ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
تلاعب الشيطان بعقول اليهود
مـقـدمـــة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا جزء منتقى من كتاب «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» لشمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، يُــبين التغير التدريـجي الذي حصل في عقيدة اليهود على مر القرون، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من التناقض والاضطراب الشديد.
والذي دعاني لإفراد هذا الجزء كونه مغمورًا في الكتاب المشار إليه، فربما لا يفطن الناس له، لا سيما اليهود، فأخرجته مستقلًّا، ليعم النفع ويسهل الانتشار.
والهدف الكلي من نشر هذا الجزء ليس هو مغالبة اليهود على دينهم أو الانتصار لمنهج معين، لا والله، وإنما هو بيان الخلل الحاصل، ثم التعاون للوصول إلى الطريق الذي أراده الله تعالى لعباده كلهم، وبيَّـــنه على لسان أنبيائه، ولم يرتضِ طريقًا غيره.
ومن الجدير بالذِّكر في هذا المقام أنه لما حصل الاضطراب بين أهل الكتاب - اليهود والنصارى - في عقائدهم؛ لم يتركهم الله تعالى - حيارى مضطربين، بل أرسل إليهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، وهو محمد (صلى الله عليه وسلم)، ليردَّهم إلى جادة الصواب.
وقد جاءت الإشارة إلى هذا النبي في التوراة والإنجيل، والمنصفون من اليهود يعلمون تلك الإشارات، ولذا يحصل التحول عندهم إلى دين الإسلام، لأنهم علموا أن اتِّــباع دين محمد ما هو إلا اتباع لتعاليم موسى عليهما جميعًا أفضل الصلاة والسلام.
وأما ابن القيم (رحمه الله) فهو محمد بن أبي بكر بن سعد الزُّرَعي ثم الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، من علماء المائة الثامنة، لازم شيخه ابن تيمية إلى أن مات سنة 728، فكان من كبار تلامذته، ثم حمل بعده لواء الدعوة والجهاد العلمي إلى أن مات سنة 751، كان واسع المعرفة، قوي الحجة، دقيق الاستنباط، كثير المصنفات، ومؤلفاته مقبولة عند جميع الناس، حتى صار مَن بعده عيالًا عليه، نصر العقيدة الإسلامية نصرًا مؤزَّرًا، ورد على المبتدعة نظمًا ونثرًا، لاسيما المتفلسفة والقبورية والمؤولة والمتصوفة، رحمه الله رحمة واسعة، فقد جدد هو وشيخه - ابن تيمية - دين الله، فكانا منعطَفًا في حياة الأمة الإسلامية.([1])
وبعد: فقد اعتمدتُ في إخراج هذا الجزء على الله تعالى أولًا، ثم على النسخة التي نشرتها دار عالم الفوائد بتحقيق المحقق الفاضل محمد عزير شمس حفظه الله([2])، فهي الأصل، وربما أشرت في بعض المواطن إلى فروق عن النسخة المنشورة من قِــبَـــلِ دار ابن الجوزي، والتي حققها فضيلة الشيخ الـمحقق علي بن حسن بن عبد الحميد (رحمه الله)([3]).
والله أسأل أن يوفق جميع الناس لسلوك طريق الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده كلهم، إنسهم وجنهم، كما قال تعالى: ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وكتبه، ماجد بن سليمان،
في صبح الثاني والعشرين من شوال، لعام 1433 هجري.
Think.logic.always@hotmail.com
{تلاعب الشيطان بعقول اليهود}
قال ابن القيم (رحمه الله) في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»:
{فصلٌ في ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود}
قال الله تعالى في حقهم: ﴿ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾([4])، وقال تعالى: ﴿ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾([5])، وقال تعالى: ﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾([6]).
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراطَ الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون.([7])
فأوَّل تلاعبِ الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيها، وقرب العهد بإنجائهم من فرعون، وإغراقه وإغراق قومه، فلما جاوزوا البحر رأوا قومًا يعكُفون([8]) على أصنام لهم فقالوا: ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾([9])، فقال لهم موسى (عليه السلام): ﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾([10])، فأيُّ جهلٍ فوق هذا، والعهد قريب، وإهلاك المشركين أمامهم برأيِ عيونهم، فطلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم إلـٰهًا، فطلبوا من مخلوقٍ أن يجعلَ لهم إلـٰهًا مخلوقًا، وكيف يكون الإلـٰه مجعولًا؟ فإن الإلـٰه هو الجاعل لكل ما سواه، والـمجعول مربوب مصنوع، فيستحيل أن يكون إلـٰهًا.([11])
وما أكثرَ الـخَـلَفَ لهؤلاء في اتخاذ إلـٰهٍ مجعولٍ، فكل من اتخذ إلـٰهًا غير الله فقد اتخذ إلـٰهًا مجعولًا، وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان في بعض غزواته، فمرُّوا بشجرة يُعلِّق عليها المشركون أسلحتَهم وشاراتِـهم([12]) وثيابَـهم، يُسمونها «ذاتَ أنواط»، فقال بعضهم: يا رسول الله، اجعل لنا «ذات أنواط» كما لهم «ذات أنواط».
فقال: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: ﴿ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾.
ثم قال: لتركبُـنَّ سَـنَنَ([13]) مَن كان قبلكم (حَذو القُذَّةِ بالقُذَّة)([14]).([15])
فصلٌ، ومن تلاعبه بهم عبادتُهم العِجلَ من دون الله تعالى([16]) وقد شاهدوا ما حلَّ بالـمشركين من العقوبة والأخذةِ الرَّابية([17])، ونبيهم حيٌّ لم يمت، هذا وقد شاهدوا صانعَه يصنَعُهُ ويصُوغه ويُصليه النارَ، ويدُقُّه بالمطرقة، ويسطو عليه بالمبرد، ويُقلِّبه بيديه ظهرًا لبطنٍ.
ومن عجيب أمرهم أنهم لم يكتفوا بكونه إلـٰهَهم حتى جعلوه إلـٰهَ موسى، فنسبوا موسى (عليه السلام) إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعًا عن نفسه، بحيث يُضرب به المثل في البلادة والذل، فجعلوه إلـٰهَ كليمِ الرحمـٰن ([18]).
ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى (عليه السلام) ضالًّا مخطئًا فقالوا: ﴿ﭜ﴾، قال ابن عباس: أيْ: ضلَّ وأخطأ الطريق.
وفي رواية عنه: أيْ إنَّ موسى ذهب يطلب ربه فضلَّ ولم يعلم مكانه.
وعنه أيضًا: نسِيَ أن يذكر لكم أن هذا إلـٰهُه وإلـٰهُكم.
وقال السُّدِّي: أي ترك موسى إلـٰهَه هـٰهنا وذهب يطلبه.
وقال قتادة: أي إنَّ موسى إنما يطلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر.
على هذا القول: المشهور أن قوله: ﴿ﭜ﴾ من كلام السَّامري وعُبَّاد العِجل معه.
وعن ابن عباس روايةٌ أخرى: أنَّ هذا من إخبار الله تعالى عن السامري أنه نسي، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان.
والصحيح القول الأول، والسياق يدل عليه، ولم يذكر البخاري في «التفسير» غيرَه، فقال: هم يقولونه: أخطأ الرب.([19])
فإنه لما جعله إلـٰه موسى استحضر سؤالًا من بني إسرائيل يورِدونه عليه فيقولون له: إذا كان هذا إلـٰه موسى، فلأيِّ شيء ذهب عنه لموعدِ إلـٰهِهِ؟
فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله: ﴿ﭜ﴾.
وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم، فانظر إلى هؤلاء كيف اتخذوا إلـٰهًا مصنوعًا مصُوغًا من جوهرٍ أرضيٍّ، إنما يكون تحت التراب، محتاجًا إلى سبكٍ بالنار، وتصفيةٍ وتخليصٍ لِـخبثه منه، مدقوقًا بمطارق الحديد، مُقلَّبًا في النار مرة بعد مرة، قد نُحِت بالـمَبارد، وأَحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذُّل والضَّيم، وجعلوهُ إلـٰهَ موسى، ونسبوه إلى الضلال حيث ذهب يطلب إلـٰهًا غيرَه.
قـــــال مـحمد بن جـــــرير([20]): (وكان سبـب اتـــخاذهم العــجل ما حدثــنـي به عـــــبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال: حدثنا سفيان بن عيـينة قال: حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابُه، وكان فرعون على فرسٍ أدهمَ([21])، ذنوبٍ([22]) حصانٍ، فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحــم في البحر، فتمثَـل له جبـريل على فرس أنثى ودِيق([23])، فلما رآها الحصان تقحَّم خلفها.
قال: وعرَف السامري جبريل ... فقبض قبضة من أثر فرسه، قال: أخذ من تحت الحافر قبضةً.
قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: ﴿فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول﴾.
قال أبو سعيد: قال عكرمة عن ابن عباس: وأُلقِي في رَوعِ([24]) السامري: إنك لا تُلقيها على شيء فتقول: (كن كذا وكذا) إلا كان.
فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر وأغرق الله آلَ فرعون قال موسى لأخيه هارون: ﴿ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾، ومضى موسى لموعد ربه.
قال: وكان مع بني إسرائيل حُلِـيٌّ من حُليِّ آل فرعون قد تعوَّروه([25])، فكأنهم تأثَّـموا منه، فأخرجوه لتنـزِل النار فتأكله، فلما جمعوه قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا، فقذفها فيه ... وقال: (كن عِــــجلًا جسدًا له خُوار([26]))، فصار عجلًا جسدًا له خوار، وكان يدخل الريح من دُبُره ويخرج من فِيهِ، يُسمع له صوتٌ، ﴿ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾، فعكفوا على العِجل يعبدونه، فقال هارون: ﴿ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾).([27])
وقال السُّدِّي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر؛ أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحُلي من القِبط([28])، فلما نجَّى الله موسى ومَن معه مِن بني إسرائيل من البحر وأغرق آلَ فرعون؛ أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فَرَس، فرآه السامري فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: (إن لهذا لشأنًا)، فأخذ من تربة حافر الفرس، فانطلق موسى (عليه السلام) واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة، فأتمَّها الله تعالى بعشر، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تَـحِلُّ لكم، وإن حُلي القبط إنما هو غنيمة فاجمَعوها جميعًا واحفِروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلَّها أخذتموها.
فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلًا جسدًا له خوار، فلما رأوه قال لهم السامري: ﴿ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ﴾، يقول: (ترك موسى إلـٰهَه هـٰهنا وذهب يطلبه)، فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخورُ ويمشي، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل ﴿ﭲ ﭳ ﭴ﴾، يقول: إنما ابتُليتم بالعِجل وإن ربكم الرحمـٰن، فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يُقاتلونهم، وانطلق موسى إلى الله يكلمُه، فلما كلمه قال له: ﴿ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾، فأخبره خبرَهم، قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتَّخذوا العِجل، فالرُّوح مَنْ نفخَها فيه؟
قال الرب تعالى: أنا.
قال: يا رب أنت إذًا أضللتهم.
وقال ابن إسحاق: عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فكان يحب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هارون: (أنتم قد حملتم أوزارًا من زينة القوم آل فرعون وأمتعةً وحليًّا، فتطهَّروا منها فإنها نَـجَس)، وأوقد لهم نارًا فقال: (اقذِفوا ما كان معكم من ذلك فيها)، فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي فيقذفون به فيها، حتى إذا انكسر الحلي فيها ورأى السامري أثر فرس جبريل؛ فأخذ ترابًا من أثر حافره ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: (يا نبي الله، أُلقِي ما في يدي؟)، ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي والأمتعة، فقذفه فيها فقال: (كن عجلًا جسدًا له خوار)، فكان البلاء والفتنة فقال: (هذا إلـٰهكم وإلـٰه موسى)، فعكفوا عليه وأحبُّوه حبًّا لم يُـحبُّوا شيئًا مثله قط.
يقول الله (عز وجل): ﴿ﭜ﴾، أي ترَك ما كان عليه من الإسلام - يعني السامري - ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾، فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: ﴿ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾، فأقام هارون فيمن معه من المسلمين([29]) ممن لم يُفتتن، وأقام من يعبُد العِجل على عبادة العِجل، وتخوَّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: ﴿ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾، وكان له هائبًا مطيعًا، فقال تعالى مُذكِّرًا لبني إسرائيل بهذه القصة التي جرت لأسلافهم مع نبيهم: ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾، يعني مِن بعد ذهابه إلى ربه، وليس المراد مِن بعد موته، ﴿ﭺ ﭻ ﭼ﴾، أي بعبادة غير الله تعالى، لأن الشرك أظلم الظلم، لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها.
فلما قدِم موسى (عليه السلام) ورأى ما أصاب قومـــــه من الفتنة؛ اشتد غضبه، وألقى الألواح عن رأسه وفيها كلام الله الذي كتَبه له، وأخذ برأس أخيه ولحيته، ولم يَعتِبِ اللهُ عليه في ذلك، لأنه حَـملَهُ عليه الغضب لله، وكان الله (عز وجل) قد أعْلَمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدةً حدث له غضبٌ آخر، فإنه ليس الخبر كالمعاينة.
فصلٌ، ومِن تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيهم أيضًا ما
قصَّهُ الله تعالى في كتابه حيث يقول: ﴿ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾، أي عَيانًا، قال ابن جرير: ذكَّرهم الله سبحانه بذلك اختلافَ آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يُــثلَج بأقلِّها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس، وذلك مع تتابع الـحُجج عليهم، وسُـبوغ([30]) نِعم الله تعالى لديهم، وهم مع ذلك مرَّةً يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلـٰهًا غير الله، ومرَّة يعبدون العِجل من دون الله، ومرَّة يقولون: (لا نصدقك حتى نرى الله جهرة)، وأخرى يقولون له إذا دُعوا إلى القتال: ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾، ومرَّة يقال لهم: ﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾، فيقولون: (حِنطةٌ في شعرة)، ويدخلون من قِــبَلِ أَستاهِهِم([31])، ومرَّة يُعرَض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك، حتى نَــتَــقَ([32]) الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظُــلَّةٌ، إلى غير ذلك من أفعالهم التي آذَوا بها نبيَّهم التي يكثر إحصاؤها.
فأَعلمَ ربُّنا (تبارك وتعالى) الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم لن يَعْدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) وجحودِهم نبوته وترْكِـــهم الإقرار به وبما جاء به - مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره -؛ كأسلافهم وآبائهم الذين قصَّ الله علينا قَصصهم.
قال محمد بن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرَّق العِجل وذرَّاهُ([33]) في اليَمِّ([34])؛ اختار موسى منهم سبعين رجلًا، الـخيِّـر فالـخيِّـر، وقال: انطلقوا إلى الله (عز وجل) فتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهَّروا وطَـــهِّروا نياتكم.
فخرج بهم إلى طُورِ سيناء لميقاتٍ وقَّـته له ربُّه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلم، فقال له السبعون - فيما ذُكِر لي - حين صنعوا ما أمرَهم به وخرجوا للقاء ربه: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا.
قال: أفعل.
فلمَّا دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمامٍ([35]) حتى تغشَّى الجبل كلَّه، ودنا موسى فدخل عليه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه ربُّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرِب دونَه الـحجاب، ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا، فسمِعوه([36]) وهو يُكلم موسى، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا لموسى: ﴿ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾، فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فافتُـــلِتت أرواحهم فماتوا، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويَرغب إليه ويقول: ﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾.([37])
فإن قيل: فما مقصودُ موسى بقوله: ﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾؟
فقد ذُكِر فيه وجوه:
فقال السُّدِّي: لما ماتوا قام موسى يبكي ويقول: ربِّ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم.
وقال ابن إسحاق: اخترتُ منهم سبعين رجلًا الـخيِّـر فالـخيِّـر، أَرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد؟ فما الذي يُصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟
وعلى هذا فالمعنى لو شئتَ أهلكتهم من قبلِ خروجنا، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أمتَّهم من قبل أن تبتليهم بما أَوجب عليهم الرجفة.
