المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417492
يتصفح الموقع حاليا : 215

البحث

البحث

عرض المادة

نكبة بغداد وسقوط الخلافة

لم يكن سقوط بغداد على يد المغول سقوط مدينة كبيرة أو سقوط  عاصمة أو قاعدة دولة فقط , بل كان سقوطا لرمز طالما اعتز به  المسلمين وطالما كان ملاذاً للطريد و الشريد . كانت مركز إشعاع سياسي وثقافي و حضاري فكان سقوطها سقوطاً  لمرجعية يستمد منها الكثير من حكام العالم الإسلامي الشرعية لحكمهم منها حتى في  أوقات ضعفها وذلك لمكانتها الروحية و الشرعية فمع  أنها – الخلافة العباسية – فقدت السيطرة الفعلية على أغلب المناطق الإسلامية – منذ أمد بعيد – إلا أن اسم الخليفة كان يسبق اسم الحاكم في خطبة الجمعة في المناطق التي لا تخضع لحكمها المباشر .

كل هذا جعل من سقوط بغداد حدثاً مؤثراً على النواحي السياسية و الثقافية و الشرعية من حياة المسلمين وخاصة فقد الخلافة حتى بصورتها الضعيفة و الذي كان  يعطي شعوراً بالوحدة الفكرية و الوحدة الشرعية .

ومما يهولك عند قراءتك لسقوط بغداد بالإضافة للجانب السابق   الأحداث الدامية والتي قل أن يشهد التاريخ بمثلها  ولذا فجع المؤرخون و العلماء لهول لهذه الحدث فكانت كلماتهم خير تعبير  عن  هذه المأساة ومن ذلك

 

قول  تقي الدين السبكي ([1]): [.....  سنة ست وخمسين وستمائة وهي السنة المصيبة بأعظم المصائب , المحيطة بما فعلت من المعائب , المقتحمة أعظم الجرائم الواثبة على أقبح العظائم , الفـاعـلة بـالـمـسلميـن كل قـبـيـح وعـار , الـنــازلــة عــلـيـهـم بالكفار المسمين بالتـتـار .

ولا بأس بشرح واقعة التتار على الاختصار , وحكاية كائنة بغداد لتعتبر بها البصائر , وتشخص عندها الأبصار , ويُجري المسلمين على ممر الزمان دموعهم دما , و ليدري المؤرخين بأنهم ما سمعوا بمثلها واقعة جعلت السماء أرضا و الأرض سماء ] .

وقال أيضا([2]): [ ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة : ذات الداهية الدهياء و المصيبة الصماء ] .

وقال ابن كثير([3]) : [ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد ] أهـ .

يقول اليونيني في ([4]): [ وما دهى الإسلام بداهية اعظم من هذه الداهية ولا أفضع ] أهـ .

وقد  تبارى الشعراء في وصف الفجيعة كيف لا وهم أكثر الناس تأثراً و إحساسا بالأحداث  حتى أن محمد التو نجي([5])يقول : [  فلا عجب إذا رأينا الشعراء و الأدباء يولون بغداد بعظيم عواطفهم وتقديرهم اكثر من غيرها بل كانت عاطفة الشعراء  في رثائها أعمق من عاطفتهم حين انتصر المسلمين في عين جالوت بعد سنتين ].

ومن شعرهم

ما ذكر ابن الفوطي في كتاب الحوادث الجامعة([6])حيث قال [ ولقد قال الشعراء في واقعة بغداد أشعاراً كثيرة منها ما قاله شمس الدين محمد بن عبيد الله الكوفي الواعظ

