المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417499
يتصفح الموقع حاليا : 205

البحث

البحث

عرض المادة

حقيقة مخالفة الصحابة للرسول

ذكرنا فيما مضى بعض القواعد للحكم على الصحابة منها:

  1. تقويمهم من خلال مجموع ما عملوا وقدموا لا من خلال موقف واحد أو تصرف واحد . وكان هذا منهج رسول الله r في تعامله معهم ، ففي فتح مكة مثلا ، وقع حاطب بن ابي بلتعة في خطإ كبير يعد في ميزان السياسة من الخيانة الكبرى حين كشف سر المسلمين وبعث الى اهل مكة من يخبرهم بأن الرسول r قادم لفتح مكة وحين كُشف أمره استعظم الصحابة هذا الفعل وطلبوا ايقاع العقوبة الشديدة عليه ، ولكن الرسولr قال : وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع الى اصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.[1]
  2. ومن خلال مجموع ماورد في حقهم من آيات وأحاديث لا من خلال نص واحد او نصين .
  3. رد النصوص المتشابهة الى النصوص المحكمة.
  4. تحكيم المتأخر في المتقدم في النزول .

ولكن الشيعة يعملون عكس ذلك تماما فانهم يعمدون الى إغفال جميع ماورد في حق الصحابة من آيات قرآنية واحاديث نبوية محكمة وصريحة ويعرضون عنها صفحا ويتشبثون بالآيات والاحاديث المتشابهة والتي توحي ظاهرها بالذم او فيها عتاب على بعض مواقفهم ويبنون عليها احكامهم ثم يرصدون المواقف التي وقف فيها الصحابة موقف المستفسر من اوامر الرسولr او التى تباطئوا فيها في تنفيذ اوامره ليدعموا بها مواقفهم السلبية من الصحابة وعقيدتهم فيهم دون محاولة دراسة حيثيات تلك الامور او دراسة دوافع الصحابة فيما كانوا يفعلونه . ان الشيعة لايريدون ان يفهموا او يدركوا دوافع الصحابة فيما كانوا يفعلونه وذلك لنظرتهم السوداوية عنهم وموقفهم المعادي لهم حيث لا يدعهم ذلك ان يفكروا بتجرد وانصاف وعقلانية ، وهذا هو حال كل من يتعامل مع الامور بمقررات مسبقة،  فهذه المقررات لا تدعه يضع الامور في ميزان العقل المتجرد عن الهوى ويحللها تحليلا عقليا ومنطقيا بحياد وانصاف! .

ان الشيعة، كما قلنا من قبل، لم يبنوا موقفهم من الصحابة من مجموع الآيات والاحاديث التي تتحدث عنهم ، ولا من مجموع ما قدموه للاسلام من تضحيات ولا من خلال ما بذلوه من الجهود في سبيل اعلاء كلمة الله ونشر دينه ، وانما بنوا موقفهم منهم على شيء واحد فقط : هو موقفهم من علي ومن خلافة علي!  فالشيعة حين رأوا عليا احق الناس بالخلافة ورأوا الصحابة قد عدلوا عنه الى غيره اتهموهم بالخيانة والظلم والكفر والردة الخ من الاتهامات . ان عدم تولي علي للخلافة فور وفاة الرسول r  هو المعيار الوحيد لتقويم الصحابة ، فما دام الصحابة لم يختاروا عليا للخلافة واختاروا غيره إذاً فهم متهمون وظالمون وفاسقون ومرتدون.. !.

اما اهل السنة فانهم يبنون مواقفهم منهم من مجموع ما نزل بشأنهم من آيات وورد في حقهم من أحاديث ، ومن مجموع ما قدموه للاسلام من تضحيات وما بذلوه في سبيل حفظ مبادئه ونشر تعاليمه ، وهم بعد ذلك بشر يخطئون ويصيبون . وانهم يعتقدون ان الرسولr قد سُرَّ بهم وقرت عينه بهم وذهب الى ربه قرير العين طيب الخاطر راضيا عن اصحابه فرحا بما حققه للاسلام وبما انجزه من منجزات مفاخرا الانبـياء باصحابه وبمنجزاته حيث انجز ما لم ينجزه غيره وخلف من لم يخلفه غيره من الرجال المؤمنين الصادقين الحاملين لراية التوحيد الى العالمين ، الجامعين لكتاب ربهم والحافظين لسنة نبـيهم والامناء على ما تركه في ايديهم . هذه هي القاعدة التي ينطلق منها اهل السنة لتقويم الصحابة وتفسير مواقفهم وتصرفاتهم ، واستصحاب حسن الظن بهم في كل ما فعلوه وتفسيرها بما يتلائم وحقيقة ايمانهم وصدق بلائهم لا سيما المواقف التي توحي ظاهرها بالمخالفة او التباطؤ او العصيان.

