المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414825
يتصفح الموقع حاليا : 251

البحث

البحث

عرض المادة

النتائج السيئة للعلمانية على الإنسان

وليست عاقبة هذا الشرك هي الخلود المؤبد في النار فحسب، بل إن أتباعه ليصلون نار الضياع والتمزق والقلق في هذه الدنيا، ومع أننا قد سردنا أمثلة عديدة على ذلك فلا بأس هنا أن نورد بعض النتائج السيئة للعلمانية على الإنسان الذي يظل يعيش في ظل حياة ترتكز قاعدتها على هذا المبدأ الإشراكي:

يقول الدكتور عماد الدين خليل:

"في ظلال المجتمع العلماني يتمزق الإنسان بناء على تمزق مصيره، وتزدوج شخصيته اعتماداً على الثنائية التي اصطنعها بين المادة والروح، والجدران التي أقامها بين تجربتي الحس والوجدان، والجفاء الذي باعد به زيفاً بين عالمي الحضور والغياب، بين ما هو قريب ومرئي وما هو بعيد لا تراه العيون، والتصور الذي يصدر عنه ذلك الإنسان لا يوائم بحال بين العلاقات المعقدة المتشابكة التي تحكم الكون والعالم والحياة، بل هو تصور يفصل بالقسر والعناد بين هذه العلاقات جميعها، يمزقها تمزيقاً، ويعمل فيها تقطيعاً وتشويهاً، فتغدو طاقات الكون والإنسان والحياة وما بينها جميعاً من وشائج وارتباطات -تغدو في حس العلماني وتصوره فوضى يسودها الانفصال والصداء والجفاء .. الدين يتناقض مع العلم، والفلسفة العقلية ترفض التشبث الطبيعي بالواقع الملموس والمذاهب الطبيعية لا تلزم نفسها بقيم خلقية أو إنسانية.

وهكذا ..

سلسلة من المصادمات التي لا تقتصر آثارها السيئة على العالم الخارجي فحسب، بل في أعماق الإنسان وتجربته الذاتية كذلك .. ذلك أن كل قيمة وطاقة أو فاعلية مما ذكرنا ترسم له مصيراً معيناً، وتسعى إلى شده إليه، فيغدو بالتالي مشدوداً إلى مصائر شتى متفرقة متناقضة لا يسودها التوحد والانسجام، وهذا هو السبب العميق الذي يؤدي -في العلمانية- إلى التمزق والازدواج، فالإنسان العلماني يقسم فعالياته الحياتية إلى قطاعات ومساحات منفصلة، يسعى في كل منها إلى تشكيل مصيره في إطار ذلك القطاع أو تلك المساحة وبطريقة (انعزالية) تماماً عن سائر الفعاليات، وهو خلال ذلك لابد أن يشعر بالتناقض المرير بين فاعليات حياته جميعاً، وينظر -أخيراً- فيرى حياته وقد تشتت وكيانه الذاتي وقد أصيب بالازدواج، أشعر -وهذا شعور كثير من الناس الذين هم من جيلي- أشعر أن هناك خطأ في التفريق بين الروح والجسد .. إنني أحلم بشكل من الحياة فيه يسعى الإنسان (كله) روحاً وجسداً في سبيل تحقيق ذاتي أعمق بشكل لا تكون فيه الروح والمشاعر عدوين كل منهما للآخر، وفيه يستطيع الإنسان أن يتحقق بالوحدة في ذات نفسه وبمعنى مصيره" (1).

لقد فتح ذلك الإنسان وعيه على حقيقة محزنة، وهي أن ليس ثمة مصير موحد يتحقق وينتمي إليه، ومن ثم غدت حياته مزقاً مبعثرة لا يجمعها رباط ولا يشدها مصير، يدخل للمحراب ويسجد لله ويلعن الطبيعة، ويخرج إلى المصنع لينحني للآلة ويكفر بالله، ويركض وراء العقل ليخطط له منهاجاً في الحياة الاجتماعية، ويسعى إلى الدين ليهبه الطريق في حياته الفردية، دنياه تتجه إلى الشمال وأخراه تتجه إلى اليمين، فإن أراد الدنيا ابتعد عن الآخرة، ضاع منه مصيره الخالد، وإن أراد الآخرة ابتعد عن الدنيا، فضاع منه مصيره الحيوي القريب، وإن وقف في المنتصف يريد أن يوحد مصيره: هنا وهناك، روحه وجسده، عقله وإلهه، محرابه ومصنعه، تمزق لأنه يعتقد حتى -قرارة ذاته- أن إرادة الله تسير باتجاه معاكس تماماً لإرادة الإنسان، ولما كانت حياة الإنسان (لا تفرغ) من المعنى، بل هي استمرار شعوري أو فكري وعملي، ولما كان هذا الإنسان في حالة الاستمرار التي يحياها يسعى إلى تشكيل مصائر شتى اصطنع بينها التناقض والصدام، فيمكن القول عندئذ إن وحدته قد غدت زائفة تماماً، وأنه حرم من مصيره عن طريق تشويه وتمزيق التزاماته بالقيم التي تسود الكون والحياة والعالم؛ بحيث يستطيع أن يقول في أوج ضياعه: أريد أن أفلت من المصير" (2).

