علمانية الاجتماع والأخلاق - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 442022
يتصفح الموقع حاليا : 86

البحث

البحث

عرض المادة

علمانية الاجتماع والأخلاق

[مجتمع القرون الوسطى وأخلاقها]

كانت أوروبا في القرون الوسطى تعيش حالة من الهمجية والانحطاط لا يكاد يضارعها فيها أي جزء من العالم آنذاك، لا سيما القرون الثلاثة الأولى التي اصطلح مؤرخو الغرب على تسميتها العصور المظلمة، وإن كان يطلق أحياناً على القرون الوسطى كلها العصور المظلمة تلك التي امتدت قرابة عشرة قرون (1).

كان التفسخ الاجتماعي والتدهور الأخلاقي يسيطران على حياة أوروبا القاتمة ابتداءً من غزو النورمانديين البرابرة لجنوب أوروبا وسقوط إيطاليا خاصة، في أيديهم. لكن التاريخ مهما أسهب في وصف التدني الاجتماعي والأخلاقي لتلك الفترة لا يستطيع أن ينزع منها صفة البشرية، فهي مهما بلغ انحطاطها لا تصل إلى القاع الحيواني الذي تنغمس فيه أوروبا المعاصرة، والصورة مختلفة بين مجتمعين: أحدهما بشري متخلف، والآخر حيواني هابط!

كان لمجتمع القرون الوسطى قيمه وتقاليده وأخلاقه البشرية، وهي قيم مجردة وتقاليد وأخلاق قائمة بذاتها، لا تتوقف على سند موضوعي أو عامل خارجي أياً كان، وبغض النظر عن مقدار مراعاتها وتطبيقها عملياً، فإنها كانت حقائق مقررة لا مراء فيها، وكان التمسك بها مدعاة للاعتزاز، والخروج عليها مصدراً للاستنكار وجرحاً في الفضيلة والرجولة.

أما حراسة تلك القيم والأخلاق ومحاولة ترسيخها فكانت ملقاة على عاتق الكنيسة ومنوطة بجهود الآباء والرهبان الذين يقدمون النماذج العليا لها، غير أن الكنيسة بتحريفها لدين الله وابتداعها ما ليس منه أجرمت في حق نفسها وأتباعها، وأسهمت من غير قصد في هدم الأسس الأخلاقية التي قام عليها مجتمع القرون الوسطى، وقام عليها سلطانها العظيم.

وقصة أخلاق الكنيسة تحكي تناقضاً صارخاً وتبايناً عجيباً:

فمن جهة التصور اشتطت الكنيسة وغلت في تصورها للفضيلة والخلق الرفيع، ووضعت لها الشروط والمواصفات التي تنوء بالجهد البشري، ولا يستطيع استكمالها-عدا الملائكة- إلا حفنة ضئيلة من البشر تتمتع بمزايا غير عادية، ولا يصح أن تتخذ مقياساً لسائر بني الإنسان.

ومن جهة السلوك تلطخت سيرة رجال الكنيسة وأعضاء الأديرة برذائل وأرجاس يترفع عنها الفرد العادي ويتستر عليها الفاجر البذيء وقد سبق الحديث عن ذلك في الباب الأول أي: أنها في الوقت الذي تحلق فيه تعاليمها في السماء نجد أن واقعها يتخبط في الوحل! فالعفة -مثلاً- خلق إنساني نبيل فطرت عليه البشرية، ودعت إليه الأديان كافة، لكن الكنيسة بالغت في تصورها لهذا الخلق، حتى حرمت ما أحل الله، وأنكرت ما تلح عليه الفطرة، وتدعو إليه الغاية من الوجود الإنساني، وذلك بابتداعها الرهبانية وتنفيرها الشديد من

 


(1) انظر الموسوعة الذهبية مادة العصور المظلمة.

المرأة لذاتها، فتعاليمها تقول عن النظر المجرد: إذا نظرت عينك إلى معصية فاقلعها؛ فإنه خير لك أن تفقد عضواً من أعضائك من أن يلقى جسدك كله في النار (1).

وانطلاقاً من ذلك حرمت الزواج على رجال الدين معتقدة أن رجل الدين لا يجوز له أن يهبط إلى مستوى أخلاق الشعب، ويشاركهم في الاستمتاع الدنس!

هذا من الوجهة النظرية، أما الواقع العملي فشيء مختلف تماماً، فقد كانت الأديرة مباءات للفجور ومواخير للدعارة، وكان للبابوات والقساوسة من العشيقات والحظايا ما لا يكون لدى الملوك الدنيويين، وتولى منصب البابوية عدد من الأبناء غير الشرعيين لبعض الآباء والكرادلة (2)

والمصيبة أن تلك الحقائق لم تكن خافية على الشعب، بل كانت حديث الألسنة ومثار الجدل.

والجشع على المال والملذات خلق ذميم - ما في ذلك شك - ولكن الكنيسة غالت في ذمه وتحريمه والدعوة إلى الزهد والتقشف، إلى درجة أنها حرمت المال الحلال، وقدست الفقر، وحظرت سبل الرفاهية، وقالت أناجيلها: مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ... وفي الوقت نفسه كان رجالها أجشع الناس وأغنى الملاك وأترف الأغنياء.

