المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 681609
يتصفح الموقع حاليا : 545

البحث

البحث

عرض المادة

حماية الأمن الاجتماعي (حد (الحرابة)

د/احمد نصير

حماية الأمن الاجتماعي (حد (الحرابة)

 

 قال تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (37)

 

تمهيد " ماهية حد الحرابة "

وهو ما يسمى بحد " قطاع الطرق" - أو "السرقة الكبرى "

 

الحرب : المقاتلة والمنازعة ، والـحَرْبُ: نَقِـيضُ السِّلـم ، أما الحرابة فهي :(قطع الطريق بالقتل والسلب)[1] ، وسمى قاطع الطريق بالمحارب لأنه يعلن مخالفته لأمر الله ورسوله ، فكأنه يعلن محاربته ، ودار الـحَرْب: بلادُ الـمشركين الذين لا صُلْـح بـينهم وبـين الـمسلـمِين ، وفي قوله: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِن اللَّهِ ورسولِه) ، أَي بِقَتْلٍ ، وقوله تعالـى: الذين يُحارِبُونَ اللَّه ورسولَه ، يعنـي الـمَعْصِيةَ، أَي يَعْصُونَه جهراً) [2].

 

بادئ ذي بدء ، لا بد وأن ننوه -أولا- إلى ضابط التفرقة بين هذه الجريمة"قطع الطريق"أو "الحرابة" ، وجريمة "البغي" حتى لا يختلطان ، وبينهما اختلاف كبير في الأحكام والآثار ، وطريقة معاملة مرتكبي الجريمتين .

فحيث معيار التفرقة بينهما في أمرين : -

الأول : المعيار المعنوي : ويتلخص في "التأويل السائغ" ، فالبغاة يبررون خروجهم على الحاكم بالتأويل السائغ ، أي تأويل يبرر تصرفاتهم التي تخرج عن طاعة الإمام ، بما يسوغ تفسيرهم لآحاد الناس وعندهم ، وقد لا يسوغ عند الراسخين في العلم ، الأمر الذي يدفعهم إلى الخراج على الحاكم والاقتتال معه وجنوده ، فالشارع نظر إلي أفعالهم ، رغم فظاعتها ، فالتمس لهم العذر بهذا التأويل وإن كان خاطئا ، فأوجب على المسلمين قتالهم –ولا شك- وتأييد الإمام في حربه عليهم ، لكن أوجب قبل ذلك السعي للإصلاح بين الطائفتين حقنا للدماء ، فإن لم ينفع فيجب قتالهم لتوحيد الصف دون أن يُتبع مدبرهم أو يجهز على جريحهم ، (وإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات 9).

 

 بينما في جريمة الحرابة أو قطع الطريق أو ما يسمى بالسرقة الكبرى فالجناة هنا ليس لهم هم إلا الدنيا ، فليس عندهم تأويل يسوغ لهم أفعالهم المؤثمة ، ولهذا فإنه يُجهز على جريحهم ويُتبع مدبرهم ، ويُقتَلُّون أينما ثقفوا ، أي يقتلون دون محاكمة متى تمت مداهمة أوكارهم ومعهم منعة ، أي سلاح يستقوون به على جنود الإمام ، إلا إذا استسلموا وسلموا أنفسهم قبل المداهمة ، فيجوز العفو عما يجوز العفو عنه من أفعالهم المجرمة التي لا تتعلق بحق الآدميين ، ويلزمون بالضمان عن إتلافهم مال الغير .

 

والثاني :المعيار المادي :  أي وسيلة خروج البغاة علي الإمام ، فإنه يتعين النظر في وسيلتهم لتحقيق هذا الهدف ، فإن كانت بسفك الدماء ونهب الأموال واغتصاب الأعراض فهي "محاربة لله ولرسوله" ، ولا شك في ذلك ، وإن كانت وسيلتهم في ذلك توافق الشرع لكنها تخالف سياسة الإمام ، فهو بغي إذا استطال للاقتتال مع جنوده فحسب .