قلت: وهؤلاء كلهم حامُوا حول المقصود، والذي يظهر - والله أعلم بمراده ومراد نبيه - أن هذا استعطاف من موسى (عليه السلام) لربه وتوسل إليه بعفوه عنهم من قَبل، حِين عَـبد قومُهم العِجل ولم ينكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فَوَسِـعَهم عفوُك ومغفرتُك ولم تهلكهم، فَــلْيَسَعْهُم اليوم ما وَسَعَهُم من قبل.
وهذا كما يقول مَن واخذه سَيِّدُهُ بِـجرمٍ: لو شئتَ واخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسِعني عفوك أوَّلًا، فليسعني اليوم.
ثم قال نبي الله: ﴿ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾، فقال ابن الأنباري وغيرُه: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا عَــبَدَةُ العجل.
قال الفراء: ظنَّ موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ قومهم العِجل، فقال: ﴿ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾، وإنما كان إهلاكهم بقولهم: ﴿ﯗ ﯘ ﯙ﴾، ثم قال: ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾، وهذا من تمام الاستعطاف، أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك، فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كلُّه لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت، فنحن عائذون بك منك، ولاجئون منك إليك.
فصلٌ، ومِن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيدِهِ لهم أنهم قيل لهم وهم مع نبيهم والوحي ينـزِل عليه من الله تعالى: ﴿ﭓ ﭔ ﭕ﴾، قال قتادة وابن زيد والسُّدِّي وابن جرير وغيرهم: هي قرية بيت المقدس.
﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ﴾، أي هنيئًا واسعًا، ﴿ﭛ ﭜ ﭝ﴾، قال السُّدِّي: هو باب من أبواب بيت المقدس.
وكذلك قال ابن عباس، قال: والسجود بمعنى الركوع، وأصل السجود الانحناء لمن تُعظِّمُهُ، فكل مُنحنٍ لشيء معظِّمًا له فهو ساجد. قاله ابن جرير وغيره.
قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقِيَين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرَّم، وفيه نَـهي صريح عن النبي (صلى الله عليه وسلم).([38])
ثم قيل لهم: ﴿ﭞ ﭟ﴾، أي حُطَّ عنا خطايانا، هذا قول الحسن وقتادة وعطاء.
وقال عكرمة وغيره: أي قولوا: «لا إلـٰه إلا الله».
وكأنَّ أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تُـحطُّ بها الخطايا، وهي كلمة التوحيد.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أُمِروا بالاستغفار.
وعلى القولين فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضُمِنَ لهم بذلك مغفرة خطاياهم.
فتلاعبَ الشيطانُ بهم، فبدَّلوا قولًا غير الذي قيل لهم، وفعلًا غير الذي أُمروا به، فروى البخاري في «صحيحه» ومسلم أيضًا من حديث همام بن مُـــنبِّــه عن أبي هريرة (رضي الله تعالى عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قيل لبني إسرائيل: ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾، فبدَّلوا فدخلوا الباب يزحفون على أَستاهِهِم، وقالوا: (حبَّة في شعرة).([39])
فبدَّلوا القول والفعل معًا، فأنـزل الله عليهم رجزًا من السماء.
قال أبو العالية: هو الغضب.
وقال ابن زيد: هو الطاعون.
وعلى هذا فالطاعون بالرَّصَد لمن بدل دين الله قولًا وعملًا.
فصلٌ، ومِن تلاعب الشيطان بهم أنهم كانوا في البريَّة قد ظُـــلِّـلَ عليهم الغمام، وأُنـزِل عليهم الـمَنُّ والسلوى، فملُّوا ذلك، وذكروا عيش الثوم والبصل والعدس والبقل والقِثَّاء، فسألوه موسى (عليه السلام)، وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم، وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة، واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها، ولهذا قال لهم موسى (عليه السلام): ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾، أي مِصرًا من الأمصار، ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾، فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها وأطيبِها هواء، وأبعدها عن الأذى ومجاورة الأنتان والأقذار، سقفُهم الذي يظلهم من الشمسِ الغمامُ، وطعامهم السلوى، وشرابهم الـمَن.
قال ابن زيد: كان طعام بني إسرائيل في الـتِّيهِ واحدًا وشرابهم واحدًا، كان شرابهم عسلًا ينـزل من السماء يقال له: الـمَنُّ، وطعامهم طيرٌ يقال له: السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكن لهم خبز ولا غيره، ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة، وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحَجَرِ اثنتا عشر عينًا من الماء، فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير، فذُمُّوا على ذلك، فكيف بمن استبدل الضَّلال بالهدى، والغيَّ بالرشاد، والشركَ بالتوحيد، والسنةَ بالبدعة، وخدمة الخالق بخدمة المخلوق([40])، والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظِّهِ مِنَ العيشِ النَّكِدِ الفاني في هذه الدار.
فصلٌ، ومِن تلاعبه بهم أنهم لما عُرِضت عليهم التوراة لم يقبلوها وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه، حتى أمَر الله سبحانه جبريل فقلع جبلًا من أصله على قدرِهم ثم رفعــــه فوق رؤوسهم، وقيل لـهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم، فقبِلوها كُرهًا، قال الله تعالى: ﴿ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾.
قال عبد الله بن وهب: قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله وأمرُه الذي أمركم به، ونهيُه الذي نهاكم عنه.
فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرةً، حتى يطْــلُعَ الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلَّمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه.
فجاءت غضبةٌ من الله تعالى، فجاءتهم صاعقة فصعَقتهم فماتوا أجمعون.
قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله.
فقالوا: لا.
فقال: أيُّ شيء أصابكم؟
قالوا: مُتنا ثم حيِـينا.
فقال: خذوا كتاب الله.
قالوا: لا.
قال: فبعث الله ملائكته فنَــتَقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟
قالوا: نعم، الطور.
قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم.
قال: فأخذوه بالميثاق.
وقال السُّدِّي: لـما قال الله تعالى لـهم: ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾، فأبوا أن يسجدوا، فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم، فنظروا إليه وقد غشِـيهم، فسقطوا سُجَّدًا على شِقٍّ ونظروا بالشِّقِّ الآخر، فكشفه عنهم، ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا ولم يعملوا بما في كتاب الله، ونبذوه وراء ظهورهم، فقال تعالى مُذكِّرًا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم: ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾.
فصلٌ، ومن تلاعبه بـهم أن الله سبحانه أنـجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفَـرَق بهم البحر([41])، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم وأعزَّهم وآتاهم ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم، وفي ضمن هذا بِشارتُـهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم، وأن تلك القرية لهم، فأبوا طاعته وامتثال أمرِه، وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم: ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾، وتأمل تَلطُّفَ نبيِّ الله تعالى موسى (عليه السلام) بهم، وحسنَ خطابِه لهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، وبِشارتَهم بوعد الله لهم بأن القريةَ مكتوبةٌ لهم، ونهيَهم عن معصيتِه بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين، فجمع لهم بين الأمر والنهي، والبِشارة والنِّذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة، فقابلوه أقبح المقابلة، فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾، فلم يُوَقِّــروا رسولَه وكليمه حتى نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا نبي الله، وقالوا: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾، ونسوا قُدرةَ جبار السماوات والأرض، الذي يُذل الجبابرة لأهل طاعته، وكان خوفُهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظمَ من خوفِهم من الجبار الأعلى سبحانه، وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه، ثم صرَّحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا: ﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾، فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد:
أحدها: تمهيدُ عذرِ العصيان بقولهم: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾، والثاني: تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصدَّروا الجملة بحرف التأكيد وهو (إنَّ)، ثم حققوا النفي بأداة (لن) الدالة على نفي المستقبل، أي لا ندخلُها الآن ولا في الـمستقبل، ثم علَّقوا دخولها بشرط خروج الـجبارين منها، فقال لهم رجلان من الذين أنعم الله عليهـما بطاعته والانقياد إلى أمره، مِنَ الذين يـخافون الله، هذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
وقيل: مِنَ الذين يخافونهم من الجبارين، أسلَما واتَّــبَعا موسى (عليه السلام).
﴿ﯵ ﯶ ﯷ﴾، أي باب القرية، فاهجموا عليهم فإنهم قد مُــلِئوا منكم رعبًا، ﴿ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾.
ثم أرشدهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل، فكان جواب القوم أن ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾، فسبحان من عَظُمَ حِلمه حيث يُقابَل أمرُهُ بمثل هذه المقابلة، ويُواجَهُ رسولُهُ بمثل هذا الخطاب، وهو يحلُمُ عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وسِعَهم حلمُه وكرمُه، وكان أقصى ما عاقبهم به أن ردَّدهم في برية التِّــيهِ أربعين عامًا، يُظَــلِّلُّ([42]) عليهم الغمام من الحر، ويُنـزِّلُ عليهم المنَّ والسلوى.
وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: شهِدتُ من المقداد بن الأسود مشهدًا لأَن أكون صاحبَه أحبَّ إلي مما عُدِلَ به([43])؛ أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفَك.
فرأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) أشرق وجهُه وسَــرَّه([44]).([45])
فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة قال: ﴿ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾.
فصلٌ، ومن تلاعبه بهم في حياة نبيهم أيضًا ما قصه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه([46])، حتى أُمِروا بذبح بقرة وضربه ببعضها، وفي القصة أنواع من العبر، منها:
أن الإِخبار بها من أعلام نبوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)([47]).
ومنها، الدِّلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين.
ومنها، الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولِـهم إلى خاتَـمِهم، من معاد الأبدان وقيام الموتى من قبورهم.
ومنها، إثبات الفاعل الـمختار، وأنه عالمٌ بكل شيء، قادرٌ على كل شيء، عدلٌ لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيمٌ لا يجوز عليه العبث.
ومنها، إقامة أنواع الآيات والبراهين والـحجج على عباده بالطرق الـمتنوعات، زيادةً في هداية المهتدي، وإعذارًا وإنذارًا للضُّلال.
ومنها، أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتَّعنُّتِ([48]) وكثرة الأسئلة، بل يبادر إلى الامتثال، فإنهم لما أُمِروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أي بقرة اتَّفقت، فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بـمنـزلة قوله: (اعتِق رقبة، وأطعِم مسكينًا، وصُم يومًا)، ونحوِ ذلك، ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فإن الآية غَنِـــيَّةٌ عن البيان المنفصل، مبيَّــنةٌ بنفسها، ولكن لما تعنَّــتوا وشدَّدوا شُدِّد عليهم.
قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبي العالية: لو أن القوم حين أُمِروا أن يذبحوا بقرة استعرَضوا بقرةً من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم.
ومنها، أنه لا يجوز مقابلة أمرِ الله - الذي لا يَعلم المأمورُ به([49]) وجهَ الحكمةِ فيه - بالإنكار، وذلك نوع من الكفر، فإن القوم لما قال لهم نبيهم: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾؛ قابلوا هذا الأمر بقولهم: ﴿ﮬ ﮭ﴾، فلما لم يعلموا وجهَ الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه قالوا: ﴿ﮬ ﮭ﴾، وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنه أخبرهم عن أمرِ الله لهم بذلك ولم يكن هو الآمرَ به، ولو كان هو الآمر به لم يـجُز لِـمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك، فلما قال لهم: ﴿ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾، وتيقَّنوا أن الله سبحانه أمره بذلك؛ أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عَيْنها ولونها، فلما أُخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها، فلما تعيَّنت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال ولم يكادوا يفعلون.
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولُـهم لنبيهم: ﴿ﭵ ﭶ ﭷ﴾، فإنْ أرادوا بذلك أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة فتلك رِدةٌ وكفرٌ ظاهر، وإن أرادوا أنك الآن بيَّــنت لنا البيان التام في تعيـين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾، فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح، فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة، قال محمد بن جرير:
وقد كان بعض من سَلَفَ يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: ﴿ﭵ ﭶ ﭷ﴾، وزعَم أن ذلك نفيٌ منهم أن يكون موسى (عليه السلام) أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم، قال([50]): وليس الأمر كما قال عندنا، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جـهْلةً منهم وهفوةً من هفواتهم.
فصلٌ، ومنها الإخبار عن قساوة قلوب هذه([51]) الأمة وغِلَظِها وعدم تمكن الإيمان فيها، قال عبد الصمد بن معقِل عن وهب: كان ابن عباس يقول: إن القومَ بعد أن أحيا الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتِله أنكروا قتله، وقالوا: (والله ما قتلناه) بعد أن رأوا الآية([52]) والحق، قال الله تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾.
ومنها مقابلة الظالم الباغي بنقيضِ قصده شرعًا وقدَرًا، فإن القاتل قصْدُهُ ميراث المقتول ودفع القتل عن نفسه، ففضحه الله تعالى وهتَكه وحرمَهُ ميراثَ المقتول.
ومنها أن بني إسرائيل فُـتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب، ففُتنوا بعبادة العجل وفُتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقرُ من أبلد الحيوان حتى لَيُضرب به المثل.
والظاهر أن هذه القصة كانت بعد قصة العِجل، ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي لا يصلُح أن يكون إلـٰهًا معبودًا من دون الله تعالى، وأنه إنما يَصلُح للذبح والحرث والسقي والعمل.
فصلٌ، ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضًا ما قصه الله سبحانه علينا من قصة أصحاب السَّبت، حين مسخهم قردة لما تحيَّلوا على استحلال مـحارمه، ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام واستباحة الفروج الحرام والدم الحرام، وذلك أعظم إثمًا من مجرد العمل يوم السبت، ولكن لما استحلوا محارمَ الله تعالى بأدنى الحِيل وتلاعبوا بدينه وخادعوه كمخادعة الصبيان ومسخوا دينه بالاحتيال؛ مسخهم الله قردة، وكان الله سبحانه قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يومًا واحدًا، فلم يدَعْهم حرصُهم وجشَعُهم حتى تعدَّوا إلى الصيد فيه، وساعدَ القدَرُ بأن عوقبوا بإمساك الـحيتان عنهم في غير يوم السبت وإرسالها عليهم يوم السبت، وهكذا يفعلُ الله سبحانه بمن تعرَّض لمحارمه، فإنه يرسلُها عليه بالقدَر، حتى تزدلفَ([53]) إليه بأيِّها يبدأ، فانظر ما فعل الحرصُ وما أوجب من الحرمان بالكُلِّية، ومن هـٰهنا قيل: مَن طلبه كلَّه فاته كلَّه.
فصلٌ، ومن تلاعب الشيطان بهم أيضًا أنهم لما حُرِّمت عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها، وهذا من عدم فقههم وفَهمهم عن الله تعالى دينَه، فإن أثمانها بدلٌ منها، فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها، كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنـزير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها.
ومن تلاعبه بهم أيضًا اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، وقد لعنهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولعنتُهُ تتناول من فَـعَــل فِعلَهم.([54])
ومن تلاعبه بهم أيضًا أنهم كانوا يَقتلون الأنبياء الذين لا تُـنال الهداية إلا على أيديهِم([55])، ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى، يُحرِّمون عليهم ويُـحِلُّون لهم، فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم ولا يلتفتون؛ هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا.
قال عَدي بن حاتم: أتيتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقرأ: ﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾، فقلت: يا رسول الله: ما عبدوهم.
فقال: حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم. رواه الترمذي وغيره.([56])
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان، أن يَقتُل أو يُقاتل مَن هُداه على يده، ويتَّخذَ من لم تُضمن له عصمته نِـدًّا لله، يُـحرِّمُ عليه ويُـحلِّل له.
ومن تلاعبه بهم ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى (عليهما السلام) وقتلِهم لهما، حتى سلَّط الله عليهم بختنصر وسنجاريب([57]) وجنودهما، فنالُوا منهم ما نالوه.