بـانـو ولـي أدمع في الخد تشتبك ...ولوعة فـي مـجـال الـصـدر تـعـترك

يا نكبةما نـجـا مـن صرفها أحد           من الورى فاستوى المـملوك و الـملك

 تمكنت بـعدعـز مـن أحبتـنا           أيدي الأعادي فـما أبـقـوا  ولا تركوا

لـو أن مـا نالهم يـفدى فـديتهم           بمهجـتي وبما أصبحت امــتـلـك

رَبْع الهداية أضحى بعد بُعدهـم               مـعطـلاً ودم الإسلام منـسـفك

أين الذين على كل الورى حكموا              أين الذين اقتنوا أيـن الأُولى ملكوا

وقفت من بعدهم في الدار أسألها               عنهم وعمّا  حووا فيها وما ملكوا

أجابني الطلل البالي وربعهم الـ              خالي : نعم هاهنا كانوا وقد هــلكوا

لا تحسبوا الدمع ماء في الخدود جرى             وإنما هي روح الصـَّب تنسكب

وقد قال تقي الدين إسماعيل بن أبي اليسر:

لسـائل الدمـع عـن بغـداد أخبار                 فما وقوفك و الأحباب قد ساروا

يا زائرين إلى الزوراء لا تغـدوا                      فما بذاك الـحمـى والدار ديار

تاج الخلافة والربع الذي شرفت                          به العالم قـد عفـاه اقـفار

أضحى يعصف البلى في ربعه أثر                      وللدموع علـى الآثـار آثـار

يا نار قلبي نار الـحرب وغى                      شبت عليه ووافى الربع إعـصار

علا الصليب على أعلى منابرها                       وقام بـالأمر مـن يحويه زنـار

وكم حـريم سبته الـترك غاصبة                     وكان من دون ذاك الستر …نار

وكم بدور على البدرية انخسفت                       ولم يعدوا لبـدور مـنه أبدار

وكم ذخائر أضحت وهي شائعت                     مـن الـنهاب وقد حازته كفار

وكم حدود أقيمت من سيوفهم                       على الرقاب وحطت فيه أوزار

ناديت والسبي هتوك تجزلهم                             إلى السفاح من الأعداء دعار

ومصاب الأمة   بسقوط بغداد  لم يكن مصابا  في مقتل  واحد بل  فجائعها  متعددة الصور والجوانب  ومنها

1 – مصاب الدين :

من أعظم  ما   قد يصاب الفرد فيه والدول والأمم هو مصابها في دينها وفي  المبدأ الذي قامت عليه  وقد هزمت بغداد  قبل هذا الحدث ولكن كانت هزائم عسكرية سياسية  فلم تتغير النواحي الدينية أما في هذه المرة فقد حكمت بغداد بحكم وحاكم  وثني   

وفي هذا يقول السبكي ([7]): [ هذه بغداد    لم تكن دار كفر قط , جرى عليها هذا  الذي لم يقع منذ قامت الدنيا مثله ,      وقتل الخليفة , وكان وقع في الدنيا أعظم منه إلا أنه أضيفت   له هوان الدين والبلاء الذي يختص بل عم سائر المسلمين … ] .

2 – مقتل الخليفة  (وما جرى له من الإهانة)  .

الخليفة كما  سبق هو رمز للأمة رمز للوحدة الدينية والسياسية , وتسلط هؤلاء البربر عليه فيه هزة لهذا المقام الرفيع في الحضارة الإسلامية  وأن كان هذا المقام قد اهتزت صورته منذ فترة  لكن أن يكون هذا على  يد  عدو خارجي  فإن هذا يمثل هزيمة لجميع المسلمين  أما السابق فكان  انتصار لبعض المسلمين على بعضهم  , ولكن هذه المرة أزيلت الخلافة واختفت كليا فلم يصبح للمسلمين خليفة

و أما عما جرى  للخليفة  على يد هؤلاء فيقول الهمذاني  ([8]) [ وبعد خراب البصرة خرج ومعه أبناؤه الثلاثة … وكان ذلك يوم الأحد الرابع من صفر سنة 656… وكان معه ثلاثة آلاف من السادات و الأئمة والقضاة والأكابر و أعيان المدينة …]  .

ويقول ابن كثير  ([9]): [ وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو   فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة  والجبروت ] .