 

أما إذا ما تساوى البغاة والمحاربين في الفعل الإجرامي بأن قتلوا غير جنود الإمام وسلبوا أموال الناس ، فعندئذ ينقلب تكييف الفعل الإجرامي للبغاة من جريمة "بغي" إلى "حرابة" بحسب الأحوال ومقدار الضرر وطريقة ارتكابه ومخالفته للشرع حتى وإن تذرعوا بتأويل باطل لتبرير جرمهم ، لأن العبرة في النهاية بتحقق الركن المادي لجريمة الحرابة الذي إن تحقق  فلا يعذر الجاني ، مهما  كان تأويله سائغا ، فالأفعال لابد وأن تتطابق مع الأقوال ، وليس لأصحاب التأويل السائغ قتل المدنيين أو سلب أموالهم  ،  وكلا الجريمتين "البغي"،"الحرابة" معاقب بشأنهما بنصوص عقابية ، لكن الأحكام  التي تتعلق بكل منهما تختلف عن الأخرى .

 

المسألة الأولى : تحقيق مفهوم حد الحرابة فقها

 

اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة فقال مالك المحارب : (من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل [3]ولا عداوة)[4] ، قال ابن المنذر اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة  .

  وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور ، قال ابن المنذر كذلك هو ، لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة ، والكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة

 وقالت طائفة لا تكون المحاربة في المصر وإنما تكون خارجا عن المصر هذا قول سفيان الثوري وإسحق والنعمان والمغتال كالمحارب ، وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا)[5].

 

وعلي ذلك فقد اتفق الفقهاء على أن الحرابة إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر ، واختلفوا فيمن حارب داخل المصر ، فقال مالك داخل المصر وخارجه سواء واشترط الشافعي "الشوكة" وإن كان لم يشترط العدد ، وإنما معنى الشوكة عنده قوة المغالبة ولذلك يشترط فيها البعد عن العمران لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران ،وكذلك يقول الشافعي إنه إذا ضعف السلطان ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة ذلك فهو عنده اختلاس ، وقال أبو حنيفة لا تكون المحاربة في المصر [6] 

 

قال أبو بكر الجصاص في قوله تعالى " يحاربون الله " هو مجاز ليس بحقيقة لأن الله يستحيل أن يحارب ..فسمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين ، لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه ، فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس ..، قوله تعالى "يحاربون الله" يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس ، وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح ، ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى , إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المبالغة في أخذ الأموال وقطع الطريق " [7]

 

يستفاد من التعريف اللغوي للحرابة معنى أعم وأشمل من قطع الطريق ، وإنما قطع الطريق هو أحد صور الحرابة ، وإن كانت هذه هي الصورة الغالبة ، فهل مقصد الشارع من حد الحرابة معناها اللغوي أم أنه ثمة معنى مخصوص هو مراد الشارع من هذا الحد هذا ما نعرفه عند بيان أركان هذه الجريمة

 

إذ يمكن القول بأن الحرابة هي " العدوان علي الغير مجاهرة سواء بسلب الأموال أو غصب الأعراض أو قتل الأنفس أو الجمع بينها " ، لكن الفقهاء استعانوا ببعض القرائن للتحقق من شرط المقاتلة – أي الحرابة -  يتعين توافرها لإيجاب حد الحرابة علي المعتدين ، فاشترطوا ثمة شروط منها ما يتعلق بالمحل ارتكاب الجريمة ، وأخرى تتعلق بالصفة أو كيفية تنفيذ الجريمة

 فأما المحل : فقالوا يشترط أن تقع خارج المصر ، وقصرها بعضهم في الأموال 

وأما الصفة أو الكيفية فقالوا أنه يتعين أن  تتم جرائمهم "مغالبة" علي وجه "المجاهرة" بإشهار "السلاح" ، وذلك فضلا عن القصد الجنائي .

 لكن بالنظر في هذه الشروط والتحقيق فيها يتبين أنه لم يثبت منها غير شرطي "المغالبة" الذي هو مستفاد من الآية ، أما إشهار السلاح والمجاهرة فهما قرائن على استعمال القوة في الفعل الإجرامي وإرهاب الناس ، أما القصد الجنائي فهو شرط عام في كل الجرائم

 ولجريمة الحرابة ثلاثة أركان (المعتدي) وهو الفاعل – (فعل الإعتداء) – المفعول وهو (المعتدى عليه) ، وعليه فإنه ثمة شروط تتعلق بالفعل ، وأخرى بالفاعل ، وما يتعلق بالمفعول ، وعلي ذلك يمكن أن نجمع شروط إيجاب حد الحرابة تحت أركان هذه الجريمة

 

المسألة الثانية : مناقشة آراء الفقهاء في أركان جريمة "الحرابة" والسبر عنها

 

الركن الأول : ما يتعلق بالفاعل (المعتدي) :

 

ذهب الحنفية وبعض الحنابلة والشافعية إلى عدم اشتراط الإسلام في الجاني ، ولذا فيقام الحد على القاطع للطريق مسلماً كان أو ذمياً ، حربياً كان أو معاهداً.

وأوجب جمهور الفقهاء أن يكون الجاني بالغاً عاقلاً لإقامة الحد عليه ، لذا فلا حد على الصغير أو المجنون لأن القلم مرفوع عنهما.

وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى عدم إقامة الحد على النساء ، لأنها ليست من أهل المحاربة كالرجل فأشبهت الصبي والمجنون وهو قياس فاسد عند غيرهما ، لأن المرأة المحاربة تأخذ حكم الحربي ولا فرق ، وعند الشافعية والحنابلة  والمالكية والطحاوي  تحد المرأة مطلقاً انفردت أو اشتركت فيه مع الرجال ،كما يحد الرجال مطلقا انفردوا أو اشتركوا مع المرأة ، وهو الراجح لأن لا دليل علي هذه التفرقة ولعموم الآية ، كذلك الحال بشأن الحرية.

 

الركن الثاني : ما يتعلق بالمعتدى عليه

 

يجب التفرقة هنا بين الحربي والمستأمن ،  فجمهور الفقهاء يرون أنه إذا كان المجني عليه "حربيا" فلا حد على الجاني لأن مال الحربي ليس بمعصوم ، أما"المستأمن" فيتعين علي الدولة المسلمة أن تحافظ عليه حتى يعود إلي دياره وإعمال حد الحرابة في المعتدين عليه مجاهرة ، وذلك لقول الحق تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة 6)

 

وقد قصر البعض الحرابة علي الأموال ، وقالوا إنها لا تكون في الفروج ، فرد عليهم ابن العربي المالكي فقال : " إنا لله وإنا إليه راجعون " ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال ، وإن الناس يرضون أن تذهب أموالهم وتحارب بين أيديهم ، ولا يرضون أن يحارب المرء في زوجته أو ابنته ، ولو كانت فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج) [8]

 

الركن الثالث : ما يتعلق بالفعل " ماهية الحرابة ذاتها "

 

عند التحقيق يتبين أن الفعل المادي المحقق الركن المادي لهذه الجريمة عند ابن قدامة هو (الخروج على أحكام الشرع بالقوة والمغالبة) [9] وهذا الشرط هو المميز للأركان المادية  لهذه الجريمة عن جريمة السرقة العادية ، أو القتل بدون وجه حق ، (كأن يأتي المجرم فعله المادي مجاهرة فيأخذ المال قهرًا ، فإذا أخذه مختفيًا فهو سارق ، وإن اختطفه وهرب فهو منتهب) [10]

 

وقد ذهب الإمام مالك إلى أن أخذ المال على سبيل "المخادعة" التي تؤدي إلى عدم مدافعة المجني عليه عن نفسه وماله يعد من باب قطع الطريق ، واستدل الفقهاء لذلك على ما فعله النبي r في العرينيين الذي فعلوا جريمتهم بالحيلة فقتلوا الصحابة رضوان الله عليهم فطبق النبي r عليهم حد الحرابة .

 

 مما تقدم نجد أن مفهوم شرط "المغالبة" يعني مجرد الخروج علي أحكام الشرع عملا ، ولا تلزم الردة أو التأويل أو الخروج اقتناعا [11] ، فهذا الشرط "المغالبة" هو المميز حقا لجريمة الحرابة عن سائر الجرائم من جنسها ،  ويستدل على المغالب بعدة قرائن منها البعد عن العمران ، السلاح ، المجاهرة ، استعمال القوة .......الخ ، فتلك قرائن على الوقوع فعل الحرابة وليست بشروط.

 

وعليه لا يشترط ارتكاب جريمة "الحرابة" أن تقع بمنأى عن العمران على الراجح لاسيما في هذا العصر حيث تساوى الأمران في منع الغوث بعدما تطور التسليح وأصبحت العصابات أكثر حذرا وتنظيما ، قال ابن قدامة (فإن كان ذلك منهم في القرى والأمصار فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم وظاهر كلام الخرقي محاربين ، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ، ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ، ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان ، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل "محارب" ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى)[12]    .

 

قال ابن قدامة (وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا أدركهم الغوث فليس هؤلاء بقطاع طريق لأنهم في موضع يلحقهم الغوث عادة وإن حضروا قرية أو بلدا ففتحوه  وغلبوا على أهله أو محلة منفردة بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون لأنهم لا يلحقهم الغوث فأشبه قطاع الطريق في الصحراء) [13]

 

ولقد بين الشيخ سيد سابق رحمه الله سبب اختلاف الفقهاء في هذا الشأن ، وأنه ليس بشرط فقال (الظاهر أن هذا الاختلاف يتبع اختلاف الأمصار ، فمن راعى شرط الصحراء نظر إلي الحال الغالبة ، أو أخذه من حال زمنه الذي لم يقع فيه مثل ذلك في مصره ، وعلي العكس من ذلك من لم يشترط هذا الشرط)[14]  ، ولذا يقول الشافعي (إن السلطان إذا ضعف ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة ، وأما غير ذلك فهو اختلاس عنده)[15]  

 

أما اشتراط حوزة السلاح كقرينة علي القوة والمغالبة ، فالجمهور يرون أنه إن لم يكن معهم سلاح فليسوا بمحاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم ، فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون ، وبه قال الشافعي وأبو ثور و مالك ، وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين لأنه لا سلاح معهم [16].

 

لكن الذين اشترطوا السلاح مازالت صورة ارتكاب هذه الجريمة بقطع الطريق عالقة بأذهانهم ، وأن المحارب لا يكون قاطعا للطريق إلا بسلاح ، غير أنه من المسلم به أن المحارب إذا كان يستطيع أن يبلغ بغيته بدون سلاح بالاعتماد علي قوته الجسدية فحسب ، فإن شرط المغالبة يكون قد تحقق ، ومثال هذه الصورة اغتصاب الفتيات وسرقة حليهن ، فقد ذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يشترط وجود سلاح مع الجاني لتوافر جرم قطع الطريق في حقه لأنه يكفي أن يعتمد الجاني على قوته الجسدية.

 

وليست "المجاهرة" بشرط ، فقد ذهب مالك إلى أن أخذ المال على سبيل المخادعة التي تؤدي إلى عدم مدافعة المجني عليه عن نفسه وماله يعد من باب قطع الطريق ، وبالبناء علي هذا الرأي فإن من يعطي غيره مادة مخدرة أو يحقنه بها حتى يغيب عن وعيه ثم يأخذ ماله أو يخدعه حتى يدخله محلا بعيدا عن الغوث ثم يسلبه ما معه يعدُّ محاربا ، وكذلك من يخدع شخصاً صغيراً أو كبيراً ، ثم يقتله بقصد أخذ ما معه فهو محارب سواء أخذ ما معه أو لم يجد معه شيئا ، وهذا هو القول الراجح لأن قطع الطريق كما يتحقق بالإرهاب بالسلاح، يتحقق بطرق المخادعة لأن في كلا الحالتين يعجز المجني عليه عن دفع الصائل.

 

وتطبيقا لذلك في قضائنا المعاصر : أيدت المحكمة الاتحادية العليا في الإمارات تطبيق حدّ الحرابة، وإعدام متهمَين قتلا عمدا شخصا بهدف طلب فدية من ذويه، مبينة أنه لا يجوز ترك حدّ الحرابة، أو إسقاطه، أو العفو عنه، متى ثبت، وهو ما تحقق في الواقعة.

وبينت هيئة المحكمة أن الحرابة عند المالكية هي (إخافة السبيل سواء قصد المحارب المال أم لم يقصده)، وأنه يدخل في الحرابة أخذ المال مخادعة، أو بطريق الحيلة مع استعمال القوة، أو عدم استعمالها، كما في حالة خديعة المجني عليه، وأخذه الى مكان بعيد عن الغوث، وأنه لا يشترط لقطع الطريق مكان معين، فحيث تحققت إخافة المارة فهي محاربة، ولا فرق بين أن يكون ذلك في الحضر أو المنازل أو الطرق.

حيث اعتبر المالكية أن (كل خروج عن النظام العام لارتكاب الجرائم يعد حرابة، ما دام الجاني عنده القدرة على الإزعاج والتخويف أيا كان نوع هذه القدرة، سواء كان فردا أم جماعة) ، ولا يشترط مالك والشافعي وآخرون وجود السلاح، بل يكفي عندهم أن يعتمد المحارب على قوته ، ويكفي عند المالكية مجرد المخادعة، حتى لو لم يستعمل القوة بأن يستعمل المحارب أعضاءه كالكز أو الضرب بحجم الكف، وأن الحرابة في حدّ ذاتها جريمة وينظر فيها إلى معنى محاربة الله ورسوله، وليس إلى ما يرتكبه المحاربون من سرقة أو غير ذلك)[17].

 

وبذلك يمكن القول بأن "الحرابة" هي كل "فعل" يمثل "اعتداء علي الغير " سواء في نفسه أو ماله أو عرضه ، باستخدام "القوة" أو"المغالبة" [18]، وذلك سواء أكان الإيقاع بالمجني عليه ابتداءً باستخدام السلاح أو الخديعة متى اعتمدت علي القوة في القتل أو السلب للممتلكات أو اغتصاب الاعراض ، وبهذا تفترق الحرابة عن حد السرقة الذي يعتمد علي الخفة والسرعة ومهارة الاختلاس والاخفاء والهروب به فهي سرقة توجب الحد عند من لا يشترطون الحرز  ، أو أن مفهوم الحرز عندهم قاصر علي نفي مظنة الخطأ.

وبهذا المعيار كذلك يكون تخدير المجني عليه لسرقته بمثابة استخدام سلاح له قوة تخديرية لبلوغ الجاني بغيته الإجرامية .

 

قوله تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ورد في سبب نزولها ما روي عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ نَاسًا أَغَارُوا عَلَى إِبِلِ النَّبِيِّ r فَاسْتَاقُوهَا وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ r مُؤْمِنًا فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُخِذُوا فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ) ، قَالَ (وَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَةُ الْمُحَارَبَةِ وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْحَجَّاجَ حِينَ سَأَلَهُ)[19]

 

يقول سيد قطب (وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله والتجمع في شكل عصابة خارجة على سلطان هذا الإمام تروع أهل دار الإسلام وأهل الذمة والمعاهدين ، وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم ، فمجرد تجمع مثل هذه العصابة وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة يجعل النص منطبقا عليها سواء خارج المصر أو داخله سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ، فقد اعتبرهم الشارع لا يحاربون الحاكم وحده ولا يحاربون الناس وحدهم إنما هم يحاربون الله ورسوله حينما يحاربون شريعته ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة كما أنهم بحربهم لله ورسوله وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها يسعون في الأرض فسادا ، فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة إنهم يحاربون الله ورسوله ، وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم فهم قطعا لا يحاربون الله سبحانه بالسيف وقد لا يحاربون شخص رسول الله بعد اختياره الرفيق الأعلى ولكن الحرب لله ورسوله متحققة بالحرب لشريعة الله ورسوله وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله) [20]

 

قوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) ومعيار الفساد ليس عرف الناس أو زعم الجاني ، فكم من مفسد ظن في نفسه صلاحا قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة 9) ، بل هو حد الشرع ، فكل ما محاولة لإفساد منهج الله بالجهر بالمعصية هو إفساد في الأرض أيا كانت صورته.

 

 فالفساد لغة هو العطب و التلف والخلل[21] ، وعند إضافة هذا اللفظ يتبين المقصود منه ، فالفساد في البر هو الجدب ، وفي البحر هو القحط[22] ، والفساد في الأرض تكرر في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، كلها تدل علي الجهر بالمعصية أو الاعتياد على الجرم أو أن يتعدى أثرها الإجرامي للناس جميعا ، وتلك هي معايير جريمة الإفساد في الأرض ، وصور ذلك كما يلي : -

 إفساد الأموال والتجارات ، كما هو ثابت في قول الله تعالى بشأن جريمة الغش التجاري – إذا كان عادة أو مضرا بالصحة العامة – (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/85)

سرقة الأموال على وجه الاعتياد كما في  قوله تعالى : (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) (يوسف/73)

الجهر بالمعصية وعدم المبالاة بالعقوبة : وهو ما يسمى في عصرنا بجريمة "البلطجة"  فيتعلق مظهر الإفساد في الأرض بالعتو والبطش بالأخرين ، وقد ثبت ذلك في قول الله تعالى (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (النمل 48) .

وقد يتعلق الفساد بالاتفاقات والمعاهدات الدولية وإفساد الحياة الاجتماعية والسلم العام كما في قول الله تعالى : (الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (27) .

 كما يتعلق الفساد بتقطيع الأرحام وتدمير الروابط الأسرية كما في قوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد/22) ومن ثم يعد عقوق الوالدين جريمة "حرابة" متى جاهر العاق بعقوقه وأعجز والديه ، وأرهقهما كفرا وطغيانا ، ويعد "إفسادا" إن لم يجاهر بذلك كما هو ظاهر من كتاب الله ، كذلك حرمان الأم الأب من رؤية ابنه أو ابنته ..الخ .

وقد جمع الله تعالى صور الإفساد في الأرض في قصة فرعون فقال جل شأنه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ) (القصص/5)

 

تلك هي المواطن التي اقترن فيها لفظ الفساد بالأرض في كتاب الله تعالى ، وجميعها محل تجريم ، وغير ذلك آيات كثيرة إلا أننا قصدنا من عرض هذه الآيات علي وجه الخصوص أن نبين أن الشارع أوضع معنى الإفساد في الأرض في كتابه العزيز حتى شمل مقاصد الشرع جميعًا ، فتناول الفساد في الدين بنقض الميثاق وتحريف الكتب السماوية ، والفساد في النفوس والأعراض باغتصاب النساء أو قتل الأبرياء ، والفساد في الأموال بتكرار السرقات ، والغش في الميزان

 

وكل هذه الجرائم إما أن تتسم بعمومية الأثر ، أو تكرار الجرم أو الجهر به ، وجميعها يؤدي إل عمومية الأثر ، والإخلال بالنظام العام ، فمعيار الفساد هو عمومية الجرم بحيث يتعدى أثر الجريمة المجني عليه ، ويستطيل مباشرة إلي المجتمع ، فيفسده –ولو بدرجة- إما اجتماعيا أو اقتصاديا  أو إعلاميا  أو سياسيا أو عسكريا ... إلي غير ذلك من مقومات المجتمع الأساسية  ، سواء تحققت هذه الآثار علي وجه المجاهرة أو في الخفاء ، وهذا هو وجه التفرقة بين جريمة الحرابة وجريمة الإفساد في الأرض ، لكن يمكن الاعتماد على معيار التكرار للفعل الإجرامي والاعتياد علي الإجرام كمعيار في هذه الجريمة إذا ما ارتكبت على وجه الخفاء وفي السر .

 

فعلى سبيل المثال جريمة الزنا يقتصر الفساد فيها على حال الجناة ، متى استتروا ولم يعلنوا بها ، فالفساد في دين الزاني لقوله r  (لا يزني الزاني وهو مؤمن) بينما جريمة الدعارة ليست فساد في دين الجناة وحسب بل هي فساد في الأرض نظرًا لما تتصف به من صفة العمومية دون تعيين  "للزاني" أو "المزني بها" ، كما تعتمد على التكرار والعادة بغير تمييز ، فهذا إفساد في الأرض ، لأنه ينطوي على نشر البغاء والتحلل والإباحية إلى غير حدود ، بينما يقع فعل الزنى مرة واحدة وبامرأة واحدة ، لكن من يتخذ الأمر عادة ، ويمتهن هذه العادة ويتكسب منها ، فهذا لا يكفي توقيع حد الزنا عليه متى ثبت ارتكابه لجريمة "الدعارة" ، فجريمة الدعارة لا تختلف في أركانها المادية عن جريمة الزنا إلا أنها تتميز عنها في اقترانها بظروف مشددة غيرت من وصف الجريمة ليضفي عليها وصف الإفساد في الأرض ، فهذا الظرف المشدد غير من أوصاف الجريمة برمتها ، لاسيما إذا ما كان ثمة مقابل مالي لإقامة هذه العلاقة الآثمة على وجه الاعتياد ، حتى يكاد تعرف الفتيات بأنهن على هذا الحال فيسهل إتيانهن بمجرد لقائهن دون ممانعة ، فهذا إفساد بين في الأرض ، ويغري الأزواج على أن يقعوا في هذا الإثم وتفسد البيوت التي قامت على شرع الله .

 

من هنا نفهم أن جريمة الإفساد في الأرض هي ذاتها من جنس جرائم الحدود كـ (السرقة) ، (القتل) ، (الزنا) ..الخ ، لكنها تتميز عنها بمعيار وليست لها أركان مميزة عن الجرائم التي من جنسها ، هذا المعيار يتمثل في صفة "العمومية الأثر الإجرامي"أو "الاعتياد وتكرار الفعل الإجرامي على وجه العادة والتكسب" ، منعا لاختلاط ماهيتها بماهية غيرها من الجرائم التي من جنسها , فهذا الظرف المشدد والمتمثل في عمومية الأثر أو العود للجريمة ، يعني أن أثر الجريمة لا يقع على نفس المجني عليه وحده ، بل يمثل تهديدا لغيره من الأنفس دون تعيين أو عداوة مسبقة ، مثل  جريمة " البلطجة " ، فإذا انصبت علي مال لا يقتصر أثرها علي ضياع مال المجني عليه وحسب بل يتعدى أثرها ليهدم مالية الدولة واقتصادها ، مثل جريمة "تزوير أوراق مالية" أو جريمة " سرقة المال العام " ، فالظرف المشدد هنا غيير من الوصف للجريمة ، وأضحى معيارا للتمييز بين جريمة "الفساد" وما يشتبه بها من جرائم من ذات الجنس لكنها ليست على وجه الاعتياد ، وأثرها لا يتسم بالعمومية ، بل يقتصر على المجني عليه وحده .

 فلا غرو أن يندرج تحت مسمى هذه الجريمة كافة صور الإفساد في الأرض مثل " هتك العرض – الاغتصاب – الاتجار في المخدرات – خطف الأطفال – الترويع و البلطجة – حرق المنشآت – التفجيرات – السرقات المسلحة .... إلي غير ذلك من صور لا يمكن تحديدها علي سبيل الحصر " .

 

وبفضل هذا المعيار لحد "الحرابة" و"الإفساد" أضحت كافة صور الإجرام معاقب عليها وفقا لنص تشريعي مقرر في القرآن الكريم دون حاجة بعد ذلك إلي بحث مشروعية العقاب في هذا الشأن طالما يجمعها أحد وصفين " الحرابة" أو "وصف الإفساد  " ومعياره الإجرام مجاهرة أو علانية أو مغالبة حال ارتكاب الفعل الإجرامي ، لذا سماهم الله عز وجل بالذين يحاربونه ورسوله ، فلم يعتبر جهرهم بالمعصية بأشد أنواع المعاصي مجرد محاربة للإمام أو خروج علي أحكام الشريعة والقانون بل عده الشارع حربا له ولأنبيائه حتى يعظم هذا الجرم في نفوس مطبقي الحد عليهم .

 

 ومن ثم فإنه يتعين علينا وفي هذا الخصوص ألا نقصر مفهوم هذا الