المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417455
يتصفح الموقع حاليا : 238

البحث

البحث

عرض المادة

تدوين السنة

تدوين السنة

       من المعلوم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم  نهى عن كتابة أحاديثه الشريفة ، وأنه  كذلك أباح ، وأمر بمثل هذه الكتابة ، وبالطبع لا يمكن أن يجتمع النهى والإباحة والأمر مع اتحاد الزمان والأحوال . والمتتبع لهذا يجد أن النهى صدر في أول الأمر حتى لا يختلط شىء بكتاب الله تعالى كما يبدو ، أو لأية حكمة أخرى .

      والصحيح في النهى ينحصر في حديث واحد رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد من صحيحه ، تحت باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم ، ورواه   بسنده ، عن أبى سعيد الخدرى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   قال : " لا تكتبوا عنى ، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه ، وحدثوا عنى ولا حرج ، ومن كذب على - قال همام : أحسبه قال متعمداً : فليتبوأ مقعده من النار " .

      وقال الإمام النووى في شرح الحديث الشريف :

      قوله صلى الله عليه وسلم  : " لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه " قال القاضى : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم : فكرهها كثيرون منهم ، وأجازها أكثرهم .

    ثم أجمع المسلمون على جوازها ، وزال ذلك الخلاف . واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهى ، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب ، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لايوثق بحفظه ، كحديث " اكتبوا لأبى شاه " ، وحديث صحيفة على رضى الله عنه ، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذى فيه الفرائض والسنن والديات ، وحديث كتاب الصدقة ، ونصب الزكاة الذى بعث به أبو بكر رضى الله عنه أنسا رضى الله عنه حين وجهه إلى البحرين ، وحديث أبو هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب ، وغير ذلك من الأحاديث ، وقيل : إن حديث النهى منسوخ بهذه الأحاديث ، وكان النهى حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة . وقيل : إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة والله أعلم " ([1][11]) .

      والأحاديث التي أشار إليها الإمام النووى جاءت بعد حديث النهى عن   الكتابة ، ومن هنا قيل بالنسخ ، ولذلك عندما ورد الحديث في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذرى عقب الشيخ الألبانى بقوله : " هذا منسوخ بأحاديث كثيرة فيها الأمر بكتابة الحديث النبوى " ([2][12]) . والرامهرمزى الذى ولد في النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى ، وتوفى سنة 360 هـ ، تحدث عن التدوين في كتابه المحدث الفاصل بين الراوى والواعى ( ص 363 : 402 ) تحت عنوان " باب الكتاب "  وذكر بإسناده ستة أحاديث . أولها عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلى ، وإنما أحلت لى ساعة من نهار ، وأنها لا تحل لأحد كان بعدى ، لا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفتدى ، وإما أن يقتل فقال العباس : إلا الأذخر يا رسول الله ، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا ، فقال : " إلا الأذخر " . فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال : اكتبه لى يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اكتبوا لأبى شاه  " . قال المديد : قلت للأوزاعى : ما قوله اكتبوا لأبى شاه ؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول صلى الله عليه وسلم .

     أما باقى الأحاديث فكلها عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضى الله تعالى عنهما ، وهى :

  • ـ قلت : يا رسول الله ، أقيد العلم ؟ قال : " نعم " ، قلت : وما تقييده ؟ قال : " الكتاب " .
  • ـ قلت : يا رسول الله ، أكتب ما أسمعه منك ؟ قال " نعم " قلت : في الغضب والرضا ؟ قال : " نعم ، فإنى لا أقول إلا حقا "
  • ـ قلنا : يا رسول الله ، إنا نسمع منك أشياء لا نحفظها ، أفلا نكتبها ؟ قال: " بلى فاكتبوها " .
  • ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " قيدوا العلم بالكتاب " .
  • ـ قلت : يا رسول الله ، إنى أسمع منك الشئ أفأكتبه ؟ قال : " نعم فاكتبه " قلت : إنك تغضب وترضى ؟ قال : " إنى لا أقول في الرضا والغضب إلا حقا"([3][13]).

      والحديث الأول ـ حديث أبى هريرة ـ أخرجه الإمام البخارى في كتاب العلم ، باب كتابة العلم ، وفيه أخرج ثلاثة أحاديث أخرى ، أحدها عن أبى جحفة قال : قلت لعلى : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة . قال : قلت : فما فى هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر .

      وأخرج عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه قوله : ما من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه منى ، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو ، فإنه كان يكتب و لا أكتب .

     والحديث الرابع في الباب جاء عن ابن عباس -رضى الله عنهما - قال : لما اشتد بالنبى صلى الله عليه وسلم وجعه قال : " ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده " .

      ومن المعلوم المشهور كتابة عبدالله بن عمرو التي أشار إليها أبو هريرة ، وصحيفته " الصادقة " التي أخذها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم .

     وفى أحاديث عبدالله بن عمرو من مسند الإمام أحمد نجد أربع روايات صحيحة تثبت هذه الكتابة ، منها قوله : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أريد حفظه ، فنهتنى قريش ، فقالوا : إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر ، يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن   الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اكتب ، فوالذى نفسى بيده ما خرج منى إلا حق "([4][14])

     وفى رواية : " ما خرج منه إلا حق " ([5][15]).

     وفى رواية ثالثة : " فإنه لا ينبغى لى أن أقول في ذلك إلا حقاً " ([6][16]).

     وفى الأخيرة من الروايات الصحيحة : ".... فإنى لا أقول فيهما إلا حقا "([7][17])

       وعقب الشيخ أحمد شاكر على الحديث الأول ببيان صحته ، وذكر ما يتصل بتخريجه ، ثم انتقل للحديث عن الكتابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم    ، فاكتفى بإثبات ما قاله ابن القيم في تعليقه على اختصار المنذرى لسنن أبى داود ، وهو ما يأتى :-

     " قد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم النهى عن الكتابة والإذن فيها . والإذن متأخر ، فيكون ناسخا لحديث النهى ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال في غزاة الفتح : اكتبوا لأبى شاه ، يعنى خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها ، وأذن لعبدالله بن عمرو في الكتابة ، وحديثه متأخر عن النهى ، لأنه لم يزل يكتب ، ومات وعنده كتابته وهى الصحيفة التي كان يسميها الصادقة . ولو كان النهى عن الكتابة متأخرا لمحاها عبدالله ، لأمر النبى صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن . فلما لم يمحها وأثبتها دل أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهى عليها ، هذا واضح والحمد لله .

     وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته : ائتونى باللوح والدواة والكتف ، لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا . وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره ، وإذنه . وكتب النبى صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابا عظيما ، فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها . وكتبه في الصدقات معروفة مثل كتاب عمر بن الخطاب ، وكتاب أبى بكر الصديق الذى دفعه إلى أنس رضى الله عنه . وقيل لعلى : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ ؟ فقال : لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا ما في هذه الصحيفة ، وكان فيها العقول ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر . وإنما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام ، لئلا يختلط القرآن بغيره ، فلما علم القرآن وتميز ، وأفرد بالضبط والحفظ ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط ، أذن في الكتابة .

       وقد قال بعضهم : إنما كان النهى عن كتابة مخصوصة ، وهى أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة ، خشية الالتباس . وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقا . وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ ، فإذا حفظ محاها . وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها . ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل   ا . هـ .

      وفى مقدمة ابن الصلاح ( ص 87 ) جاء عنوان : " في كتاب الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده " .

      وقال : " اختلف الصدر الأول - رضى الله عنهم - في كتابة الحديث ، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم ، وأمروا بحفظه ، ومنهم من أجاز ذلك . وممن روينا عنه كراهة ذلك : عمر ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى ، وأبو سعيد الخدرى في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين " .

      وذكر حديث أبى سعيد الخدرى ، وقال : " وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله : على ، وابنه الحسن ، وأنس ، وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أجمعين .  ومن صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على جواز ذلك حديث أبى شاه ... إلخ " .

     ثم قال ( ص 88 ) : " ثم إنه زال ذلك الخلاف ، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته ، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة والله   أعلم " ([8][18]) .

      وفى الباعث الحثيث ( ص 132 ) سلك الحافظ ابن كثير منهج ابن الصلاج ، وذكر قوله فيما رواه عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم ، ثم قال : " وقد حكى إجماع العلماء في الأعصار المتأخرة على تسويغ كتابة الحديث وهذا مستفيض شائع ذائع ، من غير نكير " .

      وفى التعليق على ما ذكره الحفاظ بين الشيخ أحمد شاكر أن القول الصحيح هو ما ذهب إليه أكثر الصحابة من جواز الكتابة ، وذكر حديث أبى سعيد في  النهى ، ثم قال : إن النهى منسوخ بأحاديث أخرى دلت على الإباحة ، وذكر عددا من هذه الأحاديث ، وقال :

      " وهذه الأحاديث ، مع استقرار العمل بين أكثر الصحابة والتابعين ، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها : كل هذا يدل على أن حديث أبى سعيد منسوخ ، وأنه كان في أول الأمر حيث خيف اشتغالهم عن القرآن ، وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن . وحديث أبى شاه في أواخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، وكذلك إخبار أبى هريرة ، وهو متأخر الإسلام ، أن عبدالله بن عمرو كان يكتب ، وأنه هو لم يكن يكتب يدل على أن عبدالله  كان يكتب بعد إسلام أبى هريرة ، ولو كان حديث أبى سعيد في النهى متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز ، لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحاً . ثم جاء إجماع الأمة القطعى يعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير ، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملى ، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضى الله عنهم أجمعين " . ا . هـ

       مما سبق نرى أن تدوين السنة بدأ في حياة الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما كتب بأمره وبين يديه صلى الله عليه وسلم .

       ومن المعلوم أن الاتجاه العام إلى جمع السنة المشرفة وتدوينها في الدولة الإسلامية إنما كان في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز رضى الله تعالى عنهم ، وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين ، ووفاته فى رجب سنة إحدى ومائة ، وهذا يعنى أن الجمع كان لكل من المكتوب منها والمحفوظ ، مع مراعاة الإسناد الذى شرفت به وانفردت خير أمة أخرجت للناس . فالجمع إذن لم يكن للمحفوظ وحده ، كما لم يكن لهذا المحفوظ قيمة علمية بغير الإسناد المتصل المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .

      قال الجزائرى في توجيه النظر إلى أصول الأثر ( ص 7 : 8 ) .

      قال البخارى في صحيحه فى كتاب العلم : " وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبى بكر بن حزم : انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه ، فإنى خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء " ، وابو بكر هذا كان نائب عمر بن عبدالعزيز في الإمرة والقضاء على المدينة . روى عن السائب بن يزيد ، وعباد بن تميم ، وعمرو بن سليم الزرقى . وروى عن خالته عمرة ، وعن خالدة ابنة أنس ، ولها صحبة . قال مالك : لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبى بكر ابن حزم .. وكتب إليه عمر بن عبدالعزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة والقاسم فكتبه له . وأخذ عنه معمر ، والأوزاعى ، والليث ، ومالك وابن أبى   ذئب ، وابن إسحق ، وغيرهم . وكانت وفاته فيما قاله الواقدى وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومائة ،وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبدالعزيز محمد بن مسلم ابن عبيد الله بن عبدالله بن شهاب المدنى ، أحد الأئمة الأعلام ، وعالم أهل الحجاز والشام . أخذ عن ابن عمر ، وسهل بن سعد ، وأنس بن مالك ، ومحمود بن  الربيع ، وسعيد بن المسيب ،وأبى أمامة ابن سهل ، وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين ، وأخذ عنه معمر ، والأوزاعى ،والليث ، ومالك ، وابن أبى ذئب وغيرهم . ولد سنة خمسين وتوفى سنة أربع وعشرين ومائة . قال عبد الرزاق : سمعت معمرا يقول : كنا نرى أناقد أكثرنا عن الزهرى حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهرى ، ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقة الزهرى . ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا : كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشر العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين .

      وأول من جمع ذلك ابن جريج بمكة ، وابن إسحق أو مالك بالمدينة : والربيع ابن صبيح أو سعيد بن أبى عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثورى بالكوفة والأوزاعى بالشام ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ، وجرير بن عبدالحميد  بالرى ، وابن المبارك بخراسان . وكان هؤلاء في عصر واحد ، ولا يدرى أيهم سبق . قال الحافظ ابن حجر : " إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في   الأبواب ، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبى ، فإنه روى عنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم ، وساق فيه أحاديث".

     وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم خاصة وذلك على رأس المائتين ، فصنف عبيد الله بن موسى العبسى الكوفى مسندا ، وصنف مسدد البصرى مسندا ، وصنف أسد بن موسى مسندا ، وصنف نعيم بن حماد الخزاعى مسندا ، ثم اقتفى الحفاظ آثارهم : فصنف الإمام أحمد مسندا ، وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبى شيبة ، وغيرهم . ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخارى وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة ، فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال ، فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته . وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث ، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه . فإن لم يتيسر له ذلك بقى ذلك الحديث مجهول الحال عنده ، واقتفى أثر الإمام البخارى في ذلك الإمام مسلم ابن الحجاج . وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه ، فألف كتابه المشهور ، ولقب هذان الكتابان بالصحيحين ، فمعظم انتفاع الناس بهما ، ورجعوا عند الاضطراب إليهما ، وألفت بعدهما كتب لا تحصى ، فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها .

      هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شىء غير الكتاب العزيز ، وليس الأمر كذلك ، فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض ، وذكر البخارى في صحيحه أن عبدالله بن عمرو كان يكتب الحديث... إلخ . ا . هـ

    والتوهم الذى أشار إليه صاحب توجيه النظر أنه ليس له أساس علمى ، وكان المنهج العلمي والواقع العملى يستلزمان إزالة هذا التوهم ، فلم يقف الأمر عند ثبوت الكتابة عن طريق الأخبار الصحيحة ، بل وصل إلينا بعض ما كتب ، وطبع وانتشر : مثال هذا صحيفة همام بن منبه التي كتبها سماعا من راوية الإسلام الأول أبى هريرة رضى الله تعالى عنه ، نقلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، فقد نشرها المجمع العلمي العربى بدمشق ، وطبعت عدة مرات بتحقيق الدكتور محمد حميد الله ، وأخرجها من قبل الإمام أحمد في مسنده ( حـ 2 ص 312 : 318 ) ، وعندما قام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله .. بتحقيق وشرح المسند طبع خمسة عشر جزءا ، وتوفى قبل طبع الجزء السادس عشر ، وهو الذى يبدأ بصحيفة همام .…

     وفى المسند أيضاً أحاديث كثيرة من صحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص ، كما طبع تفسير مجاهد بن جبر ، تلميذ ابن عباس رضى الله عنهم ، وصلة التفسير بالسنة واضحة معلومة .

       بل إن كتب النبى صلى الله عليه وسلم وصلنا كثيرمن نصوصها ، وعثر على بعض النسخ الأصلية التي كتبت في حياته صلى الله عليه وسلم : ففى كتاب الأموال لأبى عبيد - على سبيل المثال - يوجد " باب كتب العهود التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأهل   الصلح " ( ص 244 ) ، ويروى أبو عبيد بإسناده تحت هذا الباب نصوص سبعة كتب ، وفى كتاب الأموال لابن زنجوية يوجد " كتاب العهود التي كتبها رسول   الله ... صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأهل الصلح " ( 2 / 449 ) ، وهو قريب مما ذكره أبو  عبيد .

       وجمع الدكتور محمد حميد الله ما استطاع من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم فأثبت نصوصها ، وبين مصادرها ، وذكر ما يوجد من أصولها وعرض صوراً لكتبه صلى الله عليه وسلم إلى كل من : النجاشى ، وهرقل ، والمقوقس ، وكسرى ، وغيرهم([9][19]).

       بعد هذا كله كيف يبقى أى توهم ، أو أدنى شك في ثبوت الكتابة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام من بعده ؟!

      كان الواجب إذن أن يزال هذا التوهم ، ولا يبقى أى شك أو لبس ، ولكن العجيب الغريب أن الأمر زاد واستشرى ، طعنا في السنة المشرفة ، وتشكيكا في صحتها ، والذين تولوا كبره المستشرقون وتلامذتهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله ، والجهلة بمكانة السنة المطهرة وحجيتها وعلومها . وقد صنفت كتب عديدة في الرد على هؤلاء الطاعنين . وحتى لا يطول بنا الحديث عن التدوين أكتفى بالإشارة إلى كتاب واحد وبعض ما جاء فيه ، وذلك هو " دراسات في الحديث النبوى وتاريخ تدوينه " للدكتور محمد مصطفى الأعظمى ، جعل المؤلف الباب الثالث حول كتابة الأحاديث النبوية ( ص 71 : 83 ) ، وانتهى منه إلى نتيجة وهى أن المسلمين كانت قد أصبحت لديهم إمكانيات واسعة تمكنهم من كتابة الأحاديث  النبوية ، ولم يكن ثمة عائق خارجى يقف في وجه تقييد العلم .

       وجعل عنوان الباب الرابع " تقييد الحديث من عصر النبى صلى الله عليه وسلم إلى منتصف القرن الثانى الهجرى على وجه التقريب " ، وهذا الباب يقع في مائتين واثنتين وأربعين صفحة ( 84 : 325 ) ، وقسمه إلى أربعة فصول :

       الفصل الأول لكتابة الصحابة والكتابة عنهم :

        ذكر فيه اثنين وخمسين من الصحابة الذين كتبوا أو كتب عنهم الأحاديث النبوية ، ورد على الشبه التي تشكك فيما انتهى إليه ، وعلى سبيل المثال ذكر أسماء عشرة كتاب كتبوا عن أبى هريرة ، ومنهم همام بن منبه صاحب الصحيفة التي وصلتنا كاملة ، وأشرت إليها من قبل ،وأربعة عشر كتبوا عن جابر بن عبد الله ، وهو نفسه من المؤلفين الأوائل ، وتسعة كتبوا عن ابن عباس ، أما هو فكانت كتبه حمل بعير ، وهكذا .

      والفصل الثانى عنوانه : " تابعيو القرن الأول وكتاباتهم والكتابة عنهم " ، وأثبت من هؤلاء ثلاثة وخمسين .

      والفصل الثالث جعله المؤلف لكتابة صغار التابعين والكتابة عنهم ، وذكر من هؤلاء التابعين تسعة وتسعين .

       أما الفصل الأخير من هذا الباب فكان لكتابة بعض صغار التابعين وأتباع التابعين والكتابة عنهم ، وبلغ عدد من ذكرهم هنا اثنين وخمسين ومائتين .

       وبهذا يتضح بدء الكتابة في عصر النبوة ، واتصالها واتساعها دون توقف حتى ما جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى .

      وقبل هذا الباب قال المؤلف (ص 76 ) : " في ضوء دراستنا هذه نستطيع أن نقول أن كل من نقل عنه كراهية كتابة العلم فقد نقل عنه عكس ذلك أيضاً ، ما عدا شخصاً أو شخصين ، وقد ثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم ، كما يتضح ذلك بمراجعة الباب الرابع من هذا الكتاب "

     وممن نقل عنهم كراهية كتابة العلم ، وتحدث المؤلف عنهم في هذا الباب ، ليثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم :

1 ـ أبو سعيد الخدرى ([10][20]) .

2 ـ أبو موسى الأشعرى ([11][21]) .

3 ـ زيد بن ثابت ([12][22]) .

4 ـ عبدالله بن مسعود ([13][23]) .

5 ـ عمر بن الخطاب : وقد أفاض في الحديث عنه ، وذكر سبع قضايا نقلت عن عمر وأسىء فهمهما ، واستدل بها على عدم أخذه بالسنة النبوية ، ورد المؤلف على هذا كله ، وذكر من الأدلة ما هو كاف شاف ، ثم تحدث عن جهود عمر لنشر السنة ، وعن كتابته للسنة ([14][24]).

 

 ([1][11]) راجع بيان عدم صحة باقي الأحاديث التي تنهى عن كتابة العلم في كتاب دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمى ، ص 76 ، وما بعدها .

 ([2][12]) انظر 2 / 252 حديث رقم 1861 ، وتعليق الشيخ الألباني ، والحافظ المنذرى ذكره في كتاب العلم لا الزهد ، واختلف اسم الباب أيضاً . 

 ([3][13]) انظر الأحاديث من رقم 315 إلى 319 ، وتخريجها ص 364 : 365 .

 ([4][14]) المسند ـ بشرح الشيخ شاكر جـ 10 ، رواية رقم 6510 ، وفى الحاشية بيان صحتها .

 

 (2) ، (3) ، (4) حـ 11 ، وأرقام الروايات هي : 6802 ، 6930 ، 7020 ، وفى الحاشية بين الشيخ شاكر صحة هذه الروايات .

 

 

([8][18]) اختصر الإمام النووى كتاب ابن الصلاح فى كتابه " الإرشاد " ثم اختصره فى " التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير والنذير " وهو الذى شرحه السيوطى فى كتابه " تدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى " . وفى الجزء الثانى من كتاب السيوطى ( ص 64 ) بدأ الحديث عن كتابة الحديث وضبطه ، وفى شرحه فصل القول فى اختلاف السلف من الصحابة والتابعين ، والجمع بين حديث النهى والأحاديث الأخرى . ( انظر كتابه إلى ص 68 ) . 

 ([9][19]) انظر كتابه " مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة " وانظر صور كتب النبي r . في الطبعة الخامسة ص 102 ، 108 ، 123 ، 137 ، 141 ، 147 ، 162 ،  225 .  

     وانظر كذلك : ما جمعه من كتب في عهد الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم .

 ([10][20]) انظر ص 95 رقم 6 .

 ([11][21]) انظر ص 96 رقم 8 .

 ([12][22]) انظر ص 108 رقم 22 .

 ([13][23]) انظر ص 125 رقم 39 .

 ([14][24]) راجع ما كتبه بالتفصل ص 131 : 139 .

  • الاثنين PM 06:28
    2021-04-26
  • 1299
Powered by: GateGold