والتسامح خلق رفيع ومنقبة عظيمة - باتفاق العقول والفطر - غير أن الكنيسة بالغت في فرضه، حتى أوجبت على أتباعها قبول الذل وتحمل الظلم فقالت: "من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن نازعك رداءك فاعطه الآخر"

وقالت: باركوا لاعنيكم، وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم.

كل هذا في العقيدة والتصور، ولكن الواقع العملي يشهد أن الكنيسة ارتكبت من ألوان الظلم وفظائع الطغيان ما يتورع عنه جبابرة الفاتحين وعتاة المستبدين، ولم تعرف رحمة ولا تسامحاً حتى مع مخالفيها من أتباعها أو أبناء دينها.

وهكذا الحال في سائر الصفات النبيلة والأخلاق المحمودة.

تطرف وشطط في التصور، وإسفاف وهبوط في السلوك، وكان لهذا التناقض الصارخ أثره البالغ على الناس في واقع حياة أتباعها أيام مجدها وسطوتها، ثم في ثورة أعدائها بعد أن تصدعت أركانها، وهوجمت من كل مكان.

كان أتباعها طيلة القرون الوسطى لا يستطيعون الارتفاع عملياً إلى المستوى المثالي النظري لأخلاقها - ولهم في ذلك العذر - فكانوا يتزوجون ويجمعون المال ويثأرون لأنفسهم من ظالميهم، ويتصرفون في سلوكهم بعيداً عن قيودها التي لا تطاق، ولا يلزمون أنفسهم بتطبيق قواعد وأنماط سلوكية لم يسجل التاريخ أنها طبقت - بصورتها النظرية - على نطاق واسع في أية مرحلة من المراحل، لكنهم كانوا وهم يفعلون ذلك يجدون في أنفسهم تناقضاً وجدانياً، ويشعرون أنهم -إذا لم يكونوا على الصورة المثلى- مقصرون ومخطئون، يتعرضون للتأنيب المستمر من أعماق ضمائرهم، وكان هذا الشعور ملازماً لهم نفسياً رغم أنهم مظهرياً يمارسون الحياة العادية بكاملها.

وتولد من ذلك إحساس دائم بالذنب لدى النفسية الأوروبية كلما تاقت إلى مباح أو استمتعت بمتاع وإن كان الحلال المحض! وهو إحساس توارثته الأجيال المتعاقبة حتى أصبح من الرسوخ بدرجة تجعل التخلص منه لابد أن يأتي في صورة ثورة نفسية هائجة ورد فعل جانح، وهو ما فعلته أوروبا الحديثة، هذا من جهة.

ومن حيث النظرة الشكلية العامة نجد أن مجتمع القرون الوسطى كان أسرياً في تكوينه، زراعياً في حرفته، إقطاعياً في طبقاته ومراتبه ولكل ميزة من هذه المميزات انعكاسه الواضح على الأخلاق الاجتماعية.

فالنظام الأسري ساعد على ترسيخ فكرة المحافظة على العرض وقداسة العلاقة الزوجية، حتى لقد كان القتل هو العقوبة المتوقعة للزوجة الخائنة أو للمعتدي على العرض.

وطبيعته الزراعية أسهمت في المحافظة على الواجبات الفردية وعلى التقاليد المتوارثة منذ القدم، والتي كانت مزيجاً من تعاليم دينية وأعراف اجتماعية، تشكل بمجموعها قواعد أخلاقية ثابتة يلتزم بها المجتمع.

ولكن هذه الحال -في الوقت نفسه- بإهمال الكنيسة وأحياناً بإشرافها، ساعدت على تشرب المجتمع لأفكار عتيقة وخرافات بالية من بقايا الأساطير القديمة أو من اختلاق الأقوال الساذجة، روجها الجهل المطبق وهبوط المستوى العقلي للعامة والخاصة، فتشابكت مع تلك القواعد الأخلاقية وامتزجت هذه بتلك مما أغرى الباحثين الاجتماعيين اللادينين بالاعتقاد بأن تلك، الأخلاق وليدة الخرافات نفسها أو قرينتها الدائمة.

ونظامه وطبقاته الإقطاعية أضفت عليه صفة الثبات المطلق الذي يميز عصر الإقطاع برمته، وذلك ما أوحى إلى الباحثين بعد انفجار قنبلة التطور في أوروبا بأن التقاليد والأخلاق ليست ذاتية ولا ثابتة بل تكتسب سماتها ومميزاتها من طبيعة الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي.

هذه بعض الملامح الإجمالية الموجزة لاجتماع وأخلاق القرون الوسطى، وستزداد صورتها وضوحاً عند عرض الاتجاهات الاجتماعية اللادينية التي إنما نبتت أصلاً لتكون ردود فعل لذلك الواقع الاجتماعي نفسه.

 


(1) هذا القول وأمثاله مما سيأتي تنسبها الأناجيل للمسيح عليه السلام، ولا نستطيع أن ننفي أنه لم يقلها قطعاً، لكننا نقول: إنه على فرض صحتها فإن المقصود منها الترفع والتسامي وليس التكليف.
(2) انظر: مثلاً قصة الحضارة: ول ديورانت: (14/ 375 - 380).

 

  • الاثنين AM 06:09
    2022-07-04
  • 1447
Powered by: GateGold