قال السبكي  ([10])  : [ فأنزل الخليفة في خيمة ]  . قال الهمذاني  ([11]): [ وفي يوم الجمعة التاسع من     صفر دخل هولاكو خان المدينة لمشاهدة قصر الخليفة , وجلس في الميمنة , واحتفل بالأمراء . ثم أشار بإحضار الخليفة  - ذكر السبكي  ([12])  أنه قيل : طلبه ليلاً – وقال  له : إنك مضيف ونحن ضيوف فهيا أحضر ما يليق بنا , فظن الخليفة أن هذا الكلام على سبيل الحقيقة , وكان يرتعد من الخوف , وبلغ من دهشته     أنه لم يعد يعرف مكان مفاتيح الخزائن فأمر بكسر  عدة أقفال , وأحضر لهولاكو ألفي ثوب وعشرة آلاف دينار ونفائس مرصعات وعدداً من الجواهر , فلم يلتفت هولاكو خان إليها ومنحها كلها للأمراء و الحاضرين ثم قال للخليفة : إن الأموال التي تملكها على وجه الأرض ظاهرة هي ملك عبيدنا لكن أذكر  ما تملكه من الذخائر و ما هي وأين توجد فاعترف الخليفة بوجود حوض مملؤ بالذهب في ساحة القصر فحفروا الأرض حتى وجودوه كان مليئاً بالذهب الأحمر ]  .

وقد ذكر هندو شاة النخجواني ([13]): [ ثم وضع أمام المستعصم طبقاً من الذهب وقال هولاكو له :  كل فأجابه . لا يؤكل فقال : فلم لم تدفع للجند ؟ لم تأت لحربي إلى شاطئ جيحون ؟ أولم لم تـسع إلى كـسب ودي ؟ … ثـم قـال له وأين خزائـنـك الدفينة ؟ فأراه حوضاً … ]

قال الهمذاني ([14]) : [ وقصارى القول أن كل ما كان الخلفاء قد جمعوه خلال خمسة قرون وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل ] .

قال الهمذاني ([15]) : [ وبعد ذلك صدر الأمر بإحصاء نساء الخليفة فعدوا سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة فلما أطلع الخليفة على تعداد نسائه تضرع وقال : مُنَّ عليَّ بأهل حرمي اللائى لم تطلع عليهن الشمس و القمر] .

فقال هولاكو : أختر مائة من هذه النساء السبعمائة واترك الباقي فأخرج الخليفة معه مائة امرأة من أقاربه والمحببات إليه…].

ثم قال الهمذاني ([16]) : " في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر … ثم استدعى الخليفة فأدرك هذا أن أمارات النحس تبدوا على مصيره وخاف خوفاً شديداً وقال للوزير – ابن العلقمي - ما حــيـلتنا فــأجاب الـوزير : (( لحيتنا طويلة )) !!…

ويئس الخليفة من إنقاذ حياته , واستأذن في أن يذهب إلى الحمام ليجدد اغتساله فأمر هولاكو خان بأن يذهب مع خمسة من المغول ولكن الخليفة قال : [ أنا لا أن أذهب بصحبة خمسة من المغول من الزبانية ] وكان ينشد بيتين أو ثلاثة من قصيدة هذا مطلعها :

        و أصبحنا لنا دار كجنات وفردوس     وأمسينا بلا دار كأن لم تغن بالأمس

وفي مساء يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة  656 قضوا على الخليفة… ]

وقد كان هولاكو متخوفاً من قتل الخليفة وسفك دمه وسبب ذلك كما ذكره بارثولدشبولر ([17]): [  من خوف موروث مصدره خرافي من إراقة الدماء الملكية ]  وقد جاء في( طبقات الشافعية([18]) ) : [  فقيل لهولاكو : إن هذا إن أهريق دمه تظلم الدنيا ويكون سبب خراب ديارك فإنه ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخليفة الله في أرضه فقام الشيطان المبين الحكيم نصر الدين الطوسي , وقال : يقتل ولا يراق دمه …… فقيل : أن الخليفة غم في بساط , وقيل رفسوه حتى مات ولما جاءوا ليقتلوه صاح صيحة عظيمة …] .

وقال ابن كثير ([19]): [  فقتلوه رفساُ وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه . خافوا  أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم , وقيل بل خنق وقيل بل أغرق والله أعلم ] .

قال الذهبي : ([20]) [ توفي الخليفة في أواخر المحرم سنة 656 هـ وما أظنه دفن وكان الأمر أعظم من يوجد من يؤرخ موته أو يواري جسده ] .

قال ابن الفوطى([21])  : [ فقتل يوم الأربعاء رابع عشر صفر ولم يهرق دمه بل جعل في غرارة ورفس حتى مات ودفن وعفي أثر قبره ] .

3- مصير أبناء الخليفة وزوجته:

قال في ابن الفوطى([22])   : [ ثم قتل ولده أبو العباس احمد..... ثم قتل ابن الخليفة الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن ... وأما ولد الخليفة الأصغر مبارك وأخواته فاطمة و خديجة ومريم فإنهم لم يقتلوا بل أسروا]  .

قال الهمذاني ([23]): (( وفى مساء الأربعاء الرابع عشر من صفر سنه (656 ﻫ) قضوا على الخليفة وعلى ابنه الأكبر وخمسة من الخدم ..... وقد سُلِّم الابن الأصغر للخليفة إلى (( أولجى خاتون )) فأرسلته إلى مراغة ليكون مع الخواجه نصير الدين ثم زوجوه من امرأة مغولية فأنجب منها ولدين وفي يوم الجمعة سادس عشر من صفر ألحقوا الابن الثاني للخليفة بوالده وأخيه ...] .

وأما زوجة الخليفة فلما أراد هولاكو أن يواقعها احتالت عليه بحيلة جعلت إحدى جواريها تقتلها أمام هولاكو وقصتها في طبقات الشافعية للسبكي ([24]) .

  • ما جرى على العباسيين في بغداد:

قال الهمذاني ([25]): [ كذلك قضوا على كل شخص وجدوه حيا من العباسيين اللهم إلا أفراداُ قلائل لم يأبهوا بهم ].

وكذلك وصف ما حدث لهم  ابن الفوطي ([26]) [ وجاءوا إلى أعمام الخليفة و أنسابه الذين كانوا في الصخرة ودار الشجرة وكانوا يطلبون واحداً بعد واحد فيخرج بأولاده وجواريه فـيحـمـل إلى مقبرة الخلال التي تجاه المنظرة فيقتل جميعهم عن أخرهم ] . 

بل حتى الموتى لم يسـلمـوا منهـم فــقد ذكـر ابن الفوطي([27])وهو يتكلم عن الشاعر شمس الدين محمد بن عبيدالله الكوفي فقال : [ ولما شهد ترب الرصافة وقد نبشت قبور الخلفاء وأحرقت تلك الأماكن , وأبرزت العظام والرؤوس كتب على بعض الحيطان

                       إن ترد عبرة فتلك بنوالعبــ           ـاس حلت عليهم الآفات

                      استبيح الحريم إذ قتل الأحيـ          ـاء منهم وحرق الأموات

وقد قال ابن كثير ([28]): [ وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب بهم إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه]. 

5 – ماجرى على كبراء بغداد :

قال الهمذاني ([29]): [ وكان معه – لما خرج الخليفة إلى هولاكو –  ثـلاثة آلاف من الــسادات والأئــمة والقضاة والأكابر وأعيان المدينة ].

قال ابن الفوطي ([30]):[ فخرج الخليفة و الوزير... ومعه جمع كثير فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه ]

 قال اليونيني([31]): [ فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتار ومصالحته وسأله أن يخرج إليه - الوزير  -  في تقرير ذلك فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع الى الخليفة وقال  له انه قد   رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير أبى بكر ويبقيك في منصب الخلافة ...... فتجيبه إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين .... فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمه ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء و الأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة ). وقد ذكر هذا السبكي في الطبقات ([32])  ونحوه في البداية و النهاية ([33]) .

