتين شيء واحد، وكل ما بينهما من فرق أن المخدر في جذبة التحشيش يأتي من خارج الجسم بينما يأتي المخدر في جذبة الإشراق من داخل الجسم، والنتيجة واحدة في الحالتين!

وإذا كانوا يصرون على أن هلوساتهم هي فتوحات إلهية وعلوم لدنية! فلِمَ لا يختصرون الطريق ويوفرون الوقت والجهد؟ إذ بدراهم معدودة يستطيعون شراء شيء من الحشيش أو الأفيون أو عقار التهليس أو الإيتير أو غيرها، وبثوانٍ معدودة تشرق عليهم الأنوار، وتنكشف أمامهم الأسرار، ويعرجون في السماوات العلا ويتمتعون بالمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، ويذوقون معاني الأسماء كلها، ويتنقلون في الفناءات.. إلى آخر الهلوسات!!

ما دام كلا الطريقين إلى جهنم، فلم لا يتبعون الأقل مشقة؟؟!

- بالرغم من أن كل الصفحات السابقة هي براهين ساطعة واضحة على أن رؤاهم هي هلوسات شيطانية، وأن فيها الكفاية وأكثر من الكفاية. ومع ذلك فهناك الكثير من الأدلة غيرها من كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم...فإلى كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم:

ولنبدأ بجبل قاف. ولنستعد قبل ذلك بعض خواص الجذبة:

- تضخم الأطوال (الجفون تطول إلى ما لا نهاية، والأطراف تطول والمسافات حتى يرى الأمتار طول ما بين المشرق إلى المغرب).

- رؤية أشكال وسمع أصوات ليس لها وجود.. وأحياناً رؤيتها بمجرد تمنيها أو مرورها بالفكر..

- رؤية الحبل أفعى والكلب أسداً...وما شابهها.

ولا بأس من الرجوع إلى أول هذا الفصل لمراجعة المخدرات ومفعولها.

* جبل قاف:-

كان كثير من الأقطاب العارفين الأبدال يرونه (أثناء الجذبة طبعاً)، ويصعدون عليه، ويذهبون إلى ما وراءه، ويرونه محيطاً بالأرض، يبلغ ارتفاعه ثلاثمائة سنة (أي: ما يزيد عن بعد القمر بأكثر من تسع مرات) ويرى بعضهم الحية المحيطة به (وبالتالي بالأرض) وذيلها عند رأسها...

كانوا يرون هذه الأمور بالكشف! بينما الآن، صار من البدهيات عند الجميع، حتى الصوفية، أن الأرض كروية، وقد دُرس سطحها كله إلى أعماق محترمة دراسة دقيقة! فقد دُرس سطح اليابسة بدقة بالغة، جبالاً وودياناً وسهولاً وصحاري وبحيرات وأنهاراً، ودرست تربتها إلى أعماق تقاس بالكيلو مترات بدقة أيضاً. ودرست طبقات الأرض دراسة إجمالية، لكنها صحيحة، إلى أعماق تقاس بألوف الكيلو مترات، كما درست البحار كلها سطحاً وأمواجاً ومداً وجزراً، وعرفت أعماقها بدقة، ووضع لقيعانها الخرائط الصحيحة، ووضعت الأسماء لما فيها من جبال ووديان ومنبسطات، أي: إن سطح الأرض كله درس دراسة دقيقة إن لم يكن بالمتر المربع فبالكيلو متر المربع.

ويعرف الجميع أن جبل قاف محض خرافة لا وجود له، وأن الأبعاد التي قدروها له وللأرض، لا تدل إلا على جهل كامل بجغرافية الأرض، وجهل مخز بحساب المسافات، فكشوفهم لم تفدهم شيئاً، بل هي التي دفعتهم إلى وهدة الجهل الذي يتخبطون فيه.

وما دام جبل قاف لا وجود له! فماذا كانوا يرون إذن؟

الواقع، إنهم كانوا يرون بالكشف جبل قاف، والذين كانوا يرونه هم من الأقطاب الأبدال الأولياء العارفين! ورؤيتهم له بالكشف هي برهان ساطع قاطع جديد على صحة كل ما ورد في الفصول السابقة من أن الجذبة ليست إلهية وإنما تحشيشية، وأن كشوفهم ما هي إلا هلوسات الحشاشين وتمثيليات الشياطين!

رأينا أن الخلوة عنصر أساسي في المجاهدة، وقد كانوا كلهم -أو أكثرهم- يعتزلون الناس في البراري أحياناً وفي الخرائب أحياناً، خوفاً من سيف الحلاج.

والخرائب، كما هو معروف، هي بيوت خربة هدمت جدرانها، لكن بعضها، كما هو معروف أيضاً، يبقى حولها شيء من جدرانها المهدومة، بارتفاعات مختلفة (قامة أو نصف قامة أو أكثر أو أقل).

من البدهي، أن المرتاض الذي كان يرتاد الخرابات، كان ينتقي إحدى تلك الغرف الخربة المحاطة ببقايا جدرانها، لأن هذه البقايا تعزله عن رؤية الناس.

ومن البدهي أنه كان يسوي أرضها، أو جزءاً من أرضها، إلى حد يستطيع معه الإقامة عليه أثناء خلوته فيها.

ومن البدهي أيضاً أن كثيراً منهم -إن لم يكن كلهم- وصلوا إلى الجذبة أثناء إقامتهم في تلك الخرائب، وأن بعض تلك الجذبات كان من النوع المضخم للأبعاد، فماذا كان يرى المجذوب في مثل تلك الحالة؟

- كان يرى البقعة التي يقيم عليها أرضاً شاسعة واسعة، يقدر بوهم جذبته، أو بإيهام شيطانه له، أن طولها من الشرق إلى الغرب مئات السنين، ومن الشمال إلى الجنوب كذلك.

ويرى بقايا الجدران التي تحيط بها، جبلاً شاهقاً ذاهباً في السماء، يحيط بالأرض من جميع جهاتها.

وطبعاً كانوا يقصون مشاهداتهم على بعضهم، وكانت قصة الجبل الشاهق المحيط بالأرض تتردد كثيراً في مشاهداتهم وقصصهم، لكثرة خلواتهم في الخرائب.

وربما كان يخطر لأحدهم، على بال جذبته، أن يصعد فوق جبل قاف، فينهض، ويقترب من الجدار المتهدم، ويعتلي فوقه، فيرى نفسه قد قطع الدنيا بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، ويرى نفسه قد صعد فوق جبل قاف، بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، حسب المكان الذي صعد عليه.

وقد يهبط خلف الجدار المتهدم فيرى نفسه وراء جبل قاف، وقد يتراءى له شيطانه، وقد يكون معه رفقة شياطين آخرون، فيتسلون بالتلاعب بعقله والضحك على ذقنه، ويفهمونه أنهم أولياء مثله يقيمون وراء جبل قاف، أو يزورونه من حين إلى آخر، كما قد يكون هؤلاء الأولياء مرتاضين مثله يختلون في الخرائب المجاورة لخرابته، وقد يكونون مجرد صور هلوسية.

وقد يحدث لجذبة الفقير (على وزن حضرة الفقير) أن يرى خلف جبل قاف حية، أو حبلاً يتوهمه حية، فيراها طويلة طول ما بين المشرق والمغرب، وقد تكون هذه الحية وسوسة من شيطانه ينفثها في روع جذبته فيراها مجسمة أمامه.

وبما أنهم كانوا، لجهلهم، والجاهل عدو نفسه، وعدو دينه، يؤمنون أن كشوفهم هي نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، لذلك آمنوا أن الأرض محاطة من جميع جهاتها بجبل شاهق جداً! وعرف بعضهم بالكشف أن اسمه قاف، وانتشرت الأسطورة، وأخذت حيزاً هاماً من الثقافة العامة في المجتمعات الإسلامية حتى زمن قريب! بل لا يزال كثير من الأبدال العارفين وعابديهم (المريدون) والمخدوعين بهم يؤمنون حتى الآن بجبل قاف.

وقد كانت الخرابات ضرورية لرؤية جبل قاف قبل أن يعرف، أما بعد ما شاع اسمه واشتهر واحتل مكانه من الثقافة العامة، فقد صار بإمكان الفقير أن يراه في أي مكان تأتيه فيه الجذبة، كما يرى بقية التخيلات والصور المختزنة في اللاشعور، (وسنرى توضيح هذا بعد صفحات).