 يجب الاخذ بنظر الاعتبار دوافع الصحابة في عدم امتثال اوامر الرسول r ، فإذا لم يكن الدافع هو المعصية أو الرفض وانما الاخلاص للرسول والاعتزاز بالاسلام لم يتوجب الذم بل ربما كان ذلك سببا للمدح والثواب ، ولنضرب بعض الامثلة من واقع الحياة لنقرب الى ذهن القاريء طبيعة مخالفات الصحابة لاوامر الرسول:

  1. لو ان مسؤولا قال لحراسه اذهبوا وناموا ولا تحرسوني هذه الليلة، ثم جاء ووجدهم قد عصوه وخالفوا امره ووقفوا على بابه يحرسونه حتى الصباح ، هل هذا سيغضبه ويدفعه الى معاقبتهم ام انه سيُسَر بهم ويكافؤهم على صنيعهم ذلك ولو كان في ظاهره مخالفة لامره؟. لا شك انه سيُسر بهم وقد يكافؤهم عليه لان ما فعلوه نابع من حبهم له وحرصهم على حياته .
  2. ولو ان مسؤولا زار بعض اعوانه وطلب منهم ان لا يتكلفوا في صنع الطعام ويقدموا له ما يصنعونه لانفسهم ثم وجدهم قد خالفوا امره وذبحوا له الذبائح وعملوا على شرفه وليمة كبيرة ، فهل يا ترى يضيق صدرا بذلك ويغضب عليهم ويعاقبهم ام انه سينبسط به ويزداد حبه لهم؟ . لاشك انه سينبسط بذلك ويزداد اعتداده بهم وقد يكافؤهم على صنيعهم لانه نابع من حبهم له واكرامهم وتقديرهم وتعظيمهم إيّاه.
  3. ولو أن قائدا أراد ان يبرم صلحا مع اعدائه لقوة عدوه وكثرة جنوده ثم رآى جنده يخالفونه في الرأي ويحرصون على مواجهة العدو ولا يرضون باعطاء التنازلات  ، فهل يا ترى سيغضب هذا القائد على جنده أو انه سيُسر بهم وينشرح صدره بهم وان خالفوه في الرأي وأصروا على مواجهة العدو؟ لا شك انه سيُسر بهم وينشرح صدره بهم وتزداد محبته لهم وثقته وافتخاره بهم لما يراه فيهم من الحماسة والاستعداد للتضحية وعدم التنازل للعدو، ولكنه مع ذلك قد يخالفهم ويبرم المصالحة لمصلحة يراها هو.
  4. ولو ان رجلا او قائدا مرض مرضا شديدا ومنع اهله او اتباعه الناس من زيارته حرصا على سلامته وابعدوا عنه كل ما يضر بصحته ، فهل يا ترى يغضب عليهم ام  يشكرهم على صنيعهم ذلك؟ لا شك انه سوف لن يعاتبهم ولن يوبخهم بل يشكرهم عليه لانه نابع عن حبهم له وحرصهم على راحته وسلامته.

   كل مواقف الصحابة التي توحي ظاهرها بمخالفة الرسول كانت من هذا القبيل ، لذا لم يغضب الرسول عليهم ولم يعاتبهم الله عليها. ففي صلح الحديبية مثلا اعترض الصحابة على ابرام ذلك الصلح ورفضوا الامتثال لاوامر النبـي r في اول الامر فلم يحلقوا رؤوسهم ولم ينحروا هديهم ولكن عندما رأوا الرسول r قد حلق راسه ونحر هديه علموا ان الامر جد ولا يجوز لهم الاستمرار في الاعتراض اكثر من ذلك، فحلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم وقد بلغ الغيظ بهم حدا جعلهم يحلقون بعضهم بعنف شديد يكاد احدهم يقطع رأس صاحبه ، ومع ذلك لا الرسول ذمهم ولا القرآن عاتبهم بل على العكس من ذلك فقد نزل القرآن في أعقاب صلح الحديبية يمتدحهم ويثني عليهم حيث نزلت آية: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريبا" الفتح/18 وكذلك قال في حقهم : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة.." الفتح/29.

 كان يرتقب ان يعاتبهم الله على موقفهم ذلك ويعنفهم ولكننا نرى العكس تماما فقد مدحهم الله في موقعين من السورة التي نزلت مباشرة بعد صلح الحديبية . لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى قدّر دوافعهم ونواياهم وعلم انهم لم يفعلوا ذلك رغبة في مخالفة الرسول وانما فعلوه لأنهم ظنوا ان ذلك تنازل لقريش وكانوا يعتقدون انهم اقوى منهم واكرم وليس لهم حاجة الى اعطاء التنازلات وانهم بما حباهم الله بالاسلام وكرمهم  بالايمان اصبحوا اعز من ان يتنازلوا للمشركين [2]. وهذا الشعور يحمدون عليه ، وهذا ما كان الرسول يريد ان يزرعه في نفوسهم : الاعتزاز بالايمان والاستهانة بالدنيا وبالاعداء .

    ان مخالفة الصحابة للرسول r لم تجعله يضيق بها صدرا بل كانت مدعاة لسروره لانه من آثار التربية الايمانية في نفوس اتباعه ، ولذلك مدحهم الله بدلا من ان يذمهم[3]. ولكننا نرى الشيعة حين يتناولون هذا الموضوع يركزون على الصورة التي تبدي المخالفة فيلومون الصحابة ويقدحون فيهم دون ان ينظروا الى ما قاله القرآن فيهم وكيف عقب على تلك الحادثة . هذا مثال على ان الشيعة لا يبنون مواقفهم من الصحابة على القرآن وانما على مقررات مسبقة عندهم وهي كره الصحابة .

أما تأخر جيش اسامة في مغادرة المدينة  فهو كذلك من المواقف التي يُحمدون عليها ولذلك لم يذمهم الرسول  لأنه كان يعلم انهم لا يفعلون ذلك رغبة في معصيته وانما يفعلونه حبا له وحرصا عليه وخوفا من ان يغادروا المدينة ورسول الله يحتضر فلا يتاح لهم رؤيته بعد ذلك . فحبهم لرسول الله r هو الذي منعهم من الاسراع الى مغادرة المدينة. واذا قلت اذا كان قولك هذا صحيحا لماذا تركوا جثمان الرسول r وراحوا يبحثون عمن يخلفه ؟ نقول : ان ذلك لم يكن من قبل جميع الصحابة كما مر بنا وانما كان من قبل بعض الانصار وبتحريك بعض رؤسائهم او المتخوفين منهم من هيمنة قريش ولم يكن يعكس الجو العام لاهل المدينة لان المدينة  كانت يوم توفي الرسولr اصبح الناس كما يروي بعض الصحابة كالشاة التي فقدت راعيها في اليوم شديد المطر وان الناس ظلوا مشدوهين لا يدرون ماذا يفعلون من شدة وقع وفاة الرسول r عليهم. وان اغفال هذا الجانب، اي تأثر الناس بموت الرسول r وابراز الجانب الاخر، اي اجتماع الانصار في السقيفة ، تشويه متعمد للصورة واظهارها على غير حقيقتها . وهذا لايفعله الا من يريد الوصول الى هدف معين حدده من قبل وهو تشويه صورة الصحابة  رضوان الله تعالى عليهم .

هناك مسألة اخرى في علاقة الصحابة بالنبـي وهي تمييزهم بين ارادة الله و رغبات الرسول وقد أجاد الدكتور موسى الموسوي في تصويرها فلا بأس بنقلها هنا كاملة:

الفصل بين الأوامر الإلهية ورغبات النبـي الشخصية:

      إن فصل هذين الجانبـين في الشخصية المحمدية صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  يساهم مساهمة كبيرة في إعطاء صورة واضحة عن الجانب الإلهي والشخصي في رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وإذا علمنا أن النبـي الكريم كان يحاول جاهداً التفريق بين الجانب الإلهي في أقواله وما يصدر عنه من أقوال وأعمال لا صلة لها بالسماء لعرفنا عظمة النبـي وعظمة نفسه الكريمة، فالقرآن الكريم عندما يتحدث عن النبـي  صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  بهذه الآيات البينات "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى" النجم الآيات 3- 5 ، لا شك أنه يقصد بذلك أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  عندما يقرأ القرآن ويبلغ المسلمين بالآيات الإلهية وبالأحكام المنزلة عليهم إنما ينطق بالوحي وبكلام الله المنزل على قلبه وهذا هو شرط الإيمان بالإسلام ، وبرسالة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وبالقرآن المنزل عليه، ولكن القرآن الكريم حتى يبين الفرق الأساسي بين ما هو رغبة من رغبات النبـي الخاصة وما هو أمر إلهي قد حسم الموقف بصورة واضحة وصريحة في آيات العتاب وفي آيات النهي عن أمور كان النبـي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  يرغب الإتيان بها ولنقرأ معاً هذه الآيات :

" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ....." 67 المائدة.

" واذكر ربك إذا نسيت"24 الكهف

 " سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى...."6-7 الأعلى

  "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر .......?176 آل عمران

 " ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ....?8" الحجر

 " وما كان لنبـي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ....."67 الأنفال

 " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ...."43 التوبة

 " وما كان للنبـي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم نهم أصحاب الجحيم ...."113 التوبة

 " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ...." .3 الأحزاب

 " يا أيها النبـي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم?"1 التحريم

 " عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة..."1-11 عبس

 " قل غنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد .....?11" الكهف

 " إنك ميت وإنهم ميتون ....."30 الزمر.

إن من يتدبر في هذه الآيات البينات سيعلم علم اليقين أن القرآن الكريم يؤكد تأكيداً قاطعاً على أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  لم يكن ملَكاً ولا عنصراً سماوياً ولا موجوداً خارج نطاق هذا الكون وطبائعه إنما هم بشر مثل سائر البشر، كان يأكل وينام ويصح ويمرض ويحب ويكره ويتزوج وينجب الأطفال حسب الناموس الطبيعي للكون فيسري عليه من التفاعل الطبيعي كل ما هو يسري على سائر أفراد البشر، ومن الواضح جداً أن التأكيد على هذا الجانب في رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  إنما كان ليثبت للناس أن كل ما يصدر من النبـي لا يعني أنه وحي أو كلام إلهي أو أمر سماوي، أما الناحية الإلهية في وجود النبـي وهي الاتصال بالمبدأ الأعلى فكان يؤكدها شخص النبـي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  عندما كان ينزل عليه الوحي ويطلب من كتبة الوحي أن يدونوا قول الله تعالى، ويبدوا واضحاً للمتتبع لأخلاق الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  كما قلنا قبل قليل إنه كان يسعى جاهداً لتأكيد الفصل بين الجانب السماوي والأرضي في شخصه وهذه كانت من أكبر السمات الدالة على قوة النبـي النفسية وصدقه في الرسالة وإخلاصه لربه وعظمة شخصيته وهي خصال لا تضاهيها خصال أي رسول من رسل السماء وأي عظيم من عظماء الأرض، فهذا الدور البارز العظيم الذي كان يؤديه ليظهر بالمظهر الذي خصه به ربه وبالصفات التي وصفه بها إلهه ( فهو بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) ولكنه بشير ونذير أرسله الله للعالمين، فعندما كانت تنزل عليه آيات الثناء كان يقرؤها من موقع العبد المطيع فلم ير النبـي في نفسه انتقاصاً عندما تلا على المسلمين آيات العتاب التي نزلت عليه كما لم يظهر عليه الخيلاء والتكبر عندما تلا آيات الثناء التي أنزلها الله على قلبه، وهكذا كانت آيات العتاب والتحذير تعطي للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  قوة لا تقل عن قوة آيات المدح والثناء ، فلا غرو انه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  تلقى من ربه كلمات لم تنزل قط على من سبقوه من أولي العزم من الرسل" وإنك لعلى خلق عظيم "4 القلم، ولم يقتصر دور الرسول البارز في فصل موقعه السماوي من البشري إلى هذا الحد فحسب بل تجاوزه إلى أبعد ما يمكن للمرء أن يتصوره فعندما هابه رجل من الأعراب التقى به قال له " هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد " ، وهذه العظمة الروحية في نكران الذات تتجاوز آفاق الأرض والسماء وتتجلى في أعظم مظاهرها عندما كسفت الشمس في يوم وفاة ابنه  إبراهيم  فقال الناس:( انكسفت الشمس لوفاة ابن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ! وسمع الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  ما قاله القوم فصعد المنبر وخاطب المسلمين بقوله:" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد وإنما ما ت إبراهيم بقضاء وقدر من الله"، وهكذا كان النبـي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  يدفع عن نفسه مظاهر القدسية وهالاتها ليثبت عبوديته لله ، وإنه بشر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرراً" قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ...."49 يونس،  ويزيد النبـي في العبودية والعبادة حتى أنزل الله عليه قوله:" طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ...."1-2 طه.

الحرية الفكرية والاجتماعية في عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم :

       لكن الوجه الآخر المكمل لهذه السيرة النبوية يتجلى في شيء آخر هو الحرية الفكرية والاجتماعية التي منحها الرسول الكريم لأصحابه وللمسلمين، حقاً إن المرء ليطأطئ رأسه خضوعاً وخشوعاً لعظمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  عندما يتابع عصر الرسالة وما فيها من الحريات الفكرية والاجتماعية التي منحها الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  لأصحابه وللمسلمين وهذا هو الجانب المكمل للطريقة التي كان يتبعها الرسول الكريم للفصل بين شخصيته " كرسول الله " و " كمحمد بن عبد الله " ولو أن المتتبعين والمحققين للتاريخ درسوا هذه الناحية في عصر الرسالة وهذا الجانب من سياسة النبـي الاجتماعية لسهل عليهم فهم كثير من الغوامض التاريخية المتعلقة بعصر الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  وبعد وفاته،  ولحلت كثيراً من الخلافات الفكرية والمذهبية بين المسلمين التي انتهت إلى إراقة الدماء تارة وإلى الشتم والتنابز بالألقاب تارة أخرى.

لقد منح الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  صحابته والمسلمين من الحرية الفكرية والاجتماعية والمساواة منذ إبان دعوته وعند انتشارها وحتى آخر يوم من حياته ما لم نجده في أي عصر آخر ولدى أية أمة أخرى ولم نجده حتى في عصرنا هذا لدى أرقى الأمم ديمقراطية وحرية، ولا اعتقد أنه يوجد في تاريخ الديمقراطية والمساواة قديماً وحديثاً أن سيد قوم ومؤسس أمة وقائد فكر يجلس مع صحابته في صورة دائرية لكي لا يكون لمجلسه الصدر والذيل ويكون كل فرد في ذلك المجلس مساوياً مع رسول الله  صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  في جلسته حتى أن الأعرابي عندما كان يدخل إلى مجلس الرسول فلا يميزه بين الصحابة كان يسأل: من هو محمد؟ فكان الصحابة يشيرون إليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . ويكفي لذلك العصر فخراً وجلالاً أن بروتوكولات الديمقراطية في عصر الفضاء قلدت فكرة المائدة المستديرة لاجتماع الملوك والرؤساء من مجلس الرسول العربي، والنبـي إذا صافح رجلاً كان يمسك بيد الرجل حتى يرسلها صاحبها احتراماً منه لذلك الرجل، وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  كما وصفه  علي بن أبي طالب : " يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويردف خلفه" ، ولعل هذه الديموقراطية والحرية تجلت في أكبر صورها عندما كان الكثير من الناس يستغلونها ويخرجون عن حدود الأدب وطوره بالنسبة للقائد الإلهي، وكان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  يحتمل ذلك بصبر وأناة وابتسامة حتى أنْ نزل أمر الله على المسلمين معاتباً إياهم في ذلك، ولكن حتى الآيات الإلهية لم تنه نهياً قاطعاً من كيفية تعامل الناس مع الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  بل ألقى الملامة عليهم ووصفهم بالجهل أو وضعت ضريبة غير ملزمة لأولئك الذين يخرجون عن الاحترام اللائق بالنسبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  ولكن الله لم يحرم شيئاً من ذلك ولنقرأ معاً هذه الآيات البينات" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبـي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم " - 5 الحجرات، " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم "12 المجادلة، وأعتقد أن من الضرورة بمكان أن أثبت في هذا الفصل حادثة أخرى وقعت في حياة النبـي الكريم وكانت لهلا صلة مباشرة بزوجته السيدة  عائشة  أم المؤمنين ألا وهي قصة الإفك.

إن المتتبع لقصة الإفك يتضح أمامه صورة كاملة للحرية التامة التي كان المسلمون يتمتعون بها في الفكر والتعبير والكلام ، فكل من يقرأ تاريخ تلك الحقبة يعلم علم اليقين أن إشاعة الإفك عندما انتشرت في المدينة وأصبحت حديث الناس في مجالسهم ونواديهم ، وكانت تلك الأخبار المحزنة تصل إلى سمع رسول الله فلم يصدر منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  ما يوحي بالغضب على صحابته أو أهل المدينة ، ولا شك أن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  كان يعلم زيف التهمة الموجهة إلى أم المؤمنين ،وهي أعز أزواجه بعد السيدة  خديجة الكبرى  ، وابنة صاحبه في الغار ومن أقرب الصحابة إليه ، ولكنه أراد أن لا يستعمل صلاحية القائد أو يحد من صلاحية الأمة في التعبير عن الكلام، فالتاريخ لا يشير قط إلى أن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  طلب من أصحابه أن يكفوا عن حديث الإفك أو أنه اعترض عليهم في القول أو صدر منه ما يشعر المسلمين بأنه غاضب عليهم لما يقال في همس أو علن في أم المؤمنين ، أو أنه أجرى تحقيقاً مع المشتبه بأمرهم في إشاعة الإفك وكان للنبـي في المدينة أعداء ألدّاء تتجسد في الجالية اليهودية ومن المنافقين والمتربصين به وبكل ما يحيط به فلم يتخذ النبـي وجود الأعداء بين ظهور المسلمين ذريعة ليطلب من أهل المدينة الكف عن حديث الإفك حتى يهونوا عليه ولا يثخنوا في الجراح بل بالعكس من كل هذا عالج الإفك بالصبر حتى أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  شاور  علي بن أبي طالب  و  زيد بن حارثة  وبعض الصحابة في الطريقة التي ينبغي عليه أن يعالج ذلك الأمر ولكن ليس مع الأفاكين بل مع أم المؤمنين.

ومع أن الوطأة كانت شديدة على السيدة  عائشة  وعلى أبيها وأسرتها فهزلت ومرضت ولزمت الفراش، ولكن هذا اللغط الاجتماعي الغريب يعصر قلبها كلما تصورت ما يقول عنها الآفكون إلاّ أن كل ذلك لم يغير من سياسة النبـي العظيم في الحد من إطلاق الحريات الاجتماعية أو حمل الناس على السكوت وعدم الخوض في ما يدور في مجالس المدينة ونواديها، وهنا ظهرت المشيئة الإلهية وإرادته البالغة فوضعت حداً سماوياً للأحاديث الجارحة والاتهامات الباطلة التي ينسبها البعض إلى البعض بلا دليل أو شاهد أو بينة فأنزل الله على قلب رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم :" إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ?1" النور، وهكذا بَرَّأَ الرحمن ساحة السيدة  عائشة  ووضع سبحانه وتعالى حداً للحريات الكلامية الجارحة التي فيها إساءة للناس وحط من كرامتهم.

وهنا نريد أن نستنتج شيئاً أهم من هذه الحادثة وهو أن المجتمع الذي يصل فيه التعبير عن الرأي وحرية الكلام سواء أكان ذلك صحيحاً أو سقيماً إلى هذه المرحلة بحيث لا يرعى فيه حرمة رسول الله  صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  الذي أنقذهم من الضلال والهلاك وهداهم إلى خير الدنيا والآخرة وخير البركات حتى أن نزلت آيات التأديب بحق الناس في ذلك المجتمع، هل يمكن للنبـي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  أن يحمل مجتمعاً مثل هذا على أمر وهو مكره عليه إلاّ إذا كان ذلك الأمر من الله وبنص من كتابه فحينئذ كانت الحريات الفكرية والاجتماعية كلها تتبخر أمام الأوامر الإلهية ويصبح الفرد والمجتمع أمام أوامر الله ونواهيه عباداً مطيعين منقادين لا يسعهم إلا الامتثال لأمره والعزوف عن نواهيه.

لقد كان باستطاعة الرسول الكريم أن يخلق مجتمعاً من المسلمين يطيع إرادته الشخصية لا يحيد عنها إذا أمرهم بها، ولكن مثل هذا الأمر كان مناقضاً للرسالة التي جاء لأجلها ألا وهي إلغاء كل العبوديات والتقاليد المتعلقة بها ما عدا عبادة الله الواحد الأحد، وكما نعلم فإن الإسلام قد جاء ومحمداً قد بعث للقضاء على كل الرواسب والأفكار الجاهلية التي كانت أهم مظاهرها عبادة الفرد للفرد وإطاعة الفرد للفرد، وهكذا أخرج الإسلام الناس من ظلمات العبودية الفكرية والجسدية إلى حيث النور والحرية، ولذلك كان المجتمع الإسلامي الفتيّ يرى في الدين الجديد كل مقومات الحياة وكرامة الفرد والإنسان، إنها الرسالة السماوية التي جعلت من ذلك المجتمع الطبقي المؤلف من السادة والعبيد مجتمعاً موحداً يتألف من أناس كلهم سواسية أمام الله ( لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ) ،" إن أكرمكم عند الله أتقاكم " 13 الحجرات، وكان من نتائج الخروج من عبودية الأصنام والآلهة المتفرقة والتخلص من سادة قريش والدخول في عبادة الله الواحد الأحد تلك الحرية التي أنعمها الله على المسلمين والتي بفضلها بدأ المجتمع الإسلامي الجديد ينعم بحرية الرأي والتعبير والفكر ما دام لم يكن في تلك الحرية غضب الله وسخطه، وعندما أراد المجتمع الإسلامي ذلك أن يتجاوز القيود المفروضة عليه في التعبير عن الرأي لم يمنعهم الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  من ذلك حتى لا يعيد إلى أذهانهم دور الإطاعة لسادة القوم وكبرائه ، بل انتظر في ذلك أمر السماء ونزول الوحي ، وجاء الأمر الإلهي يقيد المسلمين بالالتزام بالأخلاق الفاضلة وبعدم إشاعة الفحشاء في الذين آمنوا" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة " 1 النور، كما أمرهم بالالتزام بحرمة المسلمين وعدم الإساءة إليهم بالكلام الجارح والسب المقذع:   "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراًَ منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون* يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم "1-12 الحجرات، وهكذا تظهر عظمة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  بكل قداستها وجلالها حيث لا يريد لأمته ومجتمعه إلا ما يريده الله لهم.

      وهنا أعود لموضوع الخلافة وأقول: إذا كان النبـي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  لم يدافع عن زوجته في أخطر اتهام وجهته إليها عصبة جاءت بالإفك وهو يعلم أنها بريئة منه كل البراءة حتى لا يعيد الناس إلى دور الجاهلية وإطاعة السادة والكبراء بدون ضابط ومبرر فلم يكن في ذلك أمر إلهي، وإذا كان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  يرغب رغبة شخصية أن يكون  عليّ  خليفة من بعده كما تدل على ذلك الأحاديث التي رواها الفريقان بأسانيدهما الصحيحة[4] لكنه لم يرغم أمته على قبول ذلك الخليفة بنفس الطريقة التي لم يرغم الناس فيها على أن يكفوا عن حديث الإفك في أعز أزواجه ولم يرغمهم في الكف عن معاملته بصورة لا تليق برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  عندما كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته أو يتناجون بين يديه حتى أن نزلت الآيات الكريمات التي أمرت الناس بالتأدب والاحترام للنبـي الذي أطلق للناس حرية استغلها البعض استغلالاً غير حسن وكريم.

      ومرة أخرى نلقي نظرة فاحصة على عهد الرسول الكريم والحرية التي كان المجتمع الإسلامي الفتي ينعم بها إلى درجة تجاوزت الحدود ووصلت إلى مرحلة خطيرة أغضبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  لأنها كانت خروجاً على التقاليد المرعية والمتبعة في إطاعة القائد الأعلى أثناء القتال فقد أجمع أرباب السِّيَر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  لما مَرِضَ مَرَضَ الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال له: " سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش وإن أظفرك الله بالعدو فأقلل اللبث وبث العيون وقدم الطلائع ......"  فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا كان في ذلك الجيش منهم  أبو بكر  و  عمر  فتكلم قوم وقالوا: "يستعمل هذا الغلام على جلة من المهاجرين والأنصار" [5]  فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  لما سمع ذلك وخرج عاصباً رأسه فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال:" يا أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة لئن طعنتم في تأمير أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبل وايم الله إنه كان خليقاً بالإمارة وابنه من بعده لخليق بها وإنهما لمن أحب الناس إليَّ فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم ".

      وهكذا نرى بوضوح أن قلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  كان أكبر من أن يأمر بمعاقبة قوم طعنوا في القيادة التي اختارها لجيشه وتجاوزوا على صلاحيات القائد الأعلى الذي هو في الوقت نفسه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم  ومؤسس أمة وباني مجد وقائد عسكري عظيم حيث يصفه الإمام  علي  بقوله:" كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن منا أقرب للعدو منه "، مثل هذا الرسول العظيم وأمام هذه البادرة الخطيرة لم يزجر ولم يهدد ولم يتهم بالفسق والخروج عن الإسلام أحداً من الذين طعنوا في إمارة  أسامة  وكل ما قاله في آخر عتابه:" واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم " ، كل هذا يثبت للمسلمين أن اختياره  لأسامة  لم يكن بأمر من الله ولا علاقة لهذا الاختيار بالسماء والوحي بل إنه اختيار شخصي ينبع من كفاءة  أسامة  وحبه لقيادة جيش المسلمين، وإن غضبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للمقالة التي قالوها لا يحملهم مسؤولية أخروية أو عذاباً إلهياً، ولذلك ختم كلامه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم معدداً الأسباب التي كانت وراء اختياره للقائد الشاب وطلب من المسلمين أن يسيروا وراءه.

       ونذكر هنا رواية رواها  ابن عباس  عن الخليفة  عمر  صريحة كل الصراحة في موقف الصحابة نحو الرغبات الشخصية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والأوامر الإلهية التي كان يصدع بها فقد روى  ابن عباس  قال: "خرجت مع  عمر  إلى الشام في إحدى خرجاته فانفرد يوماً يسير على بعير فاتبعته فقال: يا  ابن عباس  أشكو إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معي فلم يقبل ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم، قال: أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة ، قلت: هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له ، فقال: يا  ابن عباس  وأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ، إن رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسول الله أَوَكلُّ ما أراد رسول الله كان؟ إنه أراد إسلام عمّه ولم يرده الله فلم يسلم" ( شرح نهج البلاغة  ابن أبي الحديد ج3 ص114)[6]،[7]

 

 

[1] . تهذيب سيرة ابن هشام/ ص 283

[2] . هذا ظاهر في كلام عمر t كما جاء في سيرة ابن هشام: " فلما التأم الامر ولم يبق الاّ الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى ابابكر، فقال : يا أبا بكر، أليس برسول الله ؟ قال : بلى . قال : أليسوا بالمشركين ؟ قال  : بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال ابوبكر : يا عمر، الزم غرزه ( امره) ، فاني اشهد انه رسول الله . قال عمر : وأنا اشهد انه رسول الله. ثم أتى رسول الله r فقال : يارسول الله ، ألست برسول الله ؟ قال : بلى . قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى. قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أُخالف أمره ، ولن يضيعني. تهذيب سيرة ابن هشام ص 257/ دار احياء التراث العربي.

[3] . ومن الأمثلة الصحيحة على ذلك ما وقع من مخالفة علي وأبي بكر لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، الأول في مسح كلمة رسول الله في صلح الحديبية، والثاني في الأمر بثبوت أبي بكر في مكانه إماما في صلاته التي صلاها بالمسلمين في مرض النبـي، ومعلوم أن مخالفتهما لم تكن عصيانا لمره صلى الله عليه وسلم ، بل كان تعظيما لقدره الشريف وتأدبا أمام مقامه الرفيع.

 عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثًا وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ. وَلاَ يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلاَ يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ.

قَالَ لِعَلِي « اكْتُبِ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ». فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِىٌّ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَرِنِى مَكَانَهَا ». فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ « ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ». فَأَقَامَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِي هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ. فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ « نَعَمْ ». فَخَرَجَ. وَقَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِى رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ.-صحيح مسلم

وكذلك مخالفة الصديق لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في مكانه إماما للناس في صلاته:

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ شَىْءٌ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ قَدْ حَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَا هُنَا فَأُؤَذِّنُ وَأُقِيمُ فَتَقَدَّمَ وَتُصَلِّىَ. قَالَ مَا شِئْتَ فَافْعَلْ. فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَفَّحَ النَّاسُ بِأَبِى بَكْرٍ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَنَحَّى فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىْ مَكَانَكَ فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَالَ « يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ ». قَالَ مَا كَانَ لاِبْنِ أَبِى قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ « فَأَنْتُمْ لِمَ صَفَّحْتُمْ ». قَالُوا لِنُعْلِمَ أَبَا بَكْرٍ. قَالَ « إِنَّ التَّصْفِيحَ لِلنِّسَاءِ وَالتَّسبِيحَ لِلرِّجَالِ – مسند الإمام أحمد وقد ورد بمعناه في البخاري ومسلم.

[4] . تحدثنا عن الاحاديث التي رواها اهل السنة بخصوص سيدناعلي وأثبتنا أنها لم تأت بمعنى الخلافة وانما لأغراض أخرى ، بل على العكس تماما فإن الامور التي  فعلها بحق سيدنا أبي بكركاستصحابه في رحلة الهجرة ، وتأميره  على الحجيج ، وامره له أن يصلي بالناس، أكثر دلالة على رغبته في استخلاف ابي بكر أو رغبته في أن يفهم الناس بأن أبابكر هو خليفته من بعده .هذا بالاضافة الى كل تلك الاحاديث التي قالها بحق ابي بكر.

[5] . أثبتنا بما لامجال فيه للشك أن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش وإن كان وجوده فيه لا يضيره ولكن الحق احق ان يتبع ، وقائل ذلك القول ليس ابو بكر أو عمر وانما هو شخص آخر أشرنا الى اسمه عند الحديث عن بعثة اسامة وان عمر وبخه على كلامه ذلك.

[6] .الشيعة والتصحيح للدكتور موسى الموسوي ص20- 30

[7]. هذه الرواية الاخيرة التي رواها عن ابن عباس لم أجدها في كتب السنة ، لا في كتب التاريخ ولا الحديث ولا العقيدة ! وكونها في المصادر الشيعية  أبلغ في الحجة (إن صدقت)على  أن امامة علي لم تكن امرا الهيا وانما كانت  رغبة  من النبـي أراد الله خلافها !

  • الاحد AM 11:58
    2021-05-23
  • 2031
Powered by: GateGold