وعد ابن الفوطي ([34]) أكثر من 15 رجلاً من رجال الدولة قتلهم المغول. وقال ابن كثير ([35]):[ وقتل الخطباء و الأئمة وحملة القرآن ] .

ومن القصص التي ذكرها المؤرخون في قتل العلماء  قتل جمال الدين أبو زكريا الصرصري الحنبلي قال ابن كثير([36]): [ ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هولاكو فأبى أن يجيب إليه , وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم ثم قتلوه شهيداً رحمه الله تعالى] .

6- ما جرى لعامة أهل بغداد :

لم يسلم العامة من قتل هؤلاء بطرق بشعة وأحداث دامية  ؛ فعندما  وصل الخليفة إلى هولاكو قال له ([37]) :[ مر حتى يضع سكان المدينة أسلحتهم ويخرجوا لكي نحصيهم فأرسل الخليفة من ينادى في المدينة ليضع الناس أسلحتهم ويخرجوا . فـألـقـى النـاس أسـلـحـتـهـم زمرا وصاروا يخرجون فكان المغول يقـتـلـونـهـم ].

وفي نفس الكتاب ([38]) ذكر أن المغول أعطوا سليمان شاه و الداودار أماناً ليخرجا بجندهم فلما خرجوا قسموهم ألوفا ومئات وعشرات وقتلوهم جميعاً وكان هذا قبل خروج الخليفة .

وقال ابن الفوطي واصفاً ما حدث لعامة الناس فقال([39]) :  [ ووضع السيف في أهل بغداد يوم الاثنين خامس صفر وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب واستخراج الأموال منهم بأليم العقاب مدة أربعين يوماً فقتلوا الرجال و النساء و الصبيان والأطفال , فلم يبق من أهل البلد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل .... وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد وكانت القتلى في الدروب و الأسواق كالتلول ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول , فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى ثم نودي بالأمان فخرج من تخـلف وتغيرت ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان . وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد … قيل أن عدة القتلى ببغداد زادت على ثمان مئة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القنى و الآبار وسراديب الموتى جوعاً و خوفاً , ووقع الوباء فيمن تخلف بعد القتل من شم روائح القتلى وشرب الماء الممتزج بالجيف , وكان الناس يكثرون من شم البصل لقوة الـجيفة وكـثرة الذبــاب فــإنه ملأ الـفضاء وكان يسقط على المطعومات فيفسدها ] .   

وقال السبكي ([40]): "و قيل إن هولاكو أمر بعد ذلك بعدّ القتلى فكانوا ألف ألف وثمانمائة ألف النصف من ذلك تسعمائة ألف غير من لم يعد و من غرق ثم نودي بعد ذلك بالأمان فخرج من كان مختبئ وقد مات الكثير منهم تحت الأرض بأنواع من البلايا والذين خرجوا ذاقوا أنواع الهوان والذل ثم حفرت الدور وأخذت الدفائن والأموال التي لا تعد ولا تحصى وكانوا يدخلون الدار فيجدون الخبيئة فيها وصاحب الدار يحلف أن له السنين العديدة فيها ما علم أن بها خبيئة، ثم طلبت النصارى أن يقع الجهر بشرب الخمر و أكل لحم الخنزير و أن يفعل معهم السلمون ذلك في شهر رمضان، فألزم المسلمون بالفطر في رمضان و أكل الخنزير و شرب الخمر،..........

و أعطى دار الخليفة لشخص من النصارى و أريقت الخمور في المساجد و الجوامع و منع المسلمون من الإعلان بالأذان فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذه بغداد لم تكن دار كفر قط و جرى عليها هذا الذي لم يقع قط من منذ قامت الدنيا مثله " .

وقال ابن كثير ([41]) : "ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان .

ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقني الوسخ وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ، ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم في الأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا إليه راجعون وكذلك في المساجد والجوامع والربط ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة وقلة ...........