ثم كان منهم في شأن المسيح ورميِه وأمِّه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم، فكفروا به بغيًا وعنادًا، ورامُوا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك ورفَعه إليه وطهَّره منهم، فأوقعوا القتل والصلب على شِـبْهِهِ وهم يظنون أنه رسولُ اللهِ عيسى (صلى الله عليه وسلم)، فانتقم الله تعالى منهم ودمَّر عليهم أعظم تدمير، ولَزِمَهُمْ كلَّهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما لَزِمَ النصارى معهم حكمُ الكفر بتكذيبهم بمحمد (صلى الله عليه وسلم) .
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سِفالٍ ونقصٍ إلى أن قطَّعهم الله تعالى في الأرض أممًا، ومزَّقهم كل ممزق، وسلَبهم عِزَّهم وملكهم، فلم يقُم لهم بعد ذلك مُلكٌ، فلما بعث الله تعالى محمدًا (صلى الله عليه وسلم) فكفروا به وكذبوه أتم عليهم غضبَه ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلًّا وصَغارًا([58]) لا يُرفعُ عنهم إلى أن ينـزلَ أخوه المسيح من السماء، فيستأصلَ شأفتهم ويُطهِّر الأرض منهم ومن عُبَّاد الصليب، قال تعالى: ﴿ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾.
فالغضب الأول بسبب كفرهم بالمسيح، والغضب الثاني بسبب كفرهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما.([59])
فصلٌ، ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة أن ألقى إليهم أن الرب سبحانه وتعالى محجور عليه([60]) في نسخ الشرائع، فحَجروا عليه أن يفعلَ ما يشاء ويحكمَ ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية تُرسًا([61]) لهم في جحد نبوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقرَّروا ذلك بأن النسخ يستلزم البَداء([62])، وهو على الله تعالى مُـحال.
وقد أَكْذبهم الله سبحانه في نص التوراة كما أكذبهم في القرآن، قال الله تعالى: ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾.
فتضمَّنت هذه الآيات بيان كذِبِهم صريحًا في إبطال النسخ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كلَّه كان حِلًّا لبني إسرائيل قبل نـزول التوراة سِوى ما حرَّم إسرائيل على نفسه منه، ومعلومٌ أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملَّته، وأن الذي كان لهم حلالًا إنما كان بإحلال الله تعالى له على لسانِ إسرائيلَ والأنبياءِ بعده إلى حين نـزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالًا لبني إسرائيل، وهذا محضُ النسخ.
وقوله تعالى: ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾، متعلقٌ بقوله: ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾، أي كان لهم حلالًا قبل نـُزول التوراة وهم يعلمون ذلك، ثم قال تعالى: ﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾، هل تجدون فيها أن إسرائيل حرَّم على نفسه ما حرَّمَته التوراة عليكم، أم تجدون فيها تحريم ما خصَّه بالتحريم، وهو لحوم الإبل وألبانُها خاصة؟
وإذا كان إنما حرَّم هذا وحده، وكان ما سواه حلالًا له ولِـــبَــنيه، وقد حَرَّمت التوراة كثيرًا منه؛ ظَهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحَجرِ على الله تعالى في نسخها.
فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما أوردوه.
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حَرَّمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح والأفعال والأقوال، وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية([63])، فإن هذه المناظرة ضعيفة جدًّا، فإن القوم لم يُنكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب، إذ هذا شأنُ كل الشرائع، وإنما أنكروا تغيير ما أباحه الله تعالى فيجعلُه حرامًا، أو تحليل ما كان حرَّمه فيجعلُه مباحًا، وأما رفع البراءة والاستصحاب([64]) فلم يُنكره أحد من أهل الملل.
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تُـقِــرُّون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا، فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة؟
فيقال لهم: فهل رفَعَتْ التوراةُ شيئًا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا؟
فإن قالوا: لم تَرفع شيئًا من أحكام تلك الشرائع فقد جاهروا بالكذب والبَهت، وإن قالوا: قد رَفَــعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقرُّوا بالنسخ قطعًا.
وأيضًا فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى (عليه السلام)؟
فإن قالوا: (نعم) قلنا: أليس في التوراة أنَّ من مسَّ عظم ميتٍ أو وطِئ قبرًا أو حضر ميتًا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحالٍ لا مخرج له منها إلا رمادَ البقرة التي كان الإمام الهاروني([65]) يَـحرِقها؟
فلا يمكنهم إنكار ذلك.
فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟
فإن قالوا: (لا نقدِر عليه)؛ فيقال لهم: فلِم جعلتم أنَّ من لمس العظمَ والقبرَ والميتَ طاهرًا([66]) يصلح للصلاة، والذي في كتابكم خلافه؟
فإن قالوا: (لأنا عَدِمنا أسباب الطهارة وهي رماد البقرة، وعَدِمنا الإمام الـمُطهِّر المستغفر)؛ فيقال لهم: فهل أغناكم عدمُهُ عن فعله أو لم يغنكم؟
فإن قالوا: (أغنانا عَدمُه عن فعله؛ قيل لهم: فقد تبدَّل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التَّعذر)؛ فيقال: وكذلك يتبدل الحكم الشرعي بنَسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحةً في وقت دون وقت وفي شريعة دون أخرى، كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم (عليه السلام) ثم صار مفسدة في سائر الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحةً في شريعة إبراهيم (عليه السلام) ومَن قبلَه، مفسدةً([67]) في شريعة موسى (عليه السلام)، وأمثال ذلك كثيرة.
وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام ومنعتم تعليلها بـها فالأمر حينئذ أظهر، فإنه سبحانه يُـحلل ما يشاء ويُـحرم ما يشاء، والتحليل والتحريم تبعٌ لمجرد مشيئته، لا يُسأل عما يفعل.
وإن قلتم: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطُّهور الذي كان عليه أسلافنا؛ فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدًا، ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة.
فإن قالوا: (نَعم، الأمر كذلك)؛ قيل لهم: فإذا كنتم أنجاسًا على مقتضى أصولكم فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالًا تخرجون فيه إلى حَدٍّ لو أن أحدكم لَمَس ثوبه ثوب المرأة نـجَّستموه مع ثوبه؟
فإن قلتم: (ذلك من أحكام التوراة)؛ قيل لكم: أليس في التوراة أن ذلك يُراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذَّرت عندكم، والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل؛ فهي إذًا أشدُّ من نجاسة الحيض.
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تخشون من لمسها ولا الثوب الذي تلمَسُه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة.
فصلٌ، قالت الأمة الغضبية: التوراة قد حظَرت أمورًا كانت مباحة مِن قَبل ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذي نُنكره ونمنعُ منه هو ما أوجب إباحةَ محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسَدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومُقرِّراتها، فإذا جاء مَن أباحه علِمنا بإباحته الـمُفسِدة أنه غيرُ نبي، بخلافِ تحريم ما كان مباحًا، فإنَّا نكون متَـعبِّدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حُرِّم لما فيه من المفسدة.
فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية ويتلقَّاها خالِـفٌ منهم عن سالفٍ، والمُتكلمون لم يُشفوهم في جوابها([68])، وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع وفي نسخ الإباحة بالتحريم.
ولَعَمرُ الله إنه لمما يُبطِل شبهتهم، لأنَّ رفع البراءة الأصلية ورفع الإباحة بالتحريم هو تغيـيرٌ لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحةٍ اقتضت تغيـيرَه، ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيـير الإباحة بالتحريم أو تغيـير التحريم بالإباحة.
والشبهة التي عَرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر، فإن إباحةَ الشيء في الشريعة تابعٌ لعدم مفسدته، إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته، فإذا حرَّمته الشريعة الأخرى وجب قطعًا أن يكون تحريمُه فيها هو المصلحة كما كان إباحتُه في الشريعة الأولى هي المصلحة، فإنْ تضمَّن إباحة المحرم في الشريعة الأولى إباحة المفاسد - وحاشا لله - تَضمَّن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح، وكلاهما باطل قطعًا.
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدَّمه يستبيحُه؛ فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورًا.
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي رَدَّت بها الأمة الغضبية نُــبُوة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، هي بعينها التي ردَّ بها أسلافُهم نبوةَ المسيح، وتوارثوها كافرًا عن كافر، وقالوا لمحمد (صلى الله عليه وسلم) كما قال أسلافهم للمسيح: لا نُـقِــرُّ بنبوةِ مَن غَــيَّـر شريعةَ التوراة!
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة وقد جاء بتغيـير بعضِ شرائعِ من تقدَّمه، فإنْ قَدَحَ ذلك([69]) في المسيح ومحمد (عليهما الصلاة والسلام) قَدَحَ في موسى، فلا تقدحون في نبوتهما بقادحٍ إلا ومثلَه في نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تُــثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافُه شاهد على نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، فمن أبينِ المحال أن يكون موسى رسولًا صادقًا ومحمدٌ ليس برسول، أو يكون المسيح رسولًا ومحمد (صلى الله عليه وسلم) ليس برسول.
ويقال للأمة الغضبية أيضًا: لا يخلو الـمُـحرَّم؛ إما أن يكون تحريمه لعينِه وذاتِه بحيث تمتنع إباحته في زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تضمَّنه من المفسدة في زمانٍ دون زمانٍ، ومكانٍ دون مكانٍ، وحالٍ دون حالٍ، فإن كان الأول؛ لزِم أن يكون ما حرَّمَته التوراة محرمًا على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإن كان الثاني؛ ثبتَ أن التحريمَ والإباحةَ تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حرامًا في ملة دون ملة، وفي وقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وفي حال دون حال، وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غيرُ ذلك.
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لِعينه لكان حرامًا على إبراهيم ونوح وسائر النبيـين؟
وكذلك ما حرَّمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها؛ لو كان حرامًا لعينِهِ وذاتِهِ لَــوَجَبَ تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة.
وإذا كان الربُّ تعالى لا حَجْرَ عليه، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ويبتلي عباده بما يشاء ويَـحكم ولا يُـحكم عليه، فما الذي يَـحيلُ([70]) عليه ويمنعه أن يأمرَ أمةً بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمةً أخرى عنه، أو يُـحرِّم محرَّمًا على أمة ويبيحه لأمةٍ أخرى، بل أيُّ شيء يمنعُهُ سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة، وقد بيَّن ذلك سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾؟
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته ومُلكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخَ ما يشاء ويُثبتَ ما يشاء، كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويُـــثبت، فهكذا أحكامه الدينية الأَمرية ينسخ منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء، فمِن أكفر الكفر وأظلم الظلم أن يُعارَض الرسولُ الذي جاء بالبينات والهدى، وتُدفع نبوتُه، وتُـجحد رسالتُه، بكونه أتى بإباحة بعضِ ما كان محرَّمًا على مَن قبله، أو بتحريمِ بعض ما كان مباحًا لهم، وبالله التوفيق، يُضل من يشاء ويهدي من يشاء.
ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تَـحْجُرُ على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موســـى (عليه السلام) في أكثر ما هم عليه، وتمسَّكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم!
فمن ذلك أنهم يقولون في صلواتهم ما ترجَـمتُه هكذا: اللهم اضرب ببوقٍ عظيمَ لفِيفَنا([71])، واقبضنا جميعًا من أربعة أقطار الأرض إلى قُدسك، سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل.
ويقولون كل يوم ما ترجَـمته هكذا: اُردد حكامنا كالأوَّلين، ومُشيرينا كالابتداء، وابن أورشليم قرية قُدسك في أيامنا، وأعِزَّنا ببنيانها، سبحانك يا باني يورشليم.
فهذا قولهم في صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون (عليهما السلام) لم يقولا شيئًا من ذلك، ولكنها فصول لفَّقوها بعد زوال دولتهم.
وكذلك صيامهم - كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصبا، وصوم كَدَلِــيا - التي جعلوها فرضًا، لم يصمها موسى ولا يوشع بن نون، وكذلك صوم صَلب هامان، ليس شيء من ذلك في التوراة، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم.
هذا مع أنه في التوراة ما ترجَـمته: لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئًا ولا تَنقُصوا منه شيئًا.
وقد تضمَّنت التوراة أوامر كثيرة جدًّا هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها، فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة، أو بنقل صحيح عن موسى (عليه السلام)، أو باجتهاد علمائهم وأحبارهم، وعلى التقادير الثلاثة فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكثر تلك الأوامر التي هم مُـجمعون على عدم القول بها والعمل بها إنما يستنِدون فيها إلى أقوال علمائهم وآرائهم، وقد اتفقوا على تعطيلِ الرجم للزاني، وهو نصُّ التوراة، وتعطيلِ أحكام كثيرة منصوصة في التوراة.
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلُّوا لهم الشيء صار حلالًا، وإذا حرَّموه صار حرامًا، وإن كان نصُّ التوراة بـخلافـه، وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجَّروا على الرب تعالى وتقدَّس أن ينسخَ ما يريد من شريعته وجوَّزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، كما تكبَّـر إبليسُ أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يَغُضُّ منه([72])، ثم رضي أن يكون قوَّادًا([73]) لكل عاصٍ وفاسق.
وكما أنِفَ عُــبَّاد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بَشرًا، ثم رضوا أن يكون إلـٰهُهم ومعبودُهم حَجَرًا.
وكما نـزَّهت النصارى بَتارِكَهم([74]) عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نِسبة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى.
وكما نـزَّهت الفرعونية من الجهمية الربَّ سبحانه أن يكون مستوِيًا على عرشه - لئلا يَـلزم الحصر - ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات وأجواف الحيوانات.
فصلٌ، ومن تلاعب الشيطان بهم ما شدَّدوه على أنفسهم في باب الذبائح وغيرها مما ليس له أصلٌ عن موسى (عليه السلام) ولا هو في التوراة، وإنما هو من أوضاع الحخاميم([75]) وآرائهم، وهم فقهاؤهم.
ولقد كان لهذه الأمة في قديم الزمان بالشام والعراق والمدائن مدارِس وفقهاء كثيرون، وذلك في زمن دولة البابِليِّـــين والفرس، ودولة اليونان والروم، حتى اجتمع فقهاؤهم في بعض تلك الدول على تأليف «الـمِشْنا» و «التلمود».
فأما «الـمِشْنا» فهو الكتاب الأصغر ومبلغ حجمِه نحو ثمان مئة ورقة، وأما «التلمود» فهو الكتاب الأكبر، ومبلغه نحو نصف حِـمْلِ بغلٍ لكثرته، ولم يكن الفقهاء الذين ألَّفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه جيلًا بعد جيل، فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأنَّ في الزيادات المتأخرة ما يُناقض أوائلَ هذا التأليف؛ علِموا أنهم إن لم يَقطعوا ذلك ويَمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سَدُّهُ، قطعوا([76]) الزيادة فيه ومنعوا منها، وحظَروا على الفقهاء الزيادة فيه وإضافة شيء آخر إليه، وحرَّموا من يضيفُ إليه شيئًا آخر، فوقَفَ([77]) على ذلك المقدار.
وكانت أئمتُهم قد حرَّموا عليهم في هـٰذين الكتابين مؤاكلة الأجانب، وهم من كان على غير ملتهم، وحظَروا عليهم أكل اللحمان من ذبيحة من لم يكن على دينهم، لأن علماءهم علِموا أن دينهم لا يبقى في هذه الخلوة([78]) مع كونهم تحت الذل والعبودية إلا أن يصُدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم، فحرَّموا عليهم الأكلُ من ذبائحهم ومُناكحتهم، ولم يُـمْكِنْهُم تقريرَ ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويكذبون بها على الله تعالى، لأن التوراة إنما حَرَّمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يُوافقوا الأزواجَ في عبادة الأصنام والشرك بالله، وحَـرَّمَ عليهم في التوراة أكلَ ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانًا إلى الأصنام لأنه قد سُـمِّيَ عليها اسمُ غيرِ الله تعالى، فأما الذبائح التي لم تُـذبح قربانًا للأصنام فلم تَنطق التوراة بتحريمها، وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى (عليه السلام) إنما نهاهم عن مناكحة عُــبَّاد الأصنام وأكلِ ما يذبحونها على اسمها، فما بالُ هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام ولا يذكرون اسمها عليها؟!