والقضية نفسها - قضية توحيد الذات والإرادة والهدف، أي: بالمصطلح الاسلامى توحيد العبادة تعرض لها مؤلف أمريكي يعمل طبيباً نفسياً، واضطر المسكين بحكم عمله إلى الكتابة لمرضاه عن أفضل طريق للتخلص من إرهاق الحياة العصرية وقلقها، لكنه في الفصل الأخير من كتابه نسي المرضى واشتغل بنفسه، إنه مريض هو أيضاً! لماذا؟ لأنه كما يقول: لا يملك الإيمان الصحيح!

فهو يصرخ مستنجداً: (إنني محتاج للدين لتنظيم حياتي) (3).

ولكن أي دين؟ أهو النصرانية المحرفة؟ كلا.

إنه يرى أن إيمانها ناقص مشوه: "ومعركتي مع رجال اللاهوت لا ترجع إلى أنهم يقولون لي عن الله أكثر مما يجب، بل لأنهم يقولون أقل بكثير مما يجب، فأنا أبغي معرفة كل شيء عنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنا مثل الطفل الشره الذي يحصل في عيد الميلاد على لعبات ست، فيبدي أنه صدم؛ لأنه لم يحصل على كل ما في حانوت لعب الأطفال من لعب" (4).

لذلك يعترف في جرأة نادرة:

"إن العالم الغربي لم يهضم بعد الديانات العظيمة التي نشأت في الشرق الأوسط، إنه لم يخرج بعد من العصور المظلمة" (5).

إنه لعجيب أن يكون هذا الرجل طبيباً يداوي الناس وهو مريض، ولكن الأعجب منه هو أن يبحث الحائرون في الغرب عن دين ينظم حياتهم، في حين أن الذين منحهم الله الموهبة الكريمة في الشرق يقولون: لا علاقة للدين بشئون الحياة، ويريدون أن ينظموا حياتهم بتناقضات وفلسفات أولئك الحيارى!!

ونزيد الأمر إيضاحاً بإيراد شاهد على أن الشركاء المتشاكسين يفقدون الإنسان الأرض الثابتة التي يستطيع الوقوف عليها، ويزجون به في متاهات لا قرار لها وصدامات لا سبيل للخلاص منها يقول سمول:

"إن رأسمالنا الأخلاقي -إذا تحدثنا بوجه عام- إنما يتكون من مجموعة من الأخلاقيات الإقليمية يعوزها التجانس، وبهذه الأخلاقيات يحتفظ المجتمع بحركته، ولكنه رغم هذا يبعثر مجهوداً هائلاً يبذله في تلك الاحتكاكات التي تعوق حركته، إننا لا نملك مستوى أخلاقياً عاماً تستطيع أن تحتكم إليه طبقة من الناس ضد أخرى، وتستمد منه حكماً تلتزم بقبوله الطبقة التي تخسر القضية

فلنفترض -على سبيل المثال- أننا وسط صراع من صراعات العمال وأصحاب الأعمال، وقد اقترح أن تحال المشكلة إلى التحكيم، ثم تقابل ممثلو الطرفين المتنازعين؛ فإنه سرعان ما يتبين أن النزاع لا يمكن الفصل فيه على أسس أخلاقية، فإن للأطراف المتنازعة وربما لهيئة التحكيم -أيضاً- مستوى أخلاقياً مختلفاً، فأخلاقيات العاملين تقوم على أساس فكرة حق العمل، أما أخلاقيات المحكمين فإنها قد تتأرجح بين تفسير رجل القانون للقانون المدني، وبين فكرة الفيلسوف المتأمل عن الحقوق المثالية الإنسانية للإنسان بوصفه إنساناً، أي أنه لا يوجد أخلاقيات مشتركة نرجع إليها، فلا المتقاضون ولا المحكمون يستطيع أيهم أن يقنع الآخرين بضرورة التسليم بقاعدة عليا من الحق" (6).

أرأيت أن المجتمع الذي يرفض التحاكم إلى شرع الله والسير على هداه لا يستطيع أن يملك قاعدة عليا من الحق؟! لأن لكل معبود من الشركاء قاعدته الخاصة وسبيله المختلف، ولا سبيل أبداً إلى توحيد هذه القواعد إلا بالتخلص من الشركاء جميعاً، والاتجاه المنقاد المستسلم لله تعالى وحده لا شريك له.

وبين فوضى الأرباب والآلهة والطواغيت والمعبودات ذات الأسماء والشعارات المختلفة والصور المتباينة، يسير المؤمن الموحد بخطا ثابتة في طريق واضح أبلج لا زلل فيه ولا عثار، وهو مملوء ثقة ويقيناً بأن اختياره لغير هذا الطريق أو تردده في الاستمساك به معناه الكارثة الكبرى والخسارة الفادحة.

((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) [الزمر:64 - 66].


(1) من قوله: (أشعر ... إلى هنا من كلام محمد أسد).

(2) تهافت العلمانية: (81/ 83).
(3) لمن ترهقهم الحياة، هارولد فينك: (274).
(4) المصدر السابق: (270).
(5) المصدر السابق: (276).

(6) الجماعة، ماكيفر وزميله: (255 - 256).

 

 

  • الخميس PM 06:24
    2022-06-16
  • 1018
Powered by: GateGold