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين فقيل : ثمانمائة ألف وقيل : ألف ألف وثمانمائة ألف وقيل : بلغت القتلى ألفي ألف نفس فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم ، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين صباحا............... وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد......... ولما انقضى أمد الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون .

ولما نودى ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا ، فلا يعرف الوالد ولده ، ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا ولحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا في البلى تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى  "  .

7 – إتلاف الكتب :

ومن فجائع هذا الغزو  الدمار في الجانب الثقافي والحضاري وهو المتعلق بإتلاف الكتب. في أعظم مكتبات العالم. في بغداد فكم خسرت الإنسانية من علوم ومعارف حتى أن  علي الطباطبائي قال([42])  : [ وأما ما حل بخزائن العلم من المكاتب والمدارس في بغداد فحدث و لا حرج . فقد كانت بغداد مركز من أعظم مراكز الإشعاع الفكري في العالم … وقد حرق التتار كل ما وجدوا في  بغداد من علم  ومن مراكز للعلم كما قتلوا كل من عثروا عليه من العلماء أو كل من كان في بغداد من العلماء …يقول قطب الدين الحنفي : تراكمت الكتب التي ألقاها التتار في نهر دجلة حتى صارت معبراً يعبر عليه الناس والدواب واسودت مياه دجلة بما ألقي فيها من الكتب ] .

*  وختاما لهذه الصور الفظيعة   أقول الأمر كما([43]) قال أبو شامة المقدسي رحمه الله : [ وجاء كتاب من بعض من سلم منهم ببغداد يقول : والأمر أعظم مما بلغكم من الأخبار اللهم عافنا وبلادنا من كل سوء ]   .

 

([1])  الطبقات الكبرى :  8/261  .

([2])  الطبقات الكبرى :  8/269  .

([3])  البداية و النهاية 13/214   .

([4])  ذيل مرآة الزمان 1/85     .

([5])  بلاد الشام إبان الغزو المغولي ص112  .

([6])   ص363   .

([7])   في الطبقات (8/272)    .

([8])   جمع التواريخ ص 290  وهو من رجال المغول   .

([9])   البداية والنهاية : 13/214  .

([10])  الطبقات 8/270   .

([11])  جامع التواريخ  ص 291 .

([12])   الطبقات 8/271   .

([13])   في كتاب " تجارب السلف ص  357" نقلاُ عن بلاد الشام إبان الغزو المغولي لمحمد التونجي   (109)  .

([14])  جامع التواريخ  ص 292  .

([15])   جامع التواريخ  ص 292  .

([16])    جامع التواريخ  ص 293  .

([17])   في (كتاب  العالم الإسلامي ص 47 ) عن التونجي (ص111)  .

([18])    8/217 .

([19])    البداية والنهاية 19/214  .

([20])    .

([21])  الحوادث الجامعة 357   .

([22])  الحوادث الجامعة 357   .

([23])   جامع التواريخ ص294 .

([24])  8/272  .

([25]) جامع التواريخ ص  294 .

([26]) الحوادث الجامعة ص 359   .

([27]) الحوادث الجامعة 364 .

([28]) البداية والنهاية 13/216 .

([29])   جامع التواريخ 290 .

([30])   الحوادث الجامعة 357 .

([31])   ذيل مرآة الزمان 1/88  .

([32])  8/270  .

([33]) 13/214  .

([34])   الحوادث الجامعة  ص358

([35])   البداية والنهاية : 13/216  .

([36])  البداية والنهاية : 13/224 .

([37])  جامع التواريخ ص291 .

([38])  انظر: جامع التواريخ ص 289.

([39])  الحوادث الجامعة ص359  .

([40])   الطبقات الكبرى :  8/ 271 .

([41])   البداية والنهاية: 13/215

 

([42])   رياض المسائل : 2/7 .

([43])   الذيل على الروضتين ص 199.

  • الاحد PM 12:35
    2021-05-23
  • 1605
Powered by: GateGold