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غيرُ ناطقةٍ بتحريمِ مآكل الأمم عليهم إلا عُبَّاد الأصنام، وأن التوراة قد صرحت بأن تحريمَ مؤاكلتِهم ومخالطتِهم خوفَ([79]) استدارجِ المخالطةِ إلى المناكحة، وأن مناكحتَهم إنما مُنِعَ منها خوفَ استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحًا في التوراة؛ اختلقوا كتابًا في علم الذِّباحة، ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عمَّا هم فيه من الذُّل والمشقة، وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤوها هواء ويتأملونها، هل يخرج الهواء من ثقبٍ منها أم لا، فإن خرج منها الهواء حرَّموها، وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقًا ببعضٍ لم يأكلوه، وأمروا الذي يتفقَّد الذبيحة أن يُدخِل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلبَ ملتصقًا إلى الظهرِ أو أحد الجانبين - ولو كان الالتصاق بعرقٍ دقيقٍ كالشعرة - حرَّموه ولم يأكلوه، وسـمَّوه «طريفًا»، يعنون بذلك أنه نجسٌ وأكله حرامٌ، وهذه التسمـــية هي أصلُ بلائهم، وذلك أن التوراة حرَّمت عليهم أكل «الطــريفا»، و «الطريفا» هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيرهما من السباع، وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿ﭠ ﭡ ﭢ﴾، والدليل على ذلك أنه قال في التوراة: (ولحمًا في الصحراء فريسةً لا تأكلوه، وللكلب ألقوه).
وأصلُ لفظ «طريفا» طوارف، وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في قصة يوسف (عليه السلام) لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب، وزعموا أن الذئب افترسه، وقال في التوراة: (ولحمًا في الصحراء فريسةً لا تأكلوا)، والفريسة إنما توجد غالبًا في الصحراء.
وكان سبب نـزول هذا عليهم أنهم كانوا ذوِي أخبية([80]) يسكنون البر، لأنهم مكثوا يترددون في البر والتِّـــيه أربعين سنة، كانوا لا يجدون طعامًا إلا المنَّ والسلوى، وهو طائر صغير يشبه السَّمان، وفيه من الخاصِّية أن أكل لحمه يُليِّـن القلب ويَذهب بالـحُزون والقساوة، فإنَّ هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الـخُطَّاف([81]) يقتله البرد، فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يَسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانِ المطر والرعد، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به ويكون اغتذاؤهم به كالدواء، لِــغِلَظِ قلوبهم وقسوتها.
والمقصود أن مشايخهم تَعَدَّوا في تفسير «الطريفا» عن موضوعها وما أُريد بها، وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هَذَيانات وخُرافات تتعلق بالرئة والقلب، وقالوا: (ما كان من الذبائح سليمًا من تلك الشروط فهو دخنا)، ومعنى هذه اللفظة أنه طاهر، وما كان خارجًا عن هذه الشروط فهو «طريفا»، وتفسيرها أنه حرام.
قالوا: ومعنى نص التوراة (ولحمًا فريسةً في الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه)؛ أي إنكم إذا ذبـحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم.
وفسَّروا قولَه: (للكلب ألقوه) أي لمن ليس من أهل ملتكم فأطعِموه وبِيعوه، وهم أحق بهذا اللقب وأشبه بالكلاب.
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان؛ إحداهما عرفوا أن أولئك السلف الذين ألَّفوا «الـمِشْنا» و «التلمود» - وهم فقهاء اليهود - كذبوا على الله وعلى موسى النبي، وهم أصحاب حماقات وتنطُّع ودعاوى كاذبة، يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء من تلك المسائل يوحي الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورُهم يقول: (الحقُّ في هذه المسألة مع فلان)، ويسمُّون هذا الصوت «بث قُول»، فلما نظرت اليهود القرَّاؤون - وهم أصحاب عانان وبنيامين - إلى هذه الـمَـحالات([82]) الشنيعة وهذا الافتراء الفاحش والكذِب البارد؛ انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم، وكذَّبوهم في كل ما افتروا على الله، وزعموا أنه لا يجوز قَبول شيء من أقوالهم، حيث ادعوا أن الله تعالى كان يُوحي إليهم كما يُوحي إلى الأنبياء.
وأما تلك التُّـرهات التي ألفها الحخاميم - وهم فقهاؤهم - ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى؛ فإن القرَّائين اطَّــرحوها كلها وألغوها، ولم يُـحرِّموا شيئًا من الذبائح التي يتولون ذبيحتها البتة، ولم يُـحرِّموا سوى لحم الـجَدْي بلبنِ أمه فقط، مراعاةً لنص التوراة: (لا يُنضجُ الجدي بلبن أمه)، وليسوا بأصحاب قياس بل أصحاب ظاهر فقط.
وأما الفرقة الثانية فهم الربانيون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددًا من القرَّائين، وفيهم الحخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه «بث قُول».
وهذه الطائفة أشدُّ اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، لأن حخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تَـحِلُّ للناس إن استعملوا فيها هذا العِـلم الذي نسبوه إلى موسى (عليه السلام) وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من التُّـرهات، فصار أحدهم ينظرُ إلى من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظرُ إلى مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العَذِرة([83])، وهذا من كيد الشيطان لهم ولعبِهِ بهم، فإن الحخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم والإزراء عليهم ونسبتِهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات.
وكلما كان الحخاميم فيهم أكثرَ تكلفًا وأشدَّ إصرًا وأكثرَ تحريمًا؛ قالوا: هذا هو العالم الرباني!
ومما دعاهم إلى التشديد والتضيـيق أنهم مُبدَّدون في شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم في بلدة إلا وإذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يُظهر لهم الخشونةَ في دينهم والمبالغةَ في الاحتياط؛ فإن كان من المتفقِّهة فهو يَشرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهـمـهم التنـزه عمَّا هم عليهم([84])، وينسِبهم إلى قلة الدين، وينسِب ما يُنكره عليهم إلى مشايخه وأهل بلده، ويكون في أكثر تلك الأشياء كاذبًا، وقصده بذلك إما الرياسة عليهم وإما تحصيل بعض مآربه منهم، ولا سيما إن أراد الـمُقام عندهم، فتراه أول ما ينـزل بـهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سِكِّين ذبَّاحهم([85])، ويُنكَر عليهم بعضُ أمره([86]) ويقول: (أنا لا آكلُ إلا من ذبيحة يدي)، فتراهم معه في عذاب، لا يزال ينكر عليهم المباح، ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها حتى لا يَشُكُّون في ذلك، فإن قدِم عليهم قادم آخر فخاف المقيمُ أن ينتقضَ عليه القادم([87])؛ تلقَّاه وأكرمه وسعى في موافقته وتصديقه، فيستحسنُ ما فعله الأول، ويقول لهم: (لقد عظَّم الله تعالى ثواب فلان)، إذْ قوَّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، وشدَّ سياج الشرع عندهم، وإذا لقيه يُظهر من مدحه وشكره والدعاءِ له ما يؤكد أمره.
وإن كان القادم الثاني منكِرًا لما جاء به الأول من التشديد والتضيـيق لم يقع عندهم بموقع، وينسِبونه إما إلى الجهل وإما إلى رقة الدين، لأنهم يعتقدون أن تضيـيق المعيشة وتحريم الحلال هو المبالغة في الدين.
وهم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع من يُشدِّد ويُضيِّق عليهم، هذا إن كان القادم من فقهائهم.
فأما إن كانوا من عُبــَّادهم وأحبارهم فهناك ترى العَجب العُجاب من الناموس([88]) الذي يعتمده والسُّنن التي يُـحْدِثها ويُلحقها بالفرائض، فتراهم مُسلِّمين له منقادين، وهو يَـحْــتَلِبُ دَرَّهُمْ([89])، ويَـجْتَــلِبُ دِرهـمَهم، حتى إذا بلغه أن يهوديًّا جلس على قارعة الطريق يوم السبت أو اشترى لبنًا من مسلم ثَلَبَهُ([90]) وسبَّه في مجمع اليهود، وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين.
فصلٌ، ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي مما أُمروا به أو نُهوا عنه شاقًّا عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الـحيل، فإن أَعيتهم الحيلة قالوا: هذا كان علينا لما كان لنا الـمُلك والرياسة.
فمن ذلك أنهم أُمِروا إذا أقام أَخَوان في موضع واحد ومات أحدُهما ولم يُعْـــقِب ولدًا؛ فلا تـخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبي، بل وَلَدَ حَـمِيِّها([91]) ينكحها، وأولُ ولدٍ يُولِدُها يُنسبُ إلى أخيه الدارج([92])، فإن أبى أن ينكِحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخةِ قومه تقول: (قد أبى ابن حَـمِي أن يَستبقي اسمًا لأخيه في إسرائيل ولم يُرِد نكاحي)، فيُحضرُه الحاكم هناك ويُكلِّــفُه أن يقف ويقول: (ما أردتُ نكاحها)، فتتناولُ المرأة نَعلهُ فتخرجهُ من رجله وتمسِكُه([93]) بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه: (كذا فلـيُصنَع بالرَّجل الذي لا يبني بيت أخيه)، ويُدعى فيما بعد بـ «المخلوع النَّعل»، ويُــنـــبَــزُ([94]) بنوه بـ «بني مخلوع النعل».
هذا كلُّه مفترض عليهم فيما يزعمون في التوراة، وفيه حكمة مُلجِئةٌ للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج، فإنه إذا علم أن ذلك ينالُه إن لم ينكِحْها آثر نكاحها عليه، فإن كان مبغضًا لها، زَهِدًا في نكاحها، أو كانت هي زاهدة في نكاحه مبغضة له؛ استخرج لهما الفقهاء حيلة يَتخلص بها منها وتتخلص منه، فيُلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم، ويُلقِّنونها أن تقول: (أَبَـى ابن حَـمي أن يقيم لأخيه اسمًا في إسرائيل، لم يُرد نكاحي)، فيُلزمونها بالكذب عليه لأنه أراد نكاحها وكرِهته، فإذا لقَّنوها هذه الألفاظ قالتها، فيأمرونه بالكذب وأن يقوم ويقول: (ما أردتُ نكاحَها)، ولعلَّ ذلك سؤلُه وأمنيتُه، فيأمرونه بأن يكذب، ولم يكفِـهم أن كذَبوا عليه وألزموه أن يكذِب حتى سلَّطوها على الإخراق به([95]) والبُصاق في وجهه، ويُسمون هذه المسألة «البياما والحالوس».
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم في استباحة محارم الله تعالى بعضُ ما فيه كفاية، فالقوم بيتُ الحيل والمكر والخبث.
وقد كانوا يتنوَّعون في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه، ويرُدُّ الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم، فتحيَّلوا عليه وأرادوا قتله مرارًا، والله تعالى يُنجِّيه من كيدهم، فتحيَّلوا عليه وصعدوا فوق سطحٍ وأخذوا رحًا([96]) أرادوا طرحها عليه وهو جالس في ظل حائط، فأتاه الوحيُ، فقام منصرفًا، وأخذ في حربهم وإجلائهم.
ومكروا به وظاهروا عليه أعدائه من المشركين، فظفَّره الله تعالى بهم.
ومكروا به وأخذوا في جمع العدو له، فظفَّر الله تعالى برئيسهم فقتله.
ومكروا به وأرادوا قتله بالسُّم، فأعلمه الله تعالى به ونجاه منه.
ومكروا به وسحروه، حتى كان يُـخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، فشفاه الله تعالى وخلَّصه.
ومكروا به في قولهم: ﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾، يريدون بذلك تشكيك المسلمين في نبوته، فإنهم إذا أسلموا أوَّل النهار اطمأن المسلمون إليهم، وقالوا: (قد اتَّبعوا الحق وظهرت لهم أدلته)، فيكفرون آخر النهار ويـجحدون نبوته ويقولون: (لَـمْ نقصد إلا الـحق واتِّـباعه، فلما تبين لنا أنه ليس به؛ رجعنا عن الإيمان به)، وهذا من أعظم خُبثهم ومكرهم.
ولم يزالوا مُوضِعين([97]) مجتهدين في المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيدِ رسوله وأتباعه (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنهم أعظم الخزي، ومزَّقهم كل ممزق، وشتَّت شملهم كل مشتَّت.
وكانوا يُعاهدونه (صلى الله عليه وسلم) ويُصالحونه، فإذا خرج لحربِ عدوه نقضوا عهده.
ولما سَلب الله تعالى هذه الأمةَ مُلكَها وعِزَّها، وأذلها وقطَّعهم في الأرض؛ انتقلوا من التدبير بالقُدرة والسلطان إلى التدبير بالمكر والدهاء والخداع، وكذلك كل عاجز جبان، سلطانُه في مكره وخداعه وبَـهْــتِه وكذِبه، ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة، كما قال الله تعالى عن شاهِدِ يوسف (عليه السلام) أنه([98]) قال: ﴿ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾.
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة أنهم يُمثِّــلون أنفسهم بعــــــناقيد الكَــرْم([99])، وسائرَ الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرْم، وهذا من غاية جهلهم وسَفَهِهم، فإن المعتنين بمصالح الكرْم إنما يَـجعلون على أعالي حيطانه الشوكَ حفظًا له وحِياطةً وصيانةً، ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصَّغار، كما يفعل الناسُ بالشوك.
ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائمًا من وَلَدِ داودَ النبي إذا حرَّك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا الـمُنتظَر - بزعمهم - هو المسيح الذي وُعِدوا به، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مســــيح الضلالة الدجال([100])، فهم أكثرُ أتباعِه، وإلا فمسيحُ الهدى عيسى ابن مريم (عليه السلام) يقتلُهم، ولا يُبقي منهم أحدًا.
والأمم الثلاثُ تنتظر منتَـظَرًا يخرج في آخر الزمان، فإنهم وُعِدوا به في كل ملة، والمسلمون ينتظرون نـزولَ المسيحِ عيسى ابن مريم من السماء لكسر الصليب وقتل الخنـزير وقتل أعدائِه من اليهود وعُـبَّادِه من النصارى، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة([101])، يملأُ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا وظلمًا.
فصلٌ، ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم في العشر الأُوَلِ من الشهر الأَوَّلِ من كل سنة يقولون في صلاتهم: (كم تقول الأمم: أين إلـٰهُهم؟ انتبه، كم تنام يا رب؟ استيقظ من رقدتك)([102]).
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكُفريات من شِدة ضجرهم من الذل والعبودية وانتظارِ فرج لا يزداد منهم إلا بُعدًا، فأوقعهم ذلك في الكفر والتزندق الذي لا يَستحسنُه إلا أمثالهم، وتجرَّؤوا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم يَنخَونه([103]) بذلك لينتخي لهم ويحمي لنفسه، فكأنهم يُـخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه وأبناء أنبيائه، فينتخَونه للنَّــباهة واشتهار الصِّيت!
فترى أحدَهم إذا تلا هذه الكلماتِ في الصلاة يقشعرُّ جلدُه، ولا يَشكُّ في أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم، وأنها تؤثرُ فيه وتحركه وتهزُّه وتُـــنخِّـــيه.
ومن ذلك([104]) أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على ما يفعل، فمن ذلك قولهم في التوراة التي بأيديهم: وندِمَ الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين في الأرض وشقَّ عليه، وعاد في رأيه.
وذلك عندهم في قصة قوم نوح.
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لمَّا رأى فساد قوم نوح، وأن شرَّهم وكفرهم قد عَظُم؛ ندِم على خلق البشر.
وكثيرٌ منهم يقول: إنه([105]) بكى على الطوفان حتى رمِدَ([106]) وعادَته الملائكة، وأنه عضَّ على أنامله حتى جرى الدمُ منها.
وقالوا أيضًا: إن الله تعالى ندِم على تمليكِه « شاؤول» على بني إسرائيل، وأنه قال ذلك لشَمويل.
وعندهم أيضًا أن نوحًا (عليه السلام) لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبحٍ لله تعالى وقرَّب عليه قُربانَين، وأن الله تعالى استنشق رائحة القُتار([107])، فقال الله تعالى في ذاته: لن أُعاوِد لعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطرَ البشر مطبوع على الرداءة، ولن أُهلك جميع الحيوان كما صنعتُ.
وقد واجهوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابَه (رضي الله تعالى عنهم) بأمثال هذه الكُفريات، فقال قائل منهم للنبي (صلى الله عليه وسلم): (إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح)، فشقَّ ذلك على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأنـزل الله تعالى تكذيبًا لهم ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾.([108])
وتأمل قوله تعالى عَــقِيبَ([109]) ذلك: ﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾، فإنَّ أعداء الرسول (صلى الله عليه وسلم) نسبوه إلى ما لا يليق به، وقالوا فيه ما هو مُنـزَّه عنه، فأمره الله (سبحانه وتعالى) أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوةٌ بربه (سبحانه وتعالى) حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق به.
وكذلك قال «فِنحاص» لأبي بكر: (إن الله فقير ونحن أغنياء، ولهذا استقرضَنا([110]) من أموالنا)، فأنـزل الله سبحانه وتعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾([111]).
وقالوا أيضًا: يد الله مغلولة كما حكى الله ذلك سبحانه عنهم في قوله: ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ﴾.
ويقــــــولون في العَشر الأُوَلِ من الشهر الأَوَّل من كل ســــنة: يا إلـٰهَنا وإلـٰهَ آبائنا، املُـك على جميع أهل الأرض، ليقولَ كلُّ ذي نَسَمَة([112]): الله إلـٰه إسرائيل قد مَلَك، ومملكتُه في الكل مُتسلِّطة.
ويقولون في هذه الصلاة أيضًا: وسيكون لله تعالى الـمُلك، وفي ذلك اليومِ يكون الله تعالى واحدًا واسمه واحدًا.
ويعنون بذلك أنه لا يَظهر أن الـمُلك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوتُه وأُمته، فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه (سبحانه وتعالى) خاملُ الذِِّكر عند الأمم، مطعونٌ في ملكه، مشكوكٌ في قدرته.
فصلٌ، ومن تلاعب الشيطان بـهم أنهم مُولعون بالقـــــدح في الأنبياء وأذِيَّــتهم، وقد آذوا موسى (عليه السلامَ) في حياته، ونسبوه إلى ما برَّأه الله تعالى منه، ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم في ذلك حيث يقول: ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾.
وثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ينظر بعضهم إلى بعض([113])، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: (والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدَرُ([114]))، فذهب موسى يغتسل فوضع ثوبه على حَجَرٍ، ففرَّ الحجرُ بثوبه، فجمحَ([115]) موسى بأثرهِ يقول: (ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر)، حتى نَظَرَتْ بنو إسرائيل إلى موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس.
وأخذ ثوبه فطَــفِــقَ([116]) بالحجر ضربًا، فقال أبو هريرة: والله إنه لــنَــدَبٌ([117]) بالحجر ستة أو سبعة ضربًا بالحجر.([118])
وأنـزل الله تعالى هذه الآية: ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد: قالت بنو إسرائيل: إن موسى آدر، وقالت طائفة: هو أبرص من شدة تَــسَــتُّــرِهِ.([119])
وقال ابنُ سيرين عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم): إن موسى كان رجلًا حيِــــيًّا سِــتِّــيرًا، لا يكاد يُرى من جلده شيءٌ استحياء منه، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل وقالوا: ما تَستَّـر هذا التَّـــستُّــر إلا من عيبٍ في جلدِه، إما برصٌ وإما أُدْرةٌ وإما آفةٌ، وإنَّ الله أراد أن يُــبـــــرِّئه مما قالوا، وذكر الحديث.([120])
وقال سفيان بن حسين عن الــــحكم عن ابن جبيـــــر عن ابن عـــباس عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ قال: صعد موسى وهارونُ الجبل، فمات هارونُ، فقالت بنو إسرائيل([121]): (أنت قتلتَه، وكان أشدَّ حبًّا لنا منك وألين لنا منك)، وآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مَـــرُّوا به على بني إسرائيل، وتكلَّمت الملائكة بموته([122]) حتى عَرف بنو إسرائيل أنه قد مات، فبـرَّأه الله تعالى من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه، فلم يطَّلِعَ على قبـــره أحدٌ من خــلق الله تعالى إلا الرَّخَم([123])، فجعله الله تعالى أصمَّ أبكم.
وقال الله تعالى: ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾.
وتأمل قوله: ﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾، فإنها جملة في موضع الحال، أي: (أتؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم)، وذلك أبلغ في العناد.
وكذلك المسيح قال: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾.
فهذا قليلٌ من كثيرٍ من أذاهُم لأنبيائهم.
وأما أذاهم لهم بالقتل والنفي فأشهرُ من أن يُذكر.
ولقد بالغوا في أذى النبي (صلى الله عليه وسلم) بجُهدِهم بالقول والفعل، حتى ردَّهم الله تعالى خاسئين.
ومن قدحهم في الأنبياء ما نسبوه إلى نص التوراة أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ونجَّى لوطًا بابنتيه فقط؛ ظنَّ ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقِين منه نَسْلًا([124])، فقالت الصغرى للكبرى: (إن أبانا شيخٌ، ولم يبق في الأرض إنسانٌ يأتينا كسبيل البشر([125])، فهلُمِّي نسقي أبانا خمرًا ونُضاجعُه لنستبقي من أبينا نسلًا)، ففعلتا ذلك بزعمهم، فنسبوا إلى النبي أنه سكِرَ حتى لم يَعرف ابنتيه، ثم وطِـــئَهما وأحبَلهما([126]) وهو لا يعرفهما، فولدت إحداهما ولدًا سـمَّته «مواب»، يعني أنه من الأب، والثانية سـمَّت ولدها «ابن عمي»، يعني أنه من قَبيلها([127]).
وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه كان قبل نـزول التوراة، فلم يكن نكاحُ الأقارب حرامًا، والتوراة تُكذِّبُـهم، فإن فيها أن إبراهيم الخليل خافَ في ذلك العصر أن يقتلَه المِصرِيون حسدًا له على زوجته سارة، فأخفى نكاحها وقال: (هي أختي)، علمًا منه بأنه إذا قال ذلك لم يبقَ للظنون إليهما سبيل.
وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاحِ الأختِ كان ثابتًا في ذلك الزمان، فما ظنُّك بنكاح البنت الذي لم يُشرع ولا في زمن آدم (عليه السلام).
وعندهم أيضًا في التوراة التي بأيديـهم قصةٌ أعجب من هذه، وهي أن يهوذا بن يعقوب النبي زوَّج ولدَه الأكبر من امرأةٍ يقال لها: «تامار»، فكان يأتيها مستدبرًا([128])، فغضِب الله تعالى من فعله، فأماته، فزوَّج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أنـزَل على الأرضِ([129]) عِلمًا منه بأنه إن أوْلَدها كان أوَّلُ الأولادِ مدعوًّا باسم أخيه ومنسوبًا إلى أخيه، فكرِه الله تعالى ذلك من فعله، فأماته أيضًا، فأمرها يهوذا باللِّحاق ببيت أبيها إلى أن يكبُرَ «شيلا» ولدُه ويتمَّ عقلُه، حذرًا من أن يصيبَه ما أصاب أخوَيه، فأقامت في بيت أبيها، ثم ماتت من بعدُ زوجةُ يهوذا، وصعِد إلى منـزل ليحرس غنمه، فلما أُخبرت المرأة «تامار» بإصعاد حَـمْوِها إلى المنـزل لبِست زِيَّ الزَّواني وجلست في مُستشرَفٍ([130]) على طريقِه لعلمها بِشَــبَــقِــهِ([131])، فلما مر بها خالَـها([132]) زانيةً فراوَدها فطالبته بالأُجرة، فوعدها بِـجَديٍ ورهَنَ عندها عصاهُ وخاتمهُ ودخل بها، فعلِقَت منه([133])، فلما أُخبِــر يهوذا أن كَــــنَّــــتَــهُ([134]) علِقت من الزنا أفتى بإحراقها، فبعثَت إليه بخاتمهِ وعصاه، فقالت: مِن ربِّ([135]) هـٰذين أنا حامل.
فقال: صدقتِ، ومتى ذلك؟
واعتذر بأنه لم يعرفها، ولم يستحِل معاودتها، ولا تسليمها إلى ولده، وعلِقت من هذا الزنا بِعارِض([136]).
قالوا: ومِن ولَدِها داودُ النبيُّ.([137])
وفي ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى أهل بيت النبوة ما يُقاربُ ما نسبوه إلى لوط (عليه السلام).
وهذا كلُّه عندهم وفي نصِّ كتابهم، وهم يجعلون هذا نسَبًا لداود وسليمان (عليهما السلام) ولمسيحِهم المنتظر.
ومن العجب أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا، ويسمونهم «مَـمازير»، واحدها «مَـمزير»، وهو اسمٌ لولد الزنا، لأنَّ شرْعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجًا غيره فأولادهما أولاد زنا.
وزعموا أن ما جاءت به شريـــعة الإســـلام من ذلك هو من مـــوضــوعات عبد الله بن سلام، قصد به أن يجعل أولاد المسلمين مَـمازير بزعمهم.
قالوا: وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) قد رأى أحلامًا تدل على أنه صاحب دولة([138])، فسافر إلى الشام في تجارة لخديجة، واجتمع بأحبار اليهود وقصَّ عليهم أحلامه، فعلِموا أنه صاحب دولة، فأَصحَبوه عبدَ الله بن سلام، فقرأ عليه عُلوم التوراة وفِقهَها مدةً، ونســــــــبوا الفصاحة والإعــــــــجاز الــــــذي في القرآن إلى عبد الله بن سلام، وأن من جملة ما قرَّره عبد الله بن سلام أن الزوجة لا تحلُّ للمُطلِّقِ ثلاثًا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر، ليجعل أولادَ المسلمين أولادَ زنا.
ولا ريب أن مثل هذا البَهتِ يروج على كثير من حَميرهم.
وقد خلق الله تعالى لكل باطلٍ وبَـهتٍ حـَمَلةً، كما للحق حملة، وليس وراء هذا البَهت بَـهتٌ.
وليس بمستنكَرٍ لأمةٍ قدَحت في معبودها وإلـٰهها ونَسَبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله، ونَسَبت أنبياءَه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم؛ أن ينسُبوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) إلى ذلك، وعداوتُه لهم وملاحِـمُه فيهم وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم وسبيُ ذراريهِم ونسائِهم معلومٌ غير مجهول.
وقد نَسبت هذه الأمةُ الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر وَلَدُ غَــيَّــةٍ([139])، ونسبت أمه إلى الفجور.
ونسبت لوطًا إلى أنه وطِئ ابنتيه وأوْلَدَهما وهو سكران من الخمر.
ونسبوا سليمان (عليه السلام) إلى أنه كان ملِكًا ساحرًا، وكان أبوه عندهم ملِكًا مسيحًا.
ونسبوا يوسف الصديق (عليه السلام) إلى أنه حَلَّ تِكَّةَ([140]) سراويله وتِكَّةَ سراويلِ سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة، وأن الحائط انشقَّ له فرأى أباه يعقوب (عليه السلام) عاضًّا على أنامله، فلم يَقمْ حتى نـزل عليه جبريل (عليه السلام) فقال: يا يوسف، تكونُ من الزُّناة وأنت معدودٌ عند الله تعالى من الأنبياء؟
فقام حينئذ.
ومعلوم أن ترْكَ الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى ذلك لولَّى هاربًا وترك الفاحشة.
ومنهم من يزعمُ أن المسيح كان من العلماء، وأنه كان يُداوي المرضى بالأدوية، ويوهمُهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه داوى جماعةً من المرضى في يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك، فقال لهم: أخبِروني عن الشاة من الغنم إن وقعت في بئرٍ، أمَا تنـزِلون إليها وتُـحِلُّون السبت لتخليصها؟
قالوا: بلى.
قال: فلِمَ أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تُـحِلُّونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمة من الغنم؟
فأُفحِموا.
ويـحكون أيضًا عنه أنه كان مع قوم من تلاميذه في جبل ولم يحـضُرهم الطعام، فأذِن لهم في تناول الحشيش يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش في يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أنَّ أحدكم كان وحيدًا مع قوم على غير ملته، وأمرهم بقطع النبات وإلقائه لدوابهم، لا يقصِدون بذلك إبطال السبت، ألستم تُـجيزون له قطع النبات؟
قالوا: بلى.
قال: فإن هؤلاء القوم أمرتُـهم بقطع النبات ليأكلوه ولِيغتذوا به، لا لِقطع السبت.
ومن العجب أن عندهم في التوراة التي بأيديهم: لا يزولُ الـمُلكُ من آل يهوذا، والرَّاسِمُ([141]) من بين ظهرانيهم؛ إلى أن يأتي المسيح.
وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك.
فيقال لهم: إنكم كنتم أصحابَ دولة حتى ظهر المسيح، ثم انقضى ملكُكُم ولم يبق لكم اليوم مُلك، وهذا برهان على أن المسيح قد أُرسل، ومن حين بُعِث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس وانقضت دولتهم وتفرَّق شملهم.
فيقال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فيقولون: وَلَدُ يوسفَ النجار، لِــغَــيَّــةٍ لا لِــرِشدَةٍ([142])، وكان قد عَرف اسم الله الأعظم، يُسَخِّرُ به كثيرًا من الأشياء.
وعند هذه الأمةِ الغضَبية أيضًا أن الله تعالى كان قد أطْلع موسى (عليه السلام) على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفًا، وبه شقَّ البحر وعمِل المعجزات!
فيقال لهم: فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله سبحانه، فلِم صدَّقْتم نبوته وأقررتم بها، وجحدتم نبوة عيسى وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم؟
فأجاب بعضهم عن هذا الإلزام بأن الله سبحانه هو الذي علَّم موسى ذلك الاسم، فعلَّمه بالوحي، وعيسى إنما تعلَّم من حيطانٍ ببيت المقدس.
وهذا هو اللائق ببَهتِهم وكذِبهم على الله تعالى وأنبيائه، وهو يسُدُّ عليهم العلم بنبوة موسى، لأن كِلَا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة التي لا يقدِر أحد أن يأتي بمثلها، فإن كان أحدهما قد عمِلها بحيلةٍ أو بعلمٍ فالآخرُ يمكن ذلك في حقه، وقد أخبرا جميعًا أن الله (سبحانه وتعالى) هو الذي أجرى ذلك على أيديهما وأنه ليس من صنعهما، فتكذيبُ أحدِهما وتصديق الآخرِ تفريقٌ بين المتماثلين.
وأيضًا، فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقَّى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى (عليه السلام) تلقَّاها أيضًا عن الله تعالى، فإنْ أمكن القدحُ في معجزات عيسى أمكن القدحُ في معجزات موسى (عليه السلام)، وإن كان ذلك باطلًا فهذا أيضًا باطل.
وإذا كان هذا شأن معجزات هـٰذين الرسولين معَ بُعدِ العهدِ([143]) وتَــشَــتُّـتِ شملِ أُمتيهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما؛ فما الظَّن بنبوةِ مَن معجزاتُه وآياتُه تزيد على الألف، والعهدُ بها قريبٌ، وناقِلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونَقْلُها ثابت بالتواتر قرنًا بعد قرن، وأعظـــــمها معجزةً كتابٌ باقٍ غضٌّ طريٌّ، لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منـزَّلٌ الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كلَّ وقتٍ على الوجه الذي أَخبر به حتى كأنه كان يشاهدُه عَيانًا.
فصلٌ، ولا يمكن البتة أن يؤمنَ يهودي بنبوة موسى (عليه السلام) إن لم يؤمن بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولا يمكن نصرانيًّا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) .
وبيان ذلك أن يُقال لهاتين الأمتين: أنتم لم تشاهدوا هـٰذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما، فكيف يَسع العاقل أن يكذب نبيًّا ذا دعوة شائعة وكلمة قائمة وآيات باهرة، ويُصدِّق مَن ليس مثله ولا قريبًا منه في ذلك لأنه لم ير أحد النبيَّــيْـن ولا شاهد معجزاته، فإذا كذَّب بنبوة أحدهما لزِمه التكذيب بنبوتـهما، وإن صدَّق بأحدهـما لزِمه التصديق بنبوتهما، فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم ولم ينفعه إيمانه به، قال الله تعالى: ﴿ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾، وقال تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾، فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينتَ معجزاته؟
فبالضرورة يقول: لا.
فنقول له: بأي شيءٍ عرفت نُبوته وصِدقه؟
فله جوابان: أحدهما، أن يقول: أبي عرَّفني ذلك وأخبرني به.
والثاني أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقَّق ذلك عندي كما حقَّـقت شهادتهم وُجود البِـلاد النائية والبحار والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول وقال: (شهادة أبي وإخبارِه إياي بنبوة موسى هي سبب تصديقي بنبوته)، فيقال له: ولِم كان أبوك عندك صادقًا في ذلك معصومًا عن الكذب وأنت ترى الكفار يُعلِّمهم آباؤهم ما هو كفرٌ عندك؟ فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والـمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابُـها عن آبائهم كأخذك مــــــــذهبَك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذين([144]) هم عليه ضلال؛ فيلزمك أن تبحث عما أخذْتَه عن أبيك خوفًا أن تكون هذه حالَه.
فإن قال: (إنَّ الذي أخذتُه عن أبي أصحُّ من الذي أخذه الناس عن آبائهم)؛ كفاهُ معارضةُ غيره له بمثل قوله.([145])
فإن قال: (أبي أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل)؛ عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: (أنا أعرِف حال أبي ولا أعرف حال غيره)؛ قيل له: فما يؤمِّـنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك وأفضل وأعرف؟
وبكل حال فإن كان تقليد أبيه حـــــجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك، وإن كان ذلك باطلًا كان تقليده لأبيه باطلًا.
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثاني وقال: (إنما عَلِمتُ نبوة موسى بالتواتر قرنًا بعد قرن، فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التي تَضطر إلى تصديقه)؛ فيقال له: (لا ينفعك هذا الجواب، لأنك قد أبطلت ما شهِد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد (صلى الله عليه وسلم) ).
فإن قلت: تواتَـرَ ظهور موسى ومعجزاته ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد؛ قيل: هذا هو اللائق ببُهت الأمة الغضبية، فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قومٌ بُـهت، وإلا فمِن المعلوم أن الناقِلِين لمعجزات المسيح ومحمد (صلوات الله وسلامه عليهم) أضعافُ أضعافكم بكثير، والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقُص عن المعجزات التي أتى بها موسى (عليه السلام)، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلًا بعد جيل وقرنًا بعد قرن، وأنت لا تَقبل خبر التواتر في ذلك وترُدُّه، فيلزمُك أن لا تقبله في أمر موسى (عليه السلام).
ومن المعلوم بالضرورة أن من أثبت شيئًا ونفى نظيره فقد تناقض، وإذا اشتهر النبي في عصر وصحَّت نبوتُه في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبرُه إلى أهل عصرٍ آخر؛ وجب عليهم تصديقُه والإيمان به، وموسى والمسيح ومحمد (صلوات الله وسلامه عليهم) في هذا سواء.
ولعل تواتُر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد، لأن الأمة الغضبية قد مزَّقها الله تعالى كل ممزق، وقطَّعها في الأرض، وسلَبها مُلكها وعِزَّها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى (عليه السلام)، فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالِك، وأما الحنفاء فمَمالكهم قد طبَّقت مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، وملؤوا الدنيا سهلًا وجبلًا، فكيف يكون نقلُهم لما نقلوه كذبًا، ونقلُ الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صِدقًا؟!
فثبت أنه لا يمكن يهوديًّا على وجه الأرض أن يُصدِّق بنبوة موسى (عليه السلام) إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولا يمكن نصرانيًّا البتة الإيمان بالمسيح (عليه السلام) إلا بعد الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وسلم) .
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم إنما آمنوا بهما على يد محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما ولا بنبيهما، فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم، فلولا القرآن ومحمد (صلى الله عليه وسلم) ما عرفنا شيئًا من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد (صلى الله عليه وسلم) وكتابه هو الذي قرَّر نبوة موسى ونبوة المسيح عليهما الصلاة والسلام، لا اليهود والنصارى، بل كان نفسُ ظهوره ومجيئه تصديقًا لنبوتهما، فإنهما أخبرا به وبشَّرا بظهوره قبل ظهوره، فلما بُعِث كان بَعثُــه تصديقًا لهما، وهذا أحد الـمَعنَيـين في قوله تعالى: ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾، أي مجيئُه تصديقٌ لهم من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به، فإن الرسول الأوَّل إذا أتى بأمرٍ لا يُعلمُ إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقارِبه في الزمان ولا في الـمكان، ولا تلقَّى عنه بـمثل ما جاء به سواء؛ دل ذلك على صدق الرسولَين الأول والآخِر، وكان ذلك بمنـزلة رجلين أخبر أحدهما بخبرٍ عن عَيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث نعلم أنه لم يجتمع به ولا تلقى عنه ولا عمَّن تلقى عنه - فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواءً، فإنه يُضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني.
والمعنى الثاني أنه لم يأت مُكذِّبًا لمن قبله من الأنبياء مُزرِيًا عليهم، كما يفعل الملوك الـمُتغلبة على الناس بمن تقدمهم من الملوك، بل جاء مصدِّقًا لهم، شاهدًا بنبوتهم، ولو كان كاذبًا مُتقوِّلًا مُـنشِئًا مِن عنده سياسةً؛ لم يُصدِّق مَن قَـبله، بل كان يُزري بهم ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء.
فصلٌ، وقد اختلف أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم، هل هي مُبدَّلة، أم التبديل والتحريف وقع في التأويل دون التنـزيل، على ثلاثــــة أقوال؛ طرفين ووسط:
فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلَّها أو أكثرها مبدَّلة مغيَّرة، ليست التوراة التي أنـزلها الله تعالى على موسى (عليه السلام)، وتعرَّض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض.
وغلا بعضهم، فجوَّز الاستجمار بها من البول.
وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام فقالوا: بل التبديل وقع في التأويل لا في التنـزيل، وهذا مذهب أبي عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري، قال في «صحيحه»: يُـحرِّفون: يُــزيلون، وليس أحد يُزيل لفظ كتاب من كتب الله (عز وجل)، ولكنهم يُـحرِّفونه، يتأولونه على غير تأويله.([146])
وهذا اختيار الرازي في «تفسيره».
وسمعت شيخَنا([147]) يقول: وقع النـزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء، فاختار هذا المذهب ووهَّن غيره، فأُنكِر عليه، فأَحضر لهم خمسة عشر نقلًا به.([148])
ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبَّقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبًا وشمالًا، ولا يَعلم عدد نُسَخها إلا الله تعالى، ومن الممتنع أن يَقع التواطؤ على التبديل والتغيـير في جميع تلك النسخ بحيث لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة مُغيَّـرة، والتغيـير على مِنهاج واحد، وهذا مما يُـحيله العقل ويشهد ببطلانه.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم) محتجًّا على اليهود بها: ﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾.
قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ولم يمكنهم تغيـيرها من التوراة، ولهذا لـمَّا قرؤوها على النبي (صلى الله عليه وسلم) وضع القارئ يده على آية الرجم فقال له عبد الله بن سلام: (ارفع يدك عن آية الرجم)، فرفعها، فإذا هي تلوحُ تحتها.([149])
فلو كانوا قد بدَّلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهم ما يبدلونه.
قالوا: وكذلك صفات النبي (صلى الله عليه وسلم) ومخرجِهِ هو في التوراةِ بيِّـنٌ جدًّا، ولم يمكنهم إزالته وتغيـيره، وإنما ذمَّهم الله تعالى بكتمانه، وكانوا إذا احتُجَّ عليهم بما في التوراة من نعته وصفته يقولون: ليس هو، ونحن ننتظره.
قالوا: وقد روى أبو داود في «سننه» عن ابن عمر قال: أتى نفرٌ من اليهود فدعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى القُفِّ([150])، فأتاهم في بيت الـمِدْراس([151]) فقالوا: يا أبا القاسم إنَّ رجلًا منَّا زنى بامرأة فاحكم بينهم.
فوضعوا لرسول الله وسادة فجلس عليها ثم قال: (ائتوني بالتوراة)، فأُتـــي بـها، فنـزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها، ثم قال: (آمنتُ بِكِ وبمن أنـزلكِ)، ثم قال: (ائتوني بأعلَمِكم)، فأُتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم.([152])
قالوا: فلو كانت مبدَّلة مغيرة لم يضعها على الوسادة، ولم يقل: آمنتُ بكِ.
قالوا: وقد قال تعالى: ﴿ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾، والتوراة من كلماته.
قالوا: والآثار التي في كتمان اليهود صِفةَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في التوراة، ومَنعِهم أولادَهم وعوامَّهم من الاطلاع عليها مشهورةٌ، ومنِ اطَّلع عليها منهم قالوا له: ليس به([153]).
فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة.
وتوسطت طائفة ثالثة وقالوا: قد زِيدَ فيها وغُـيِّــرَ ألفاظٌ يسيرة، ولكن أكثرَها باقٍ على ما أُنـزِل عليه، والتبديل في يسير منها جدًّا، وممن اختار هذا القول شيخُنا([154]) في كتابه «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح»، قال: وهذا كما في التوراة عندهم أن الله (سبحانه وتعالى) قال لإبراهيم (عليه السلام): اذبح ولدك، بِكْرَكَ ووحيدَك إسحاق.
فــــ «إسحاق» زيادة منهم في لفظ التوراة.
قلت: وهي باطلة قَطعًا من وجوه عشرة:
أحدها: أن بِكْــرَهُ ووحيده هو إسماعيل باتفاق الـمِلل الثلاث، فالجمع بين كونِه مأمورًا بذبحِ بِكْـــرِه وتعيـينه بإسحاق جمعٌ بين النقيضين.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقُلَ هاجَرَ وابنها إسماعيل عن سارة ويُسكنهما في بَــرِيَّةِ مكة لئلا تَـــغِيـرُ سارة([155])، فأمر بإبعاد السُّــرِّيَّــة([156]) وولدها عنها حفظًا لقلبها ودفعًا لأذى الغَيرة عنها، فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السُّـــرِّيَّــة، فهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعًا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة تذكيرًا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده.
الرابع: أن الله سبحانه بشَّر سارة أم إسحاق ﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾، فبشَّرها بهما جميعًا، فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحاق وقد بشَّر أبويه بِولدِ ولدِه؟!
الخامس: أن الله (سبحانه وتعالى) لما ذكر قصة الذبيح، وتسليمَه نفسه لله تعالى، وإقدامَ إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته؛ قال بعدها: ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾، فشكر اللهُ تعالى له استسلامَه لأمره، وبذْلَ ولدِه له، وجعَـلَ مِن إثابته على ذلك أن آتاه إسحاق، فنجَّى إسماعيل من الذبح وزاده عليه إسحاق.
السادس: أن إبراهيم (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) سأل ربَّه الولَدَ فأجاب الله دعاءَه وبشَّره به، فلما بلغ معه السعي([157]) أمره بذبحه، قال تعالى: ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾، فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بُشِّر به بعد دعائِه وسؤالِـه ربه أن يَهَبَ له ولدًا، وهذا الـمُبشَّر به هو الـمأمور بذبـحه قطعًا بنص القرآن، وأما إسحاق فإنه بُـشِّر به من غير دعوةٍ منه، بل على كِـبـَرِ السِّن وكونِ مثلِه لا يُولد له، وإنما كانت البِشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجَّبت من حصول الولد منها ومنه، قال تعالى: ﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾، فتأمل سياق هذه البشارة وتلك تجدُهما بشارتين متفاوتتين، مخرجُ إحداهما غير مخرج الأخرى، والبشارة الأولى كانت له والثانية كانت لها، والبشارة الأولى هي التي أُمر بذبح من بُـشِّر به فيها دون الثانية.
السابع: أن إبراهيم (عليه السلام) لم يَقدُم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يُفرِّق بينه وبين أمه، وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته فيذبحه بموضع ضَرَّتها، وفي بلدِها، ويدَع ابن ضرَّتها؟!
الثامن: أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلًا - والـخُلَّة تقتضي أن يكون قلبُه كلُّه معلقًا بربه، ليس فيه شعبة لغيره - فلما سأل الولدَ([158]) وهبه إسـماعيل، فتَعلَّقَ به شعبةٌ من قلبه، فأراد خليلُه سبحانه أن تكون تلك الشعبة له ليست لغيره من الخلق، فامتحنه بذبح ولده، فلما أقدم على الامتثال خَلُصت له تلك الـخُلَّة، وتمحَّضت لله وحده، فنُسِخ الأمر بذبحه لحصول المقصود، وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال.
ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يُـحتج في الولد الآخر إلى مثله، فإنه لو زاحمت محبةُ الولدِ الآخر الـخُلةَ لأَمَرَ بذبحه كما أمر بذبح الأول، فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقرَّه في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة، ثم أمره بما يزيل المزاحِم بعد ذلك، وهذا خلاف مقتضى الحكمة، فتأمله.
التاسع: أن إبراهيم (عليه السلام) إنما رُزِق إسحاق (عليه السلام) على الكِبَـر، وإسماعيل (عليه السلام) رُزِقه في عنفوانه وقوَّته، والعادة أن القلبَ أعْلقُ بأول الأولاد، وهو إليه أَمْـــيَلُ وله أحب، بخلاف من يُرزَقُهُ على الكِبَـر، ومحل الولد بعد الكِبَـر كمحل الشهوة للمرأة.([159])
العاشر: أن النـبي (صلى الله عليه وسلم) كان يفتخر بقوله: أنا ابن الذَّبيحيـن.([160])
يعني أباه عبد الله، وجده إسماعيل.
والمقصود أن هذه اللفظة مما زادوها في التوراة، ونحن نذكر السبب الموجِب لتغيير ما غُـيِّـر منها، والحقُّ أحقُّ ما اتُّـــبِع، فلا نغلو غلوَّ المستهينين بها، المستجمِرين بها([161])، بل معاذ الله من ذلك، ولا نقول: إنها باقية كما أُنزلت من كل وجهٍ كالقرآن، فنقول وبالله التوفيق:
إن علماء اليهود وأحبارهم لا يعتقدون أن هذه التوراة التي بأيديهم هي التي أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بِعينِها، لأن موسى (عليه السلام) صان التوراة عن بني إسرائيل خوفًا من اختلافهم من بعده في تأويلها المؤدي إلى تفرُّقهم أحزابًا، وإنما سلَّمها إلى عشيرته أولاد «لاوي»، ودليل ذلك قوله في التوراة: (وكتـب موسى هذه التوراة ودفعها إلى الأئمة من بني «لاوي»، وكان بنو هارون قُضاةَ اليهودِ وحكامَهم، لأن الإمامة وخِدمة القرابِين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم، ولم يبذُل موسى (عليه السلام) من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة، وهي التي قال فيها: وكتب موسى هذه السورة وعلَّمها بني إسرائيل).
هذا نص التوراة عندهم، قال: (وتكون لي هذه السورة شاهدةً على بني إسرائيل)، وفيها قال الله تعالى: (إن هذه السورة لا تُـنسى من أفواه أولادهم).
وهذه السورة مشتملة على ذمِّ طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السُّخط يأتيهم بعد ذلك، وتُـخرَّبُ ديارهم، ويُسْبونَ في البلاد، فهذه السورة تكون متداوَلة في أفواههم كالشاهد عليهم، الـمُوقِف لهم على صحة ما قيل لهم.
فلما نصت التوراة أن هذه السورة لا تـُنسى من أفواه أولادهم؛ دلَّ ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن يُنسى من أفواههم.
وهذا يدل على أن موسى (عليه السلام) لم يُعطِ بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة، فأما بقيتها فدَفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم، وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يَعرفون التوراة ويحفظون أكثرها قَتَلهم «بُـخْتـنصَّر» على دمٍ واحد يوم فتح بيت المقدس، ولم يكن حِفظُ التوراة فرضًا عليهم ولا سُـنة، بل كان كلُّ واحد من الهارونيين يحفظ فصلًا من التوراة، فلما رأى «عُزير» أن القوم قد أُحرق هيكلُهم وزالت دولتهم وتفرَّق جمعهم ورُفع كتابهم؛ جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم «عزير» هذا غاية المبالغة.
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره وهو عند بطائح([162]) العراق لأنه جَـمع لهم ما يَـحفظ دينهم.
وغلا بعضهم فيه حتى قال: هو ابن الله، ولذلك نسب الله تعالى ذلك([163]) إلى اليهود إلى جنسهم، لا إلى كل واحد منهم.([164])
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب «عُزير»، وفيها كثير من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى (عليه الصلاة والسلام)، ثم تداولتها أمةٌ قد مزَّقها الله تعالى كل ممزق وشتَّت شملها، فلحِقها ثلاثة أمور:
أحدها: بعضُ الزيادة والنقصان.
الثاني: اختلافُ الترجمة.
الثالث: اختلافُ التأويل والتفسير.
ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال:
المثال الأول: ما تَقدم من قوله: (ولحمٌ في الصحراء فريسةٌ لا تأكلوا، وللكلب ألقوه).
وتقدم بيان تحريفِهم هذا النص، وحملِه على غير محمَله.
المثال الثاني: قولُه في التوراة: (نبيًّا أُقيم لهم من وسطِ إخوتهم مثلكَ([165])، فليؤمنوا به)، فحرَّفوا تأويلَه، إذ لم يمكِنهم أن يُبَدلوا تـنزيله، وقالوا: هذه بشارة بنيٍّ من بني إسرائيل، وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه لو أراد ذلك لقال: (من أنفسهم)، كما قال في حق محمد (صلى الله عليه وسلم): ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾، وقال تعالى: ﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾، ولم يقل: (من إخوتكم).
الثاني: أن المعهود في التوراة أن إخوتَهم غير بني إسرائيل، ففي الجزء الأول من السِّفرِ الـخامس قولُه لهم: (أنتم عابرون في تُـخوم([166]) إخوتكم «بني العِــيص»، الـمقيمين في «سيعير»، إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضــهم)، فإذا كان «بنو العــيص» إخوةً لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، والروم هم «بنو العيص»، واليهود هم بنو إسرائيل وهم إخوتُهم؛ فكذلك بنو إسماعيل إخوةٌ لجميع ولد إبراهيم.
الثالث: أن هذه البشارة لو كانت بــــ «شمويل» أو غيره من بني إسرائيل لم يَصح أن يقال: (بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل)، وإنما المفهوم من هذا أن بني إسماعيل أو «بني العيص» هم إخوة بني إسرائيل.
الرابع: أنه قال: (أُقيمُ لهم نبيًّا مثلك)، وفي موضع آخر: (أُنزل عليه توراةً مثل توراة موسى)، ومعلوم أن «شمويل» وغيرَه من أنبياء بني إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى، لا سيما وفي التوراة: (لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى)، وأيضًا فليس في بني إسرائيلَ مَن أُنزل عليه توراةٌ مثلُ توراةِ موسى إلا محمد والمسيح صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والمسيح كان من أَنفُسِ بني إسرائيل لا من إخوتهم، بخلاف محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه من إخوتهم بني إسماعيل.
وأيضًا فإن في بعض ألفاظ هذا النص: (كلكم له تسمعون)، وشمويل لم يأت بزيادة ولا نسخ، لأنه إنما أُرسل ليُقوِّيَ أيديَهم على أهل فلسطين وليرُدَّهم إلى شرع التوراة، فلم يأت بشريعة جديدة ولا كتاب جديد، وإنما حُـكمه حكم سائر أنبياء بني إسرائيـــل، فإنـهم كانت تسوسُهم([167]) الأنبياء، كلما هلك نبي قام فيهم نبي، فإن كانت هذه البشارة بــ «شمويل» فهي بشارة بسائر الأنبياء الذين بُعثوا فيهم، ويكونون كلُّهم مثل موسى (عليه السلام)، وكلُّهم قد أُنزل عليهم كتابٌ مثلُ كتابِ موسى (عليه السلام).
المثال الثالث: قوله في التوراة: (جاء الله تعالى من طُور سيناء، وأشرق نوره من «سيعير»، واستعلن من «جبال فاران»، ومعه ربوات المقدسين).
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السَّراة الذي يسكنه «بنو العيص» الذين آمنوا بعيسى، ويعلمون أن في هذا الجبل كان مُقام المسيح، ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور، وأما «جبال فاران» فهم يحملونها على جبال الشام، وهذا من بَـهتهم وتحريف التأويل، فإن «جبال فاران» هي جبال مكة، وفاران اسم من أسماء مكة، وقد دل على هذا نصُّ التوراة أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في «برية فاران»، ولفظُ التوراة: (أن إسماعيل أقام في «برية فاران»، وأنكحته أُمُّـــهُ امرأةً من أرض مِصر).
فثبت بنص التوراة أن «جبال فاران» مسكنٌ لولد إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوةٍ تـَنزل على «جبال فاران» لزِم أنها تـَنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها، ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تـَنزل على غير محمد (صلى الله عليه وسلم) من ولد إسماعيل (عليه السلام)، وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى.
فصلٌ، ومما يدل على غَلطِ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم وفساد رأيهم وعقولهم - كما جاء في التوراة (أنهم شعبٌ عادِمو الرأي، فليس فيهم فطانة) - أنهم سمعوا في التوراة: (بُكورُ ثمارِ أرضك تُـحمَل إلى بيت الله ربك، ولا يُنضَج الجدي بلبن أمه)، والمراد من ذلك أنهم أُمِروا عَـقِيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم أن يستصحبوا معهم إذا حجُّوا أبكار أغنامهم([168]) وأبكار مُستغَــلات أرضهم([169])، لأنه كان فُرِض عليهم قبل ذلك أن تبقى سُخولةُ([170]) البقر والغنم وراء أمها سبعة أيام، وفي اليوم الثامن فصاعدًا يَصلُح أن تكون قربانًا، فأشار في هذا النص بقوله: (لا يُنضَج الجدي بلبن أمه) إلى أنهم لا يُبالِغون في إطـــــالة مكث باكور([171]) أولاد البقر والغنم وراء أمها، بل يستصحبون أبكارهن اللاتي قد عبـَرن سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس ليتخذوا منها القرابين.
فتوَهَّم المشايخ البُـلْهُ أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ في القِدر، وأنهم نُهوا أن يطبخوا لحم الجدي باللبن، ولم يكْفهم هذا الغَلَط حتى حرَّموا أكل سائر اللُّحمان باللبن، فألغوا لفظ الجدي وألغوا حليب أمه، وحمَّـلوا النص ما لا يحتمل، وإذا أرادوا أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كُلًّا منهما على حدة، والأمر في هذا ونحوِه قريب.
فصلٌ، ولا يُستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على الـمُحال واتفاقهم على أنواع الضلال، فإن الدولة إذا انقرضت عن أمةٍ باستيلاء غيرها عليها وأخذِها بلادَها انطمست معالـمُ دينها واندرست آثارها، فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافَّات([172]) وإخراب البلاد وإحراقها، ولا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن تعود([173]) عُلومُها جهلًا، وعزها ذلًّا، وكثرتها قلة، وكلما كانت الأمة أقدم واختَلفت عليها الدول المتـناولة لها بالذُّل والصَّغار كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر.
وهذه الأمة أوفرُ الأمم حظًّا من هذا الأمر لأنها من أقدم الأمم، ولكثرة الأمم التي استولت عليها من الكشدانيين والكِلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى وآخر ذلك المسلمون، وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وكتبهم وقطع آثارهم إلا المسلمين، فإنهم أعدل الأمم فيهم وفي غيرهم، حِفظًا لوصية الله لهم حيث يقول: ﴿ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾، وصادف الإسلام([174]) هذه الأمة تحت ذمة الفرس وذمة النـــــــــصارى، بحيث لم يَــبــقَ لهم مدينة ولا جيش، وأعزُّ ما صادَفه الإسلامُ من هذه الأمة يهودُ خيبر والمدينة وما جاورها، فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لِما كانوا وُعِدوا به من ظهور رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بها، وكانوا يُقاتلون المشركين من العرب فيستـنصرون عليهم بالإيمان برسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل ظهوره، ويَعِدونهم بأنه سيخرج نبي نتَّـــبِعه ونقتُلكم معه قتل عادٍ وإرم، فلما بعث الله (عز وجل) نبيه (صلى الله عليه وسلم) سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه.
وأشدُّ ما على هذه الأمة من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرِهم من ملوك الإسرائيليين، الذين قتلوا الأنبياء وبالـــــغوا في تطلُّبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدَنتها ليُعلِّموا رُسومَها في العبادة([175])، وبنوا لها البِــيَعَ والهياكل، وعكفوا على عبادتها، وتركوا أحكام التوراة أعصارًا متصلة([176]).
فإذا كان هذا تواتُر الآفات على دينهم من قِـبَلِ ملوكهم؛ فما الظن بالآفات التي نالتهم من غير ملوكهم وإحراقهم كتبهم ومنعهم من القيام بدينهم؟
فإن الفرس كثيرًا ما منعوهم من الختان، وكثيرًا ما منعوهم من الصلاة، لمعرفتهم بأن مُعظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى العالم بالخراب، فلما رأت هذه الأمة الجِدَّ من الفرس في منعهم من الصلاة اخترعوا أدعية سموها «الحزَّانة»، وصاغوا لها ألحانًا، وصاروا يجتمعون في أوقات صلواتهم على تلحينها وتلاوتها، وسمَّوا القائم بها «الـــحــــزَّان».
والفرقُ بينها وبين الصلاة أن الصلاة بغير لحن، والمصلي يتلو الصلاة وحده ولا يجهر معه غيره، والـحزَّان يشاركه غيره في الجهر بالـحزَّانة، ويعاونونه في الألحان.
وكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم قالت اليهود: (إنا ننعي([177]) أحيانًا وننوح على أنفسنا)، فيتركونهم وذلك.
فلما قام الإسلام وأقرَّهم على صلواتهم استصحبوا تلك الـحزَّانة ولم يُعطِّلوها.
فهذه فصول مختصرة في كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة، يَعرف بها المسلم الحنيفُ قدرَ نعمة الله (عز وجل) عليه، وما مَنَّ به عليه من العلم والإيمان، ويهتدي بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبي الحق من هذه الأمة.
وبالله التوفيق.([178])
* * *
([1]) انظر ترجمته موسعة في «شذرات الذهب» لابن العماد و «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (رحمه الله).
([2]) يقع الجزء في الصفحات: ص 1074 إلى آخر الكتاب.
([3]) يقع الجزء في الصفحات: ص 1053 إلى آخر الكتاب، وقد أذِن لي (رحمه الله) في الاستفادة من تخريجاته وتعليقاته على الكتاب.
([5]) سورة المائدة : 60 – 61 . والآيات من قوله: ﴿ﮇ ﮈ﴾ إلى قوله: ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ مثبتة في نسخة علي وليست مثبتة في نسخة عزير.
([7]) رواه الترمذي (2953، 2954) وابن حبان (6246) وأحمد (5/378 - 379)، وصححه الألباني (رحمه الله).
([8]) يعكفون أي يقيمون في مكان ويلزمونه مدة. انظر «النهاية».
([10]) سورة الأعراف : 138 – 139 .
([11]) هذا من وجوه بطلان دعاء غير الله، وقد يسر الله القيام ببحث بعنوان «خمسون دليلًا على بطلان دعاء غير الله»، وهو من منشورات مكتبة الاستقامة بمصر.
([12]) شاراتهم جمع شارة وهي اللباس الحسن كما في «المعجم الوسيط».
([13]) الـسَّـنَن جمع سنة وهي الطريقة والمسلك.
([14]) ما بين القوسين ليس من لفظ الحديث، فقد وهم المؤلف فأدخله في هذا الحديث.
([15]) رواه الترمذي (2180) وابن حبان (15/94) وأحمد (5/218) والنسائي في «الكبرى» (11121)، وصححه الألباني، وفي بعض الألفاظ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كبَّر، وفي بعضها أنه سَـــبَّح.
([16]) هذا هي الألعوبة الثانية.
([17]) معنى أخذةً رابية: أي شديدة، يريد بها إغراق فرعون وقومه.
([18]) كليم الرحمـٰن هو موسى، لأن الله تعالى كلمه، كما قال سبحانه: ﴿ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ﴾.
([19]) انظر «صحيح البخاري»، كتاب التفسير، تفسير سورة طـٰه، وقد تم ضبط كلامه منه.
([20]) هو العالم المجتهد المحدث الفقيه المقرئ المفسر، علَّامة وقته، محمد بن جرير بن يزيد، أبو جـعفر الطبري، مات سنة 310، انظر ترجمته في «السير» (14/267)، و «وفيات الأعيان» (4/191-192).
([21]) فرس أدهم أي أسود، انظر «المعجم الوسيط».
([22]) ذنوب أي وافرة الذنب، وتأتي بمعنى طويلة، انظر «المعجم الوسيط».
([23]) فرس وديق أي تشتهي الفحل. انظر «المعجم الوسيط».
([24]) رَوعِ السامري أي نفسِهِ وخَـلَـدِهِ. انظر «النهاية».
([26]) الخُــوار هو صوت البقر. انظر «النهاية».
([27]) انتهى هنا كلام ابن جرير، وقد نقله المؤلف باختصار بعض ألفاظه كما أوضحت بالنقاط، وقد ضبطت النص من المطبوع، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت.
([28]) في «مختار الصحاح» (ص246): «(الْقِبْطُ) بِوَزْنِ السِّبْطِ أَهْلُ مِصْرَ وَهُمْ بُنْكُهَا أَيْ أَصْلُهَا» اهـ. بمعنى أن القبط أو الأقباط اسم لأهل مصر الأصليين القدماء، بغض النظر عن ديانتهم، والله أعلم.
([29]) سمى الله تعالى جميع الأنبياء وأتباعهم بالمسلمين، لأن الإسلام بمعناه العام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهذه دعوة جميع الأنبياء، فلذا سموا بالمسلمين، وأما المعنى الخاص للإسلام فهو الدين الذي بُعِث به محمد (صلى الله عليه وسلم).
([30]) سبوغ النعم أي كمالها وتمامها. انظر «المعجم الوسيط».
([31]) أستاههم جمع (أست) وهو الدُّبُـــر.
([32]) نتق أي اقتلع ورفع. انظر «تفسير ابن جرير» و«النهاية».
([33]) الـذَّرُّ هو نثر الفتات، والفتات هنا هو ما خلَّفه حرق العجل من رماد. انظر «النهاية».
([37]) روى كلام ابن أسحاق المتقدم ابن جرير (رحمه الله) في تفسير الآية 56 من سورة البقرة، وقد ضبطت النص منه.
([38]) جاء النهي عن الانحناء عند السلام في حديث رواه الترمذي (2728) وابن ماجه (3702) عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رجل: الرجل منا يلقى صاحبه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا . والحديث صححه الألباني (رحمه الله).
([39]) رواه البخاري (3403، 4641) ومسلم (3015).
([40]) يعني (رحمه الله) بخدمة الخالق أي طاعته وامتثال أمره، وليس القيام به، إذ الخالق ليس بحاجة إلى من يخدمه، بل هو القيوم سبحانه، أي القائم بخلقه.
([42]) في المطبوع (يُــظِل)، وما أثبته من نسخة (علي).
([43]) أي لَأَن أكون صاحب ذلك الموقف أحبُّ إلي من كل شيء، والمراد التنبيه إلى عَظمة ذلك المشهد. انتهى الغرض من كلام ابن حجر عليه في «فتح الباري».
([44]) أي سرَّهُ كلام المقداد.
([45]) رواه البخاري (3952)، وأما مسلم فلم يروه، فلعل المؤلف وهِم (رحمه الله).
([46]) تدافعوا فيه أي أن كل واحد دفع عن نفسه تهمة القتل واتهم بها غيره.
([47]) أي محمد (صلى الله عليه وسلم).
([48])التعنت هو التشدد وتصعيب الأمور وتعقيدها. انظر «المعجم الوسيط».
([49]) المأمور به هو العبد المكلف.
([51]) كلمة (هذه) ليست عند عزير، والمثبت من نسخة علي.
([52]) يعني بالآية إحياء الميت الذي أنبأ بقاتله.
([54]) من ذلك حديث زيد بن ثابت (رضي الله عنه) أن رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
رواه أحمد (5/184، 186)، وقال محققو المسند: صحيح لغيره.
([55]) آخر من قتلوا من الأنبياء هو نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، حين أهدت له امرأة من خيبر شاة فدست السم فيها، فأثر فيه حتى مات.
([56]) رواه الترمذي (3095)، والبيهقي (10/116) وغيرهما، وصححه ابن تيمية (رحمه الله) كما في «المجموع» (7/67)، والألباني بشواهده في «الصحيحة» (3293)، وهذا تمام لفظ البيهقي: أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي عنقي صليب من ذهب، قال: فسمعته يقول: ﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾.
قال: قلت: يا رسول الله، إنهم لم يكونوا يعبدونهم.
قال: أجل، ولكن يُحِلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويُحرمون عليهم ما أحل الله فيُحرمونه، فتلك عبادتهم لهم.
([57]) انظر قصة تسليط الله بختنصر وسنجاريب وجنودهما على اليهود في تفسير ابن جرير لسورة الإسراء عند قوله تعالى: ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾.
([58]) الصَّغار هو الذل. انظر «النهاية».
([59]) ولهذا سمى الشيخ ابن القيم (رحمه الله) أمة اليهود بالأمة الغضبية.
([60]) الـحَجْر هو المنع من التصرف. انظر «النهاية».
([61]) الترس في الأصل آلة مستديرة يتوقى بها الجندي ضربات الأعداء في الحرب. انظر «المعجم الوسيط».
([62]) البداء هو ظهور الرأي وبدُوِّهِ بعد أن لم يكن، واليهود يرُدُّون نسخ الشرائع الشابقة بشريعة الإسلام زعمًا منهم أن ذلك يستلزم أن الله بدَا له هذا الرأي ولم يكن يعلمه من قبل. انظر «التعريفات» للجرجاني.
([63]) أي البراءة من التحريم والإيجاب حتى ينص الشرع بذلك، كالبراءة من إيجاب الزكاة إلى أن ورد الشرع بإيجابها، والبراءة من تحريم الخمر إلى أن ورد الشرع بتحريمها.
([64]) الاستصحاب في اصطلاح الأصوليين هو استبقاءُ حكمٍ ثبت في الزمن الماضي للزمن الحاضر والمستقبل ما لم يطرأ الحدَث عليه، سواء كان الحكم حرامًا أو حلالًا، فكأن الحكم بقِي مستصحبًا من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل، وضده رفع البراءة، أي رفع بقاء الحكم، وكلاهما لا يقول به أحد من أهل الملل – كما قال ابن القيم –، فإنه لا بد كلما استجدت شريعة أن تحرِّم أمورًا كانت حلالًا وتحلِّل أمورًا كانت حرامًا. انظر «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» (2/974)، الناشر: دار الفضيلة – الرياض، للشوكاني (رحمه الله).
([65]) يعني بالهاروني مَن كان من نسل هارون عليه السلام.
([66]) أي يكون طاهرًا، يمكنه أن يصلي.
([67]) التقدير: وكان مفسدةً في شريعة موسى عليه السلام.
([68]) أي: لم يعطوهم جوابًا شافيًا.
([71]) اللفيف هو الجمع من الناس. انظر «المعجم الوسيط».
([73]) القوَّاد في الأصل هو الساعي بين الرجل والمرأة ليوقعهما في الفجور، واستعيرت الكلمة هنا فوُصِف إبليس بها، إذ هو يسعى بين بني آدم وبين المعاصي عمومًا. انظر «المعجم الوسيط».
([74]) البتارك جمع بـترك ويسمى البطريق والبطريك، هو رئيس رؤساء الأساقفة، ومُقَدَّم النصارى. انظر «المعجم الوسيط».
([75]) الحخاميم جمع حاخام، وهو فقيه اليهود كما بيَّن الشيخ بعده.
([76]) تقدير الكلام: لذلك قطعوا الزيادة فيه.
([78]) الخلوة هي الحال التي يكون فيها صاحبها غير مختلط بالناس، والمقصود هنا أن اليهود كانوا يريدون الحفاظ على دينهم وعدم الاختلاط بالأمم الأخرى لئلا يدخل في عقيدتهم ما ليس منها.
([80]) أخبية جمع خِباء، وهو البيت المصنوع من وبر أو شعر أو صوف. انظر «المعجم الوسيط».
([81]) الـخُطَّاف نوع من الطيور. انظر «المعجم الوسيط».
([83]) العَــــذِرة هي ما يخرج من الإنسان من الغائط.
([84]) أي يوهمهم أنه ينبغي عليهم التنزه عما هم فيه من الحال الدينية، وكلمة (عليهم) مثبتتة في نسختي عزير وعلي، ولعله سبق قلم من ابن القيم (رحمه الله)، فإن الأشبه بالسياق كلمة (عليه)، والله أعلم.
([86]) أي يكون أمره عندهم منكرًا وغامضًا.
([87]) أي يُفسِد عليه ما فعله.
([88]) كلمة الناموس لها عدة معانٍ، وتعني في هذا السياق القانون والشريعة. انظر «المعجم الوسيط».
([89]) يحتلب درَّهم أي يحتلب البهيمة التي تدر حليبًا كثيرًا، كناقة ونحوها، يعني بذلك أنه يأخذ أنفس ما عندهم من الخير.
([90]) الثلب هو العيب والتنقص. انظر «المعجم الوسيط».
([91]) حميُّها أي حَــمـوُها وهو أخو زوجها.
([92]) أخيه الدارج أي الميت. انظر «لسان العرب».
([94]) يُـــــنبِز أي يُلقب. انظر «لسان العرب».
([95]) الإخراق به أي الكذب عليه. انظر «المعجم الوسيط».
([96]) الرحا: أداة يُطحن بها. انظر «المعجم الوسيط».
([97]) مُوضِعين أي مسرعين، من الإيضاع وهو السرعة، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في حجته: عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع.
([98]) في نسخة عزير (أن)، والمثبت من نسخة علي.
([100]) جاء ذلك في الحديث الذي رواه مسلم (2944) عن أنس بن مالك (رضي الله عنه): يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا.
وأصبهان من مدن إيران، وانظر للتوسع كتاب الشيخ الألباني (رحمه الله) «قصة المسيح الدجال، ونزول عيسى (عليه السلام) وقتلِه إياه».
([101]) ورد في خروج المهدي عدة أحاديث، نقل جملة منها الشيخ الألباني (رحمه الله) في «الصحيحة» (1529، 2236، 2293، 2308).
([102]) انظر إلى قلة أدبهم مع الله تعالى وسوء توقيرهم له.
([103]) النخوة هي العظمة والكبرياء والحماسة، كما في «المعجم الوسيط»، وعليه فمعنى ينخونه أي يستثيرون فيه العظمة والكبرياء والحماسة.
([104]) أي: ومن أمثلة جرأتهم على الله تعالى.
([105]) أي الله - سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا -.
([106]) الرمد: مرض يصيب العينين.
([107]) القُــتار دخان ذو رائحة خاصة ينبعث عن الطبخ أو الاحتراق. انظر «المعجم الوسيط».
([108]) اللغوب هو التعب والإعياء. انظر «النهاية».
([110]) أي: طلب منا أن نُقرِضه، قال ذلك لما أنزل الله تعالى: ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾، كما رواه ابن جرير في تفسير الآية المذكورة.
([111]) انظر تفسير الآية وسبب نزولها في تفسير ابن جرير وكذا تفسير ابن أبي حاتم، (سورة آل عمران: 181).
([112]) النَّسمة هي الروح. انظر «النهاية».
([113]) أي ينظر بعضهم إلى عورة بعض.
([114]) آدر أي به انتفاخ في خصيته.
([115]) جمح أي أسرع إسراعًا لا يرُدُّه شيء. انظر «النهاية».
([116]) طَفِق أي أخذ في فعل ما. انظر «النهاية».
([117]) قال ابن الأثير (رحمه الله) في «النهاية»: الندَب أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، فشُبه به أثر الضرب في الحجر.
([118]) رواه البخاري (278) ومسلم (339)، واللفظ للبخاري، وقد ضبطت النص منه.
([119]) انظر كلامه هذا في تفسير الآية المذكورة في تفسيره (رحمه الله).
([120]) انظر كلامه هذا في تفسير الآية المذكورة في تفسيره (رحمه الله).
([121]) أي قالت لموسى (عليه السلام).
([122]) أي بسبب موته وأنه لم يكن مقتولًا.
([123]) الرَّخَم نوع من الطير معروف، واحدته رخَمة، وهو موصوف بالغدر، وقيل: بالقذر. انظر «النهاية».
([124]) أي: يُـــنجِبن منه نسلًا.
([125]) أي: يَــنكحنا كحال البشر.
([126]) أحبَلهما أي حملَا منه.
([127]) أي من جهتها في العائلة.
([128]) أي يأتيها في دُبُرِها.
([129]) أي أنـزل مَنِــيَّهُ في الأرض وليس في فرجها.
([130]) مستشرف أي مكان مشرِفٍ ظاهر.
([131]) الشَّبق هو شدة الشهوة. انظر «المعجم الوسيط».
([134]) الكَــــنَّــه: امرأة الابن وامرأة الأخ. انظر «المعجم الوسيط».
([135]) رَبُّ هـٰذين، أي مالكهما.
([136]) أي هكذا عَــرَضًا، بسبب تلك الزَّنْــــــية.
([137]) هذه فِرية أخرى على الأنبياء.
([138]) هذه فِرية أخرى على الأنبياء.
([139]) أي ولدُ زَنية، حاشا نبي الله وأمه. انظر «المعجم الوسيط».
([140]) الــتِّــكة هي رباط السراويل. انظر «المعجم الوسيط».
([141]) الراسم هو الماء الجاري كما في «المعجم الوسيط»، ولعله ماء كان يجري في ديارهم من نبع أو نهر ونحوه.
([142]) غَـــيَّــةٌ أي زنية، والرِّشدة أي نكاح صحيح، انظر «المعجم الوسيط». واليهود يعنون بهذا أن عيسى عليه السلام ولدُ يوسف النجار، وأن أمه مريم حملت به من سِفاح لا من نكاح، حاشا نبي الله عيسى من ذلك.
([143]) بُعدُ العهدِ أي بُعد الزمان.
([144]) هكذا في المطبوع وفي نسخة (علي)، ولعل الصواب: الذي.
([145]) أي أن ما يعارِض به غيرُه كلامَه يكفي في بطلان قوله، فهو يصف ما أخذه عن أبيه بالصدق، وهم كذلك يصفون ما أخذوه عن آبائهم بالصدق.
([146]) قاله البخاري (رحمه الله) في «صحيحه»، كتاب التوحيد، باب: 55، وقد ضبطت النص منه.
([147]) يعني بشيخه: ابن تيمية (رحمه الله).
([148]) أي أَحضر لهم خمسة عشر نقلًا يثبت كلامه.
([149]) قصة الرجم رواها البخاري (3635) ومسلم (1699)، وهي أن رجلًا من اليهود زنى بامرأة منهم، فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسألهم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويُجلدون. فقال عبد الله بن سلام وكان من أحبارهم: كذبتم، إن فيها – أي التوراة – الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها فجعل أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقال اليهود: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرُجِما.
([150]) القَفُّ وادٍ من أودية المدينة. انظر «النهاية».
([151]) المِدراس هو البيت الذي يدرس فيه اليهود. انظر «النهاية».
([152]) رواه أبو داود (4449)، وحسنه الألباني في «الإرواء» (5/94).
([154]) يعني بشيخه: ابن تيمية (رحمه الله) كما تقدم.
([155]) أي تغار من المملوكة كما سيأتي قريبًا.
([157]) أي صار الابن يمشي مع والده ويسعى للعمل، وهو سن يكون فيه الابن قد بلغ حبه عند والده مبلغًا عظيمًا.
([158]) أي سأل إبراهيمُ ربَّــــهُ الولد.
([159]) أي مكانة الولد في القلب بعد الكِبَر كمكانة الشهوة للمرأة بعدما تكبر، فإن المكانة تكون ضعيفة في الحالين.
([160]) للأمانة العلمية، فالحديث ضعيف كما بينه الألباني (رحمه الله) في «الضعيفة» (331، 1677)، ويغني عنه ما تقدمه من الأدلة العقلية والنقلية، والحمد لله.
([161]) أي الذين يقولون: إنها تصلح للاستجمار، يشيرون إلى أنها غير محترمة لأنها – برمتها - ليست كلام الله أصلًا، حسب قولهم.
([162]) بطائح جمع أبطح، وهو المكان المتسع يمر به السيل، فيترك فيه الرمل والحصى الصغار. انظر «المعجم الوسيط».
([164]) كما في قوله تعالى: ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾.
([165]) المخاطب هو موسى عليه الصلاة والسلام، والمقصود بالنبي هو النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) .
([166]) تُـخوم جمع تخم، وهو الحد الفاصل بين أرضين. انظر «المعجم الوسيط».
([167]) تسوسهم مِن ساس، أي تولى القيادة والرئاسة. انظر «المعجم الوسيط».
([168]) أبكار أغنامهم أي أول نَتاجها.
([169]) أبكار مستغلات أرضهم أي أول نَتاجها.
([170]) سخولة جمع سخلة وهي صغار الغنم والبقر بعد ولادتها. انظر «المعجم الوسيط».
([171]) باكور أولاد البقر أي أول نتاجها.
([172]) المصافَّات أي صفوف الجيش، ومقصود المؤلف تتابع الحروب عليهم، وانظر «المعجم الوسيط».
([173]) في المطبوع (يعود)، والمثبت من نسخة علي.
([174]) صادف الإسلام هذه الأمة أي قابلها على غير موعد. انظر «المعجم الوسيط».
([175]) أي ليُعلِّموا الناس صفة عبادة تلك الأصنام.
([177]) في نسخة عزير (نُـــغَـــنِّـي)، والمثبت من نسخة علي.
([178]) تم الكتاب بحمد الله، وقد تكلم غير ابن القيم (رحمه الله) من علماء المسلمين في بيان تلبيس ابليس على اليهود، كابن الجوزي (رحمه الله) في كتابه «تلبيس إبليس»، باب: «ذِكر تلبيس إبليس على اليهود»، فليرجع إليه من أراد الاستزادة.
-
السبت PM 02:19
2023-09-23 - 1355