إن رؤية جبل قاف وغيره من الخرافات، بالكشف، هي برهان واضح جداً وساطع جداً على أن كشوفهم هلوسات تحشيشية شيطانية، وليست فتوحات إلهية كما يفترون.

5- بقية كشوفهم الجاهلة:

رأينا، فيما سبق من فصول، نماذج كثيرة من كشوفهم التي سموها علوماً لدنية، وما فيها من جهل، ولا بأس من إضافة الملحوظات التالية:

أ- من كشوف الأقطاب الأغواث العارفين أن الأرض محمولة على حوت اسمه (نون)، والحوت على الماء المحيط.. إلى آخر الهذيان، ولم يستطع واحد من أولئك العارفين الذين عرفوا الأمور بنور اليقين -كما يقول حجتهم- أن يعرف أن ذلك هراء، وأن الأرض كروية مدحوة في الفضاء([25]) وأنها تدور حول الشمس، وأن ماءها خرج منها ((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:31]، وهذا يعني أن الماء محمول عليها، وليست هي محمولة عليه، وهذا دليل على أن كشوفهم ليست إلهية، بل هي هذيانات هلوسية؛ لأنها لم تستطع معرفة الحقيقة ولا فهم الآية الكريمة.

ب- رأى قطب منهم الشمس في عجلة يجرها ملكان لهما مخالب... وهذا يذكرنا بالحيوان الأسطوري الذي يجر عجلة ملكية والذي رآه حشاش فطر المكسيك، ولم يستطع الكشف الجاهل ولا كل كشوفهم أن تعرفهم أن الشمس كتلة ملتهبة مضطربة تكاد تميز من الغيظ أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وأنها ليست محمولة على عجلة بل مدحوة في الفضاء.

إذن فكشفهم ليس إلهياً وإنما هو هلوسة هذيانية.

ج- لم يعرف أي قطب منهم أو غوث من الذين يتصرفون في الكون أن القمر مثل الأرض فيه صخور وأتربة، وأنه كروي خال من الهواء والماء! ولم يعرف عارف منهم أن المريخ والزهرة والكاتب([26]) وغيرها كلها مثل الأرض تتألف من صخور وأتربة وفيها أجواء غازية وفي بعضها ماء... لأن كشفهم ليس إلهياً بل هلوسات تحشيشية.

د- لم يستطع أي غوث منهم من الذين يتصرفون في الكون أو من الذين تحققوا بأسماء الله الحسنى، ومنها الاسم (العليم) ومنها (علام الغيوب)، أن يعلموا شيئاً عن الذرات والجواهر والنوى وكهاربها وحركاتها...لأن كشفهم ليس إلهياً بل هلوسة أفيونية يرون فيها ما كانوا يتوهمونه عن الكون من خرافات وأساطير.

6- لم يستطع كشفهم الجاهل أن يميز الحديث الموضوع من الصحيح، حتى كانوا وراء تزوير الأحاديث ووضع أكثر الموضوع منها والمكذوب، فكانوا من الأدوات التي هدمت الإسلام في نفوس المسلمين، إذن فكشفهم ليس إلهياً وعلومهم اللدنية هي جهالات لدنية.

ولا نريد أن نزيد، فما على القارئ الكريم إلا الرجوع إلى فصل (نماذج من حكايات الصوفية وكراماتهم...)، أو إلى كتبهم، ليرى ما يكشف عن الجهل والغباء والخرافة والاستحواذ الشيطاني، فحكاياتهم وكراماتهم أبلغ من أي حديث آخر.

- ونذكر أن العروج في السماء، والفناء في الله (تعالى الله) وتوابعها، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها أمام السالك، أو العارف، أثناء اليقظة؛ لأن أجسامهم أصغر من أن تستطيع التمثل بتلك الأشياء الضخمة جداً.

لذلك كانوا بحاجة إلى الجذبة وخواصها، وأحياناً إلى الخاصة المضخمة لصغائر الأشياء تضخيماً كبيراً! ليستطيعوا أن يوهموا الفقير بتلك الأمور ثم يوهموه أنه صار (عارفاً بالله) بينما هو في الحقيقة، صار من أجهل خلق الله وأضلهم، وصارت نفسه مركباً ومسرحاً وملهاةً للشياطين يعبثون فيها كما يريدون!

* فيزيولوجية الجذبة:

ما هي الجذبة؟ وكيف تحدث؟

- من المعروف أن العمل العضلي المجهد يسبب إفراز مادة (حامض اللبن) في الدم الذي يوصله إلى أنحاء الجسم، وبملامسته للأنسجة العصبية يؤثر فيها تأثيراً تترجمه الجملة العصبية إلى شعور بالتعب.

وشبيه بهذا ما يحدث نتيجة المجاهدة الصوفية.

لنسأل أي عالم صادق من علماء التشريح والفيزيولوجيا، وسيخبرنا أن العزلة والسهر والجوع والذكر الإرهاقي وتوابعها واستمرارها مدة طويلة تحدث في الجسم الإنساني تحريضاً يجعله يفرز مادة تؤثر على الجملة العصبية تأثيرات هدفها الأول التلطيف من شدة الألم الناتج عن تلك الممارسات.

فما هي هذه المادة؟ وما هو تأثيرها؟

يمكن معرفة هذه المادة بالتحاليل المخبرية الدقيقة، (وقد تفيد معها الفحوص الشعاعية والسريرية على أن تجري على عدة سالكين في أكثر من حالة صحو وأكثر من حالة جذبة لكل واحد منهم. وقد يكون من المفيد بدء الفحوص مع بدء سيرهم في التصوف).

ومع ذلك نستطيع، بصورة أولية، معرفة الوظيفة الكيميائية لهذه المادة من تأثيرها؟

إذ إن تأثيرها يشبه تماماً تأثير المواد المخدرة، إذن فهي من نوعها، وهي بالتالي من أشباه القلويات.

لكن يظهر من تجارب القوم وتوصيات الشيوخ أن هذه المادة المفرزة، لا تؤثر على الأعصاب التأثير المطلوب إلا عندما تكون الجملة العصبية في حالة (الاستخدار)، ورأينا أن الوصول إلى هذه الحالة يكون بخلع النعلين، الدنيا والآخرة، أي: بإفراغ مراكز الوعي في الجملة العصبية من جميع مشاغلها الدنيوية والأخروية! إفراغاً كاملاً، حتى تصاب هذه المراكز، (بسبب تعطيلها عن العمل)، بالكسل والضمور والاسترخاء، أي: (الاستخدار)، حيث تغدو قابلة للتأثر بكمية من المخدر أقل من الكمية التي يمكن أن تتأثر بها في الحالة العادية.

وهكذا يلتقي الهبوط الكافي في نشاط القشرة الدماغية ومقاومتها مع الزيادة الكافية في دفقة المخدر، فتكون الجذبة المورفينية التي يسمونها بغرورهم: الفتوح، أو كشف الحجب، أو الإشراق، أو الولاية، وغيرها... وما هي في حقيقتها إلا (أَفْيَنَةٌ ذاتية)([27]) تشبه الأفينة التي يسببها الأفيون والمورفين والحشيش وعقار الهلوسة وفطر المكسيك وغيرها شبهاً كاملاً، مظهراً ومخبراً ومشاهدات وهلوسة وحالة نفسية.

ولو أُخضع الذين يتعاطون هذه المهلسات إلى إيحاءات الشيخ والجو الصوفي مدة كافية من الزمن، لصارت هلوساتهم مثل هلوسات الصوفية تماماً: عروجاً إلى السماء، واجتماعاً بالملائكة والأنبياء، ووصولاً إلى العرش، وحضوراً مع الله (جل وعلا)، وفناءً فيه حلولاً أو اتحاداً أو وحدةً، حسب الإيحاءات التي يُحقنون بها.

وفي هلوسات الصوفية التي يسمونها الكشف والفتح والعلم اللدني، والتي يرونها أثناء الجذبة، براهين تُضاف إلى ما سبق، على أن جذبة الإشراق هي نفس جذبة التحشيش والأفينة؛ لأن مشاهداتهم في هذه نفس مشاهداتهم في تلك، والفرق بينهما ناتج عن الفرق بين الأماني والمعلومات المختزنة؛ ولأن الحالة النفسية في كلتيهما واحدة.

وتبرز ملحوظة مفيدة؟ فقد رأينا في فصل سابق أن هز الرأس على الطريقة النقشبندية قد يوصل إلى الجذبة بعد إحدى وعشرين هزة، أو بعد تكرارها، مما يدل على أن المادة المهلسة المفرزة إنما تفرزها بعض أنسجة الدماغ أو بعض الغدد القابعة في ثناياه.

فهل الأمر كذلك؟

نعم إنه لكذلك! ففي الدماغ منطقة تُفرز مادة شبه قلوية لها مفعول المرفين، هذه المنطقة (تحت المهادية) واقعة في الجزء الأسفل من المخ، تفرز مادة (الأنْدُورفين) أي: (المورفين الداخلي) وهي أقوى من المورفين المعروف، وظيفة هذه المادة هي تخفيف الآلام الشديدة التي يمكن أن تكون قاتلة، تلطفها وتجعلها -بآلية معقدة- في الحدود غير المميتة.

كما أن هناك مادة ثانية يفرزها الدماغ اسمها (أنكيفالين)([28]) لها نفس التأثير المخفف للآلام ونفس المفعول المورفيني، لكنها أضعف من المورفين.

نقرأ في المعجم الفرنسي (Larousse) تعريفاً لهاتين المادتين، ترجمته:

- أندورفين([29]) (Endorphine): هرمون تفرزه الغدة تحت المهادية (Hypothalamus) له خصائص المورفين المسكِّنة.

- أنكيفالين([30]) (Enképhaline): مادة يفرزها الدماغ تؤثر في نقل السيالة العصبية ولها مفاعيل المورفين المسكِّنة.

ونقرأ للدكتور أكرم المهايني([31]) في كتابه (علم الأدوية الفارماكولوجيا) قوله:

- مماثلات المورفين: أقر العلماء مؤخراً، إثر الدراسات الحديثة لفسيولوجية المراكز العصبية، وجود ببتيدات... تبدي قدرةً تحاكي فعل المورفين في عدد من النسج الحية، ولا سيما في الجملة العصبية والنخامي والأنبوب الهضمي، وقد تم حتى الآن، الكشف عن مجموعتين من هذه الببتيدات الداخلية المنشأ التي عرفت باسم (مماثلات المورفين) أو (الببتيدات نظيرة الأفيون) وهما:

1- مجموعة الأنكه فالين...(اكْتُشِفت سنة 1977م).

2- مجموعة الأندورفين([32])...(اكْتُشِفت سنة 1976).

 (ليس من موضوع كتابنا أن ننقل تجارب الفارماكولوجيين ومناقشاتهم في موضوع هذه الببتيدات، وإنما نورد منها ما يمس موضوع بحثنا).

- إن دفقة كافية من الأندورفين، أو من الأنكيفالين، أو منهما مجتمعين توقع السالك في الجذبة المماثلة للجذبة التي يسببها المورفين، حيث ينال السعادة الأبدية التي تستمر دقائق أو سويعات، يرتقي أثناءها في المعارج، وينتقل في الفناءات، ويتحقق بالأسماء والصفات ويذوق من معاني اسمه الصمد...

فلكما التقديس يا إندورفين ويا أنكفالين، يا هرموني الولاية وإكسيري المعرفة، يا سُرارتي التوحيد وقرارتي التفريد.

يا إندورفين ويا أنكفالين، يا من بكما تعلقت همم الرجال، وإليكما تطاولت أعناق المحبين العاشقين الأبطال، ومن أجلكما اقتحموا الأهوال.

يا إندورفين ويا أنكفالين، إليكما حقيقة توجهت صلوات الصوفية في الجهر والإسرار، وبكما حقيقة تعلقت قلوبهم والأسرار، وفي سبيلكما حقيقة واصلوا اجتهاد الليل بالنهار.

يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا منتهى أمل السائرين، وغاية غايات السالكين، إليكما صبت قلوبهم، ولكما عَنت وجوههم، وبتجلياتكما التي لا توصف بلسان، ولا تفصل ببيان، باعوا الدنيا والآخرة، ورضوا بجهنم مستقراً ومقاماً.

يا نور يقينهم، وعين يقينهم، وحق يقينهم.

يا هرموني الفناءات، وإكسيري التجليات، يا مانحي التحقق بالأسماء والصفات.

يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا كاشفي الحجب، يا مقدسي الأسرار، يا رافعي الغين عن العين.

يا سر الجذبات التي أوهمتهم شياطينهم من الإنس والجن أنها ولاية وقرب وتحقق بالألوهية.

* كيف يسبب الإندورفين والأنكفالين الجذبة:

الألم الشديد حافز يدفع الغدد الدماغية المختصة لإفراز هاتين المادتين أو إحداهما بشكل دفقات كافية لتخدير المراكز العصبية، بما في ذلك القشرة الدماغية، تخديراً خفيفاً كافياً لإبقاء الألم في حدود غير قاتلة.

كما يظهر من تجارب القوم (الصوفية) أن الاهتزازات العصبية العادية (غير الحادة) إذا استمرت مدة كافية (تختلف من شخص لآخر تدفع هذه الغدد لإفراز دفقات من هاتين المادتين أو من إحداهما، وقد رأينا أن هز الرأس بعنف على الطريقة النقشبندية قد يثير الدفقات.

والرياضة الإشراقية عند الأمم الأخرى (الخلوة، والجوع، والسهر، والصمت، وتركيز الفكر في كلمة، وتركيز النظر على نقطة، وأخذ بعض الأوضاع غير المريحة، والاستمرار على ذلك مدة طويلة)، يقود الى نتيجتين:

1- إفراغ مراكز الوعي من أي شيء يشغلها على الإطلاق، فتتعطل القشرة الدماغية من وظائفها الطبيعية التي طبعها الله سبحانه عليها، ومع المثابرة والاستمرار تصاب بشيء من الكسل والارتخاء، ومع المثابرة والاستمرار أيضاً، يزداد الكسل والارتخاء حتى تصل إلى درجة كافية للتأثر تأثيراً كافياً بكمية المهلس (إندورفين أو أنكيفالين أو كليهما)، الضئيلة التي تفرزها الغدد المختصة، كما أن تكرار الرقص العنيف، يساعد في زيادة كسل القشرة الدماغية واسترخائها، أو انكماشها.

إن عملية عدم التفكير المطلق وإفراغ الذهن من كل ما يشغله عملية صعبة للغاية، بل تكون متعذرة للكثير من الأشخاص، فأعانهم إبليس بأن دلهم على فائدة تركيز الفكر في كلمة ما كائنة ما كانت هذه الكلمة، فالهندوسي، مثلاً، يستعمل كلمة (أوم) أو (راهام)، والطاوي يستعمل كلمة (طاو)... وإذا أراد أحد متصوفة المسلمين ممارسة رياضة الصمت (وهذا نادر جداً) ركز تفكيره في شيخه.

ويستطيع القارئ أن يجرب ذلك بنفسه، فيركز تفكيره في كلمة ما، ولتكن (زيز)، يرددها في ذهنه دون أن يحرك لسانه أو شفتيه أو أي جزء من فمه، مع الانتباه إلى هذا الترديد، وسيشعر أن ذهنه كان فارغاً من أية فكرة أثناء ترديدها.

2- النتيجة الثانية: هي الإرهاق المؤلم المستمر الذي يدفع الغدد الدماغية المختصة إلى إفراز مخزونها من المهلس، واستمرار الألم وتزايده يدفع هذه الغدد إلى العمل المتزايد وإلى تزايد الإفراز، حتى تغدو الكمية المفرزة كافية للتأثير على المراكز العصبية التي وصلت إلى درجة كافية من الارتخاء؟ فتكون الجذبة التي يسمونها فيما يسمونها: (كشف الحجب، أو الفتح، أو الولاية، إلى آخر الأسماء الظالمة)، مع العلم أن ازدياد الإفراز عن الحدود المحتملة يقتل صاحبه.

أما متصوفة المسلمين:

فقد حذفوا من رياضتهم الصمت وتركيز الفكر والنظر وأخذ الأوضاع المؤلمة، واستبدلوها بما سموه (الذكر). إن ترديد كلمة ما، يقود بعد مدة قد تطول وقد تقصر (حسب الأشخاص) إلى نفس النتيجتين السابقتين:

1- إفراغ الذهن من خواطره، والاستمرار على هذا الإفراغ بالذكر الإرهاقي المستمر ليالي وأياماً يدفع القشرة الدماغية إلى الاستخدار.

وكذلك الخضوع الكامل للشيخ هو عامل مساعد وقوي للوصول إلى الاستخدار لأنه يحول دون تشغيل الفكر، بل يشله.

2- من المعروف أن الإنسان إذا مارس حركة ما مدة طويلة، تغدو لديه عادةً يقوم بها دون إرادة أو شعور.

وكذلك ترديد كلمة ما، ليلاً ونهاراً، يغدو بعد مدةٍ عادةً، يرددها المرتاض دون إرادة أو شعور، ويزيدها الترديد الإرادي تمكناً، حتى إنه يكون نائماً، فيستيقظ، أو يوقظه أحد، فيلهج بها لسانه مباشرة دون وعي منه، بل قد يصل إلى ترديدها أثناء نومه.

ومثله الأعصاب التي تربط اللسان بالدماغ والتي تسري فيها التموجات العصبية النطقية المتناغمة مع الكلمة المرددة ومقاطعها وحروفها، تعتاد على ترديد تلك النبضات مع اللسان دون وعي.

ومثلها المراكز المختصة في الدماغ.

وبطبيعة الحال، تنتقل هذه النبضات إلى الأنسجة المحيطة بأعصاب اللسان وبمراكزها في الدماغ حيث تصبح لها عادة مثل اللسان وأعصابه. ومع الزمن يشعر المرتاض أن أعصابه كلها تردد تلك النبضات، وكلما زاد من ترديده الإرادي للكلمة كلما تمكنت تلك العادة من دماغه وأعصابه.

فلم يزل مستعملاً للذكر             في صمت اللسان وهو يجري

وقَدْرَ ما تجوهر اللسان               بالاسم يستثبته الجَنان

ثم جرى معناه في الفؤاد              جَرْيَ الغِذا في جملة الأجساد

هذه الاهتزازات (الميكرونية طبعاً) المستمرة، تنتشر في الدماغ حتى تصل إلى الغدد المختصة التي تأخذ بالاهتزاز مثل بقية الدماغ؛ واستمرار هذه النبضات يفضي إلى إفراغ المخزون أو المهيأ من هرمونها.

واستمرار الاهتزاز، باستمرار الذكر، يؤدي بعد مدة إلى إصابة هذه الغدد بالخلل، فيزداد إفرازها ويسهل قذفها، وقد تصاب بالتضخم، كما يؤدي هذا إلى خلل في التفكير السليم.

وهكذا... حتى تغدو كمية الدفقة كافية لأَفْيَنَةِ المراكز العصبية المستخدرة، فتكون الجذبة، ويغدو السالك ولياً لله بكمية من الإندورفين والأنكيفالين قد تقاس بأجزاء من الغرام!

فلكما التمجيد والنعمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، ولكما توجههم الأسمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، لوجهكما الرقص مع النقص وبدون نقص، يا مقدسي الأسرار ويا باعثي الأنوار.

ما كان لهاثهم إلا وراء سرابكما، ولا هيامهم إلا بما يمنيهم إبليس فيكما من الخلد وملكٍ لا يبلى، ((يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) [النساء:120].

يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا قدس أسرارهم، ويا جاذبيهم إلى الأوهام الشيطانية التي ضلوا بها وأضلوا.

وعندما تصير زيادة الإفراز وسهولة قذفه مقاماً بعد أن كانت حالاً، عندئذ يكون السالك قد وصل إلى الدرجات العلا، ونال القرب والسعادة العظمى، وصار بدلاً أو قطباً أو غوثاً، حسبما توهمه شياطينه من الإنس والجن.

فيا عباد الإندورفين، احمدوه واشكروه على ما أولاكم من نِعَمه، ولا تنسوا الأنكيفالين.

إلى جانب هاذين الهرمونين، يجب أن نذكر عاملاً مساعداً هو الأكسجين. ففي الحضرة الراقصة، وبعد دقائق قليلة من القفز، يأخذ الراقص باللهاث والتنفس العميق، وهذا ما يسمى (التهوية) حيث يدخل إلى رئتيه كمية من الهواء، وبالتالي من الأكسجين، أكبر من الكمية العادية.

عندما تستمر عملية التهوية مدة كافية، ترتفع نسبة الأكسجين في الدم، وللأكسجين تأثير أفيوني ضعيف، وارتفاع نسبته في الدم يصيب المراكز العصبية بأَفْيَنَةٍ خفيفة، يختلف الإحساس بها من شخص إلى آخر.

لذلك نرى بعض الراقصين في الحضرة يأخذه الحال، فيزعق ويثور، إن كان الوارد قبضياً، أو يشعر بشيء من السرور والخدر اللذيذ، إن كان الوارد بسطياً، وقد يقع على الأرض، وقد يرى صوراً ينقصها الوضوح أو بعضه، وهذا يثير فيه الشهية الجارفة للوصول إلى الجذبة ويدفعه إلى المثابرة على الرياضة، مع العلم أن بعض الذين يأخذهم الحال كاذبون لا يحسون بشيء، وإنما يتظاهرون بذلك طمعاً في أن يحقق الحال المقال.

كما أن للتهوية دوراً آخر، إذ إن ارتفاع نسبة الأكسجين في الدم يؤثر على المراكز العصبية في جميع الحالات، ويجعل فعاليتها تهبط، ولو لم يشعر الراقص بذلك، وكلما زاد عدد الحضرات كلما زاد الهبوط، وهذا يساعد السالك كثيراً على الوصول إلى مقام الاستخدار، لذلك جعلوا الحضرة من المنشطات وأصروا عليها.

* ترنيمة إلى الإندورفين (مع حفظ المقام للأنكيفالين):

كنت مزقتُ شِعري، لكن البادئ أو الباده أو الطالع أو اللائح أو البارق أو اللامح، (وكلها مترادفة تعني بدايات الحال). أو الهاجم أو الوارد أو الحال (وهذه أيضاً مترادفة)، أو المقام، أيها لا أدري، أجرى في الخاطر هذه المقيصيرة فسجلتها.

أأندرفين والمسعى                    إلى إشراقك الأسنى

له التسبيح في الإعلانِ               والتمجيد في النجوى

له أبدالهم تعنو              وفيه قطبهم يفنى

أأندرفين هرمون الـ           ـولاية مانح الحسنى

إليك عروجُ سالكهم                  ومنك سحائب النعمى

طَبَتْ سُبُحات سرك سِرَّ               قلب العارف المُظما

وقرًّح جفنه ولهٌ              بخمرة ذلك المجْلى

يهيم بسُكر جذبتها                   يعبُّ يعبُّ لا يروى

بها قد باع دنياه              وعاف لأجلها الأخرى

رضي بجهنمٍ سَكَناً                    مُقابل ساعة تُجْلى

أأندرفين كنتَ لهم                    معين الخدعة الكبرى

سرابُك عندهم خلْدٌ                  وملكٌ جل لا يبلى

وفيضك قدس سرهمُ                 يقدس قدْرَ ما تطغى

فأنت محط قبلتهم                    وأنت الغاية القصوى

إليك صلاتهم حقاً                    وذكرهم وما يُتْلى

أضاعوا فيك رُشدَهُم                 فضلوا، السعْي والمسعى

- الترنيمة للإندرفين لأنني أظن أن له الدور الأساسي في الجذبة.

وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، من المفيد ملحوظة ما يلي:

المنطقة تحت المهادية (Hypothalamus) هي منطقة من الدماغ الأوسط في قاعدة المخ، حيث توجد عدة مراكز منظمة لوظائف فيزيولوجية هامة: (الجوع، والعطش، والنشاط الجنسي، والنوم، والاستيقاظ، وتنظيم الحرارة في الجسم).

وبدهي أن هذه المراكز هي أول ما يتأثر بالإندورفين، وبدهي أن هذا التأثر يغير كثيراً أو قليلاً من فعاليات هذه المراكز، وهذا يفسر ما يحدث لبعض الواصلين من بقاء مدة طويلة دون طعام أو شراب أو نوم، ومقدرة بعضهم على تحمل البرد الشديد أو الحر الشديد، وغير ذلك مما يظنونه كرامات دالة على ولايتهم.

* فيزيولوجية الرؤى أثناء الجذبة:

ما دامت مكاشفاتهم ومشاهداتهم وإشراقاتهم باطلة كلها! لأنها مدحوضة كلها بنصوص القرآن والسنة.

وما دامت دون أي رصيد في واقع الحياة والوجود!

وما دام كل ما يشاهدونه ويسمعونه ويكاشفونه هذيانات وهلوسات إندورفينية أنكيفالينية!

ما دامت كذلك! إذن فما هي؟ وكيف تحدث؟

1- هناك التمثيليات الشيطانية، لكنها في واقع الأمر ثانوية، وقد لا تقتضيها الحاجة في كثير من الأحيان، وأكثر ما تكون في حالة الصحو، فيسمونها الكرامات، ومع ذلك فهي وسيلة الخداع الأولى في الصوفية.

2- عملية الكشف والمشاهدة تجري في الدماغ، في مركز التفسير البصري، كالتالي: من المعروف أن الصور الحسية (البصرية والسمعية والشمية والذوقية واللمسية) عندما تتلقاها أعضاء الحس (العين والأذن والأنف واللسان والجلد) تحولها إلى سيالة عصبية تنقلها الأعصاب المختصة (بشكل تموجات قطعاً) مباشرة وبسرعة، إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت بصرية انتقلت إلى مركز التفسير البصري، حيث يتم هناك الإحساس بالرؤية، أي إن مركز التفسير البصري في الدماغ (تحت القشرة) هو الذي يحس بوجود الأشياء وبأطوالها وأحجامها وأبعادها وألوانها وحركاتها، أي هو الذي يفسرها بالصورة التي يعرفها كل من وهبه الله سبحانه نعمة البصر. وما كان سمعياً انتقل من الأذن إلى مركز التفسير السمعي الذي يتم به الإحساس بالصوت وارتفاعه وحدته وقربه وبعده...وهكذا.

فمراكز التفسير في الدماغ هي التي تفسر السيالة أو (الموجات) الواردة إليها، ذلك التفسير الذي يعرفه كل حي.

من مراكز التفسير الحسي تنتقل الصور مباشرة وبسرعة إلى مخازن الحفظ في الخلايا الدماغية المتخصصة بذلك والقابعة في منطقة اللاشعور في الأجزاء الداخلية من الدماغ.

وكذلك يحدث للأفكار والتخيلات والأماني والطموحات، تُخزن كلها في خلايا مخازن الحفظ المخصصة لها.

ويلاحظ بوضوح أن منطقة اللاشعور ليست مجرد مخازن صامتة تكدس فيها الصور والأفكار بجمود، وإنما هي عالم حي تجري فيه بنشاط عمليات تحليل وتركيب وإنشاء، لكن يغلب على هذه العمليات التنسيق مع العواطف والأماني المختزنة والتخيلات.

ويقرر علماء التشريح والفيزيولوجيا، بناءً على دراستهم وتجاربهم الكثيرة، أن مراكز الوعي (التذكر والإدراك والمحاكمة والضبط وتمحيص الأمور) تقع في القشرة الدماغية.

ويظهر أن خلايا المراقبة والانتقاء تتوزع بين القشرة وتمتد إلى داخل الدماغ.

ومراكز التفسير الحسي (البصري والسمعي وبقيتها) تقع تحت القشرة داخل الدماغ أيضاً.

ومن ملحوظة أحلام اليقظة، والأفكار الشاردة أثناء الاسترخاء، والأحلام المنامية، ومن دراسة أوصافهم لأحلام جذباتهم الأفيونية والإشراقية، نستطيع أن نتخيل ما يلي:

أن هناك طرقاً عصبية (حبال) بعضها صادر عن مراكز الوعي في القشرة الدماغية (التذكر والإدراك وبقيتها) وبعضها صادر عن مراكز التفسير الحسي تحت القشرة (البصرية والسمعية وبقيتها) وكلها تصب مباشرة في مخازن الحفظ في مناطق اللاشعور في الدماغ، والتي هي خلايا عصبية تعد بالمليارات وأن هناك قنوات مباشرة من مراكز التفسير الحسي إلى مراكز الوعي في القشرة (الإدراك والضبط وغيرها).

كما يلاحظ؛ مع شيء من القبول، أن هناك طريقاً، أو قناة عصبية (حبل) صادرة عن مخازن الحفظ في اللاشعور، تصب، حسب مقتضى الحال، في مركز التذكر أو التخيل في القشرة، ومن هناك تتوزع إلى المراكز الأخرى في القشرة الدماغية حسب مطلوب الفرد أو حالته.

ويلاحظ أن الطريق الواصلة بين مراكز الوعي في القشرة وبين مخازن الحفظ في اللاشعور هي، في الحالة العادية، ذات اتجاهين: من القشرة إلى مخازن الحفظ، ومن مخازن الحفظ إلى القشرة (أي: ذهاب وإياب).

والطريق الواصلة بين مراكز التفسير الحسي تحت القشرة وبين مخازن الحفظ هي، في الحالة العادية، ذات اتجاه واحد: من مراكز التفسير الحسي إلى مخازن الحفظ فقط. كما أنه من الملاحظ أيضاً أن خروج الصور الحسية والأفكار من مخازن الحفظ في اللاشعور يكون بأحد أسلوبين.

أ- أسلوب إرادي انتقائي، لا تخرج فيه إلا الصور المطلوبة، وهذا يدل على وجود خلايا دماغية وظيفتها الإشراف على إفراز الصور والأفكار المطلوبة وإخراجها إلى مركز أو أكثر من المراكز المناسبة في القشرة الدماغية، أي: إن هذه الخلايا الدماغية هي مراكز مراقبة أو (رقيب) ويظهر أن جزءاً من هذه الخلايا أو (الحبال) الرقيبة واقع في منطقة اللاشعور، فهو يعمل دون أن يشعر به الكائن الحي.

ب- أسلوب لا إرادي، تتسرب فيه الصور والأفكار عفوياً (حسب الظاهر) وتجري هذه العملية في حالة الشرود الذهني والاسترخاء وفي حالة النوم (الأحلام) وفي الجذبة (الكشف)، عندما تكون مراكز الوعي والرقيب فاقدة فعالياتها.

كما يلاحظ أيضاً وبوضوح، أن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في مناطق الوعي تكون متناسقة مع واقع الحياة والوجود على قدر استيعابها لهذا الواقع.

وأن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في منطقة اللاشعور تكون متناسقة مع العواطف والأماني والمخاوف الكامنة، تأخذ موادها الأولية منها ومن المعلومات المختزنة، فتحللها وتركب منها صوراً جديدة تتفق والأماني المختزنة والعواطف، ويلعب فيها الذكاء الفطري للفرد وسعة خياله دوراً ملحوظاً، لذلك، غالباً ما تقفز فوق الواقع والمعقول.

- وهناك حقائق تشريحية وفيزيولوجية تساعد معرفتها على معرفة كيفية حدوث الرؤى الجذبية، بل والمنامية أيضاً:

- يتألف الحبل العصبي من خلايا عصبية متصلة ببعضها، تنتقل السيالة العصبية فيها من خلية إلى جارتها حتى تصل إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، أو إلى القشرة الدماغية.

- الخلية العصبية، ويسمونها (العصبون) أو (النورون) تعريباً من (neurone) لا تستطيع الانقسام، وينتهي طرفاها بخيوط دقيقة متشعبة، تجتازها السيالة باتجاه واحد([33]).

- بالقرب من منتهيات العصبونات، بملامسة التلاحمات العصبية، توجد حبيبات([34]) تحتوي على مكونات آمينية يسمونها (الآمينات الوسيطة).

- ما بعد منطقة التلاحم هذه يوجد تلاحم آخر غني بحويصلات كبيرة (نسبياً) كروية تختزن مادة ببتيدية (أي: لها نفس مفعول الإندورفين) يسمونها (المادة: P). وقد أثبتت الدراسات أن (المادة: P) والأنكيفالين والمستقبلات المورفينية تبدي نفس التوزع. و(المادة: P) هذه هي حموض نووية (كالآمينات) لها دور هام في تأمين نقل الشيفرات الألمية عبر الألياف الناقلة للألم.

- تمر السيالة العصبية الحاملة لحسِّ ما من أول العصبون إلى آخره، وهناك يتحرر عدد من الآمينات الوسيطة من حبيبات ادخارها لتصطدم بمنتهيات العصبون المجاور لتنقل إليه السيالة، أو لتحرض فيه سيالة مماثلة، أما (المادة: P) ففي نقل الألم.

- تقوم أدوية الجملة العصبية المركزية (الأفيونيات ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتأثير منتشر، منبه أو مثبط، لجميع التلاحمات العصبية (أي: مكان اتصال العصبونين المتجاورين)...ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية مختلفة الشدة، وذلك بتنشيط أو إبطاء استقلاب الآمينات الوسيطة، أو بالتدخل في وظائف هذه المواد (الآمينات الوسيطة)...

- وفي الحقيقة أصبح من المقبول اليوم أن السيالة العصبية عندما تبلغ نهاية النورون العصبي حذاء المركز، يتحرر من هذه النهاية عدد من الآمينات الوسيطة وتنتشر لتنبه أو تثبط نوروناً آخر([35])...اهـ

- ألفتُ النظر إلى قوله: (ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية).

ويقول في مكان آخر:

إن آلية التأثير العام لهذه الأدوية (المخدرات العامة) التي تستند على وجود ولع اصطفائي مختلف الشدة بينها وبين المراكز العصبية المنتشرة على طول المحور الدماغي النخاعي([36])...

ويقول: إن اكتشاف بعض المركبات الكيمياوية، كعقار الهلوسة (L S D) والمسكالين وغيرهما، وملحوظة أن هذه المواد قد تسبب تبدلات عميقة في التصرفات تصل لدرجة الإهلاس، كل هذا لفت انتباه الدوائيين الجدد إلى إمكان وجود علاقة بين اضطرابات السلوك والتصرف، وبين بعض المركبات الكيمائية التي تبدي ولعاً اصطفائياً خاصاً بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي. وقد ارتقت نظرية التأثير الاصطفائي إلى أبعد من ذلك([37])...اهـ.

- هذه التقارير منقولة عن الدكتور أكرم المهايني في كتابه علم الأدوية الخاص، مع قليل من التصرف للتخلص من التعقيدات والتفصيلات التي لا تهمنا في بحثنا.

يهمنا من هذه التقارير:

- الآمينات الوسيطة التي تنتقل من نهاية عصبون إلى بداية جاره لتنبيهه بتحريض السيالة، أو تثبيطه.

- دور الأدوية المؤفينة (ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتنشيط الآمينات أو إبطائها (تثبيطها) أو تقويتها.

- تأثير هذه العقارات الأفيونية على أماكن مصطفاة من الأعصاب ومن الدماغ، وخاصة بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي، وهو الموضوع الذي نحن بصدده في كتابنا.

- وهذه الأماكن والأجزاء العصبية التي لديها القابلية للتأثر بهذه العقارات المخدرة يسمونها (المستقبِلات).

يقول الدكتور أكرم المهايني عن مجموعة الأنكيفالين:

...تتثبت بشدة على المستقبلات المورفينية، وتتوزع في الجسم بشكل يتماشى مع توزع هذه المستقبِلات([38])...

ويقول عن مجموعة الأندرفين:

...وأثبتت الدراسات التجريبية...عام 1976م، بأن لهذه الببتيدات أيضاً ولع شديد بالمستقبِلات المورفينية([39])...

- من كل هذا، نرى أن الإندورفين والأنكيفالين اللذين يفرزهما الدماغ لهما نفس مفعول المورفين بصورة دقيقة، وإن كان الأنكيفالين أضعف منه، والأندرفين أقوى في بعض الحالات. وهذه التقارير العلمية، مضاف إليها ما رأيناه في الفصول السابقة من تشابه كامل بين حالة الجذبة الأفيونية الهلوسية ورؤاها وبين حالة الجذبة الصوفية ورؤاها، كل هذا يجعل التأكد كاملاً، ولا يترك مكاناً لأي شك أو تساؤل أو تردد بأن الجذبة الصوفية ورؤاها هي تهليس إندرفيني أنكيفاليني، وأن الرياضة الصوفية وعلى رأسها الذكر الإرهاقي تعمل على زيادة الكمية المفرزة من هاتين المادتين بشكل مَرَضي دائم، كما تعمل، بإرهاقها الدماغ مدة طويلة، على إضعافه إضعافاً كافياً للتأثر بهذه الكمية الجديدة من إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما.

وبالتالي تكون الصوفية، أو الإشراق، أو المعرفة، أو الكهانة، أو ما شئت غيرها من الأسماء التي أطلقوها، تكون خدعة إبليسية كبرى، وهي السبب الأساسي لانحراف الإنسانية عن الفطرة التي فطرها الله سبحانه عليها.

ولزيادة الفائدة وزيادة تأكيدها، نصان آخران.

يقول الدكتور أكرم المهايني:

...ويحسن بنا التذكير، بأن زوال الألم بفعل المورفين (ومثله الإندورفين والأنكيفالين طبعاً) لا يؤلف سوى وجه واحد من أوجه تأثيراته المتعددة، فطيف تأثيره يشمل أيضاً- بشكل أعم- السلوك والتصرفات.

...ولوحظ أيضاً وجود فرط نشاط إندورفيني في السائل الدماغي الشوكي لدى المصابين بالفصام (الجنون) المترقي([40])...

- أقول: يعرف القارئ الآن أن الفصام المترقي هو مقام (جمع الجمع)، وأن المصاب به هو الذي يسمونه (المراد)، ولو أجريت الفحوص اللازمة لهؤلاء الأولياء الأحياء الذين نسمع بهم، وخاصة عندما يكونون في مقام القرب، لوجد فرط النشاط الإندورفيني في السائل الدماغي الشوكي عندهم.

ومن هنا يبرز الترجيح، أن الإندورفين هو صاحب الدور الأساسي، أو الرئيسي في الجذبة.

- والآن نستطيع أن نتخيل كيفية حدوث الرؤى الكشفية والأفيونية:

الظاهر أن مناطق اللاشعور في الدماغ تبقى في نشاط مستمر في جميع الحالات، شأن أجهزة الجسم اللا إرادية.

وواضح للمتأمل أن القناة العصبية التي تخرج فيها الصور من مخازنها في خلايا اللاشعور إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، هذه القناة، أو القنوات، هي من مستقبِلات المورفين، ولذلك، عندما تغدو كمية الإندورفين المفرزة كافية، بتحريض الرياضة الصوفية، تتفاعل معها هذه المستقبِلات، فتتثبط الآمينات الوسيطة على طول الحبل العصبي الواصل بين المخازن والقشرة، وتغدو هذه الطريق مغلقة، ويظهر أن خلايا الرقابة العليا يصيبها نفس الشيء، كما أن مستقبِلات الأفيون في كل الجملة العصبية يصيبها نفس الشيء، وهذه هي الجذبة.

إن فقدان المجذوب الإحساس بما حوله جزئياً أوكلياً (حسب كمية المهلس) هو دليل لازم كاف على أن الآمينات الوسيطة قد ثبطت، فتوقفت السيالات التي تحمل الإحساسات من أعضاء الحس (العين والأذن...) إلى القشرة الدماغية.

هذه هي الجذبة، وهذه هي الولاية (مرحباً ولاية).

ويظهر أن هذه الولاية تصيب أيضاً خلايا الرقابة في الدماغ، فتأخذ خلايا اللا شعور حريتها بتحليل الصور والمعلومات المختزنة، وغيرها، لتركب منها صوراً جديدة متناسقة مع عواطف المجذوب ورغباته، بل لعل العواطف والرغبات هي التي تحرك عملية التحليل والتركيب.

تخرج هذه الصور الجديدة، وغالبيتها بصرية، على غفلة من الرقيب المخدّر بشكل سيالات عصبية، لعلها موجية (وهو المنطقي)، في الطريق المعتاد الذي طبعت عليه، أي إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، لكنها تجد منافذها مغلقة، وتجد إلى جانبها منفذاً آخر، وهو الطريق ذات الاتجاه الواحد التي تخرج من مراكز التفسير الحسي وتصب في المخازن، وهي، بدهياً، تقع داخل الدماغ، فتعبرها اضطراراً مخالفة للعادة في الحالة العادية، حيث تصل إلى مراكز التفسير الحسي. ولعل (المادة: P) لها دور في فتح هذه القناة بصورة معكوسة.

بما أن غالبية الصور بصرية، لذلك تذهب إلى مركز التفسير البصري، فيفسرها ويحس بها كما لو كانت آتية عن طريق العين، ويراها المجذوب مجسمة ماثلة أمامه كأنها شيء واقع حقيقي؛ لأن مركز التفسير مطبوع على التأثر بأية موجة تصله، ليفسرها ويرسلها مفسرة إلى مركز الإدراك في القشرة، ولا علاقة له بمصدرها ولا بالطريق الذي سلكته.

وتذهب الصور السمعية إلى مركز التفسير السمعي، واللمسية إلى مركز التفسير اللمسي...وهكذا.

وعندما يصل الخدر خفيفاً إلى الطرق الواصلة بين المخازن ومراكز التفسير الحسي، عندئذ يختلط الحابل بالنابل، ويختلط السمع بالبصر بالشم بالذوق باللمس، فتذهب الموجات البصرية إلى مركز تفسير حسي (بصري أو غير بصري) وكذلك السمعية والشمية والذوقية واللمسية، فتحدث لهم الرؤى التي لا يستطيعون وصفها، وتوهمهم شياطينهم، ويصور لهم غرورهم أن الأنبياء كانوا كذلك! وتوهمهم جذباتهم أن الجنة كذلك.

وعندما يزيد المخدِّر عن حده، ويتغلغل في الدماغ يصاب المجذوب بالجنون أو الشلل أو الموت.

هكذا تحدث أحلام الجذبة بجميع أنواعها سواءً أكانت مورفينية أو إندورفينية، أي سواء كانت جذبة تحشيش أو جذبة إشراق.

ولعل من آثار الإندورفين أيضاً تمييع الخلايا العصبية، وخاصة خلايا القشرة الدماغية، تمييعاً خفيفاً طبعاً؛ لأن هذا يمكن أن يكون تعليلاً لما يرونه من تضخيم الأبعاد قليلاً أو كثيراً، ومن إطالة الزمن أو تقصيره، ومن رؤية فراغات لا نهائية أو رؤية الأشياء شفافة أو لا وجود لها...وذلك لأن الخلايا المدْرِكة في القشرة، عندما تتميع، يمكن أن يتغير شكلها باتجاه أو بآخر بسبب الضغوط حولها، فيحدث ذلك التشويه في الإدراكات، كما يمكن أن يكون حدوث هذا التميع في مراكز التفسير ذاتها.

وهنا يأتي دور الشيخ؟

فلولا الشيخ لكانت الرؤى متشابهة مع بعضها في الجذبتين (جذبة التحشيش وجذبة الإشراق). لكن توجيهات الشيخ وإيحاءاته المتناسقة مع تجاربه السابقة، تحقن المريد بالعواطف والطموحات التي توجه رؤاه إلى العروج في السماوات والمحاضرات والمكاشفات والمشاهدات والفناءات والتحقق بالأسماء والصفات، ورؤية جبل قاف وكاف وعين وصاد، وغيرها، حيث يرى السالك منها ما يتناسب مع استعداداته الفكرية والإندورفينية.

ولهذا السبب كان الشيخ هو الأصل في طريقهم، ولهذا السبب قالوا: من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن من لا شيخ له تكون رؤاه مثل رؤى حشاشي الحشيش والمورفين وزمرتهما، ولهذا السبب كان الخضوع الكامل للشيخ أساساً ليسهل انطباع توجيهاته وإيحاءاته في أعماق المريد.

مساكين! الحشاشون والمورفينيون! مساكين!

فلو كان لهم شيخ يوجههم، لذاقوا أيضاً الفناءات، وتحققوا بالأسماء والصفات، وتصرفوا بالكون، ولكان منهم الأبدال والأقطاب والأغواث.

أما قولهم بالتصرف في الكون، هذا الهذيان المضحك المبكي (وكلهم هذيانات مضحكة مبكية) فقد رأينا مثله عند حشاش عقار الهلوسة، الذي يكفي، في بعض الحالات، أن يتخيل شيئاً أو يتمنى رؤيته حتى يراه أمامه مجسماً.

ومثل هذا يحصل لبعض الواصلين الذين صار خَلَل غددهم المفرزة للهرمونين مقاماً عالياً، فقد يمر بخاطره عرش الرحمن مثلاً، فيراه أمامه مجسماً كما يتصوره بوهم جذبته، لا كما هو على حقيقته التي لا يعلمها إلا الله.

وقد يخطر على بال جذبته أن ينقله من مكان إلى مكان، فيقول له: (انتقل) فيراه قد انتقل.. وهكذا. وهذا ما يسمونه (التصرف في عالم الملكوت).

وكذلك ما يحدث لبعضهم أحياناً من اضطراب في إحساسه بالزمن حيث يحس أنه قطع سنين طويلة في جذبة لم تدم سوى دقائق قليلة! مثل هذا ما رأيناه يحدث لمجذوب المهلسات...

والرجاء من القارئ أن يعود إلى مفعول المخدرات في أول هذا الفصل لتتوضح أمامه ما هي كشوفهم ومعارفهم وعلومهم اللدنية.

والآن، نستطيع أن ندرك بصورة أوضح وأدق، دور الرياضة الصوفية. فهي بعناصرها التي عرفناها والتي يُجْملها قولهم: (اخلع نعليك، الدنيا والآخرة)، تقلل الإحساسات الذاهبة إلى الدماغ تقليلاً كبيراً، وهذا يعني أن السيالات العصبية تقل كثيراً، وهذا يعني كذلك أن الآمينات الوسيطة يقل عملها كثيراً، ومع الزمن تصاب بالكسل، ومع تطاول الزمن بالمثابرة على الرياضة، ومع تكاثر الإندورفين والأنكيفالين بسبب الرياضة أيضاً، يغدو كسل الآمينات الوسيطة مقاماً عالياً، وتغدو مستعدة للشلل أو ما يشبهه بكمية من المخدر أقل من الذي تحتاجه في الحالة العادية، أي: تصل إلى مقام الاستخدار، والذكر الإرهاقي يقوم بنفس المفعول، وإذا ساعدته عناصر أخرى من الرياضة كان أسرع، ولعل التلاحمات العصبونية المحيطة بالدماغ هي محل العمليات المذكورة، وذلك لتكاثر الإندورفين في السائل الدماغي الشوكي أثناء الجذبة.

* فقرات معترضة:

* إكسير الولاية:-

تسهيلاً على المريدين وتيسيراً لهم للوصول إلى الولاية والصديقية والغوثية والألوهية بيوم أو يومين، وبدون تعب ولا خلوة ولا جوع ولا سهر، نقترح على الشيوخ العارفين الكمل، ذوي المدد العظيم من الأموال التي تنهمر عليهم من المخدوعين والغافلين، أن يكلفوا واحداً أو أكثر من علماء الكيمياء الطبية، لتحضير نوعين من العقاقير:

أ- عقار يسبب هبوط فعالية الآمينات الوسيطة بشكل دائم (الاستخدار).

ب- عقار آخر يحدث خللاً يضخم الغدد الدماغية المفرزة للمخدرين ويزيد إفرازها زيادة كافية.

عندئذ تصبح الولاية والقطبية والألوهية في متناول الجميع! فكل من يريد التحقق بالأسماء والصفات والفناءات في الذات والتصرف في الكون، ما عليه إلا أن يذهب إلى صيدلية يشتري منها (إكسير الولاية) المكون من عقارين:

- العقار الأول: يأخذه في اليوم الأول، حيث يجتاز كل المقامات في ساعات، ويصل إلى مقام الاستخدار.

- العقار الثاني: يأخذه في اليوم الثاني، حيث تخرق له الحجب وتكشف الغيوب بعد ثوانٍ أو دقائق.

لكن الشيخ يبقى لازماً لا بد منه في جميع الحالات! إذ بدون إيحاءاته وتوجيهاته لن يستطيع المريد الوصول إلى الألوهية، لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومن لم يكن بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل فلا يمكن لإيحاءات الشيخ أن تنطبع في أعماقه لتصبح جزءاً هاماً من أمانيه وطموحاته.

وصحبة شيخ وهو أصل طريقهم               فما نبتت أرض بغير فلاحة

ولهذا، فلن يكون إكسير الولاية خطراً على المدد الذي ينهمر على الشيوخ، بل بالعكس، سيزيد كثيراً عدد السالكين بسبب سهولة (الطريقة الإكسيرية)، وبذلك سيزداد كثيراً مدد الشيخ، كما سيحتاجون إلى عدد أكبر من الشيوخ الكمَّل.

* أحلام النوم:-

فيزيولوجية أحلام النوم تشبه فيزيولوجية أحلام الجذبة، مع فارق هو:

في الجذبة: يبقى خدر الدماغ سطحياً وثابتاً في موضعه طيلة الجذبة، بينما تكون بقية أجزاء الدماغ متمتعة بنشاطها المعتاد إلا في حالة (الفناء عن الفناء) أو جمع الجمع.

وفي النوم: يبدأ النوم سطحياً (في القشرة الدماغية) حيث تحدث الأحلام، وتكون أجزاء الدماغ الأخرى في حالة هبوط تدريجي نحو النوم، فحالة الهبوط تجعل الحلم غامض الموضوع، والتدرج نحو النوم الكامل، أو بالعكس، يسبب القفزات في تسلسل حوادثه.

وعندما يصل النوم إلى مراكز التفسير الحسي تنقطع الأحلام.

* هل سيبصر الأعمى:-

لا أظنه بعيداً، ذلك اليوم الذي يذهب فيه الأعمى إلى الصيدلية ليشتري (جهاز إبصار) يضعه على رأسه، ترتبط به نظارات يضعها على عينيه، ثم يخرج وهو يرى الحياة كما يراها البصير العادي. وتحدث عملية الرؤية كالتالي:

تقع الأشعة المنعكسة عن الأشياء على نظارات الجهاز (مثل وقوعها على العين العادية) وترتسم صورها عليها.

تتحول هذه الصور إلى موجات كهرطيسية تسري عبر شريط ناقل إلى الجهاز الموضوع في مكان معين فوق الرأس.

يحول هذا الجهاز الموجات الكهرطيسية إلى موجات عصبية مناسبة تخترق الجمجمة والقشرة الدماغية حتى تصل إلى مركز التفسير البصري الذي يفسرها كما لو كانت آتية إليه عن طريق العين، إذ كل ما يريده مركز التفسير البصري هو أن تصله موجات عصبية مناسبة، ليفسرها ويحس بها ذلك الإحساس الذي يعرفه كل كائن حي بصير.

أما من أين أتت تلك الموجات؟ وكيف؟ وفي أي طريق؟ فهذا لا شأن له به.

وهكذا تحل مشكلة العميان حلاً جذرياً أو شبه جذري، كما يستطيع أي إنسان أن يستعمل هذا الجهاز للتسلية، أو لضرورة ما.

* جهاز فيديو يغني عن الشيخ والرياضة وعن إكسير الولاية:-

نفس جهاز الإبصار الذي يضعه الأعمى على رأسه، يرتبط به جهاز فيديو خاص (بدلاً من النظارات).

يستطيع صاحب الجهاز أن يقتني مجموعة كبيرة من أشرطة الفيديو التي سجلت عليها مناظر متنوعة الأشكال والمواضيع.

فما على المرء إذا أراد أن يقوم بسياحة إلى إندونيسيا، مثلاً، إلا أن يضع الجهاز على رأسه، ويضع في الفيديو الشريط المناسب، ويحرك الزر المطلوب، ثم تبدأ الرحلة! فيرى نفسه ذاهباً إلى وكالة سفريات، حيث يشتري بطاقة طائرة، وفي اليوم التالي يستيقظ من النوم باكراً، ويذهب إلى المطار، ويختلط بالمسافرين، ويقف بدوره أمام رجل الأمن المكلف بمراقبة الأمتعة، وبعد أن ينتهي من كل المشاكل، يعبر إلى المدرج، ويصعد إلى الطائرة ليجلس على مقعد فوق مؤخرة جناح الطائرة الأيمن، ويجلس إلى جانبه شاب يمضغ لباناً في فمه مما يثير في نفسه الضيق والحنق معاً... وتتحرك الطائرة وتحلق في الجو، وينظر صاحبنا من النافذة ليمتع نظره بالأرض التي تطوى تحته ببطء لتظهر أرض غيرها...وهكذا حتى يصل إلى مطار لاهور...إلى آخر الرحلة وتفاصيلها... بينما هو في حقيقة الأمر قابع في غرفته لم يتحرك من مكانه!

وإن كان صاحبنا من المريدين الذين لا يريدون إلا وجهه (؟) فيضع في الفيديو شريط الولاية، وإن أراد الحسنى (؟) وضع شريط العروج إلى الله (جل الله وعلا علواً كبيراً)، فيرى الملائكة تتنزل عليه وتقول له: (لا تخف ولا تحزن)...ويرفعه أحدهم...حتى يعبر السماوات ويصل إلى العرش (في قصة طويلة ومناظر متنوعة مذهلة) وهناك تحدث له الفناءات والتحققات والتصرفات، ويذوق من معاني اسمه الصمد والرب والرحمن، حتى الاسم الأعظم.

وهكذا... إلى آخر المناظر المسجلة على الشريط، وعلى بقية الأشرطة.

 

 

 

([1]) إدمان المخدرات، (ص:114، 115).

([2]) إدمان المخدرات، (ص:51، 52).

([3]) إدمان المخدرات، (ص:124).

([4]) إدمان المخدرات، (ص:126، 127).

([5]) الحشيش قاتل الإنسان، (ص:24، 25).

([6]) إدمان المخدرات، (ص:43).

([7]) إدمان المخدرات، (ص:54).

([8]) إدمان المخدرات، (ص:61، 62).

([9]) إدمان المخدرات، (ص:45).

([10]) إدمان المخدرات، (ص:131، 132).

([11]) إدمان المخدرات، (ص:146).

([12]) إدمان المخدرات، (ص:). 147.

([13]) الحشيش قاتل الإنسان، (ص:9).

([14]) المخدرات، (ص:115).

([15]) المخدرات، (ص:152).

([16]) المخدرات، (ص:106).

([17]) المخدرات، (ص:9).

([18]) المخدرات، (ص:23).

([19]) المخدرات، (ص:23).

([20]) المخدرات، (ص:51).

([21]) فيشنو هو الإله الحافظ عند الهندوس.

([22]) المخدرات، (ص:66، 67).

([23]) إدمان المخدرات، (ص:123).

([24]) إدمان المخدرات، (ص:155).

([25]) مدحوة: أي مقذوفة ومدحرجة.

([26]) الكاتب هو: عطارد.

([27]) أطلق عليها أحد الأدباء الشباب اسم (التحشيش الروحاني).

([28]) ليس لدي من المراجع ما يعينني على معرفة المنطقة التي تفرزها.

([29]) يوجد عدة أنواع لكل من الأنكيفالين والإندورفين.

([30]) يوجد عدة أنواع لكل من الأنكيفالين والإندورفين.

([31]) أستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق حتى كتابة هذه الكلمات.

([32]) علم الأدوية الخاص، (ص:304، 305).

([33]) عن المعجم الفرنسي (Larousse).

([34]) التعامل مع هذه الحبيبات يكون بالمجهر الالكتروني لصغرها.

([35]) علم الأدوية الخاص، (ص:4)، مع شيء من التصرف، (المادة: P) (ص:308، 309).

([36]) علم الأدوية الخاص، (ص:6).

([37]) علم الأدوية الخاص، (ص:7).

([38]) علم الأدوية الخاص، (ص:304).

([39]) علم الأدوية الخاص، (ص:305).

([40]) علم الأدوية الخاص، (ص:310، 311).

  • الخميس PM 04:15
    2021-08-12
  • 1733
Powered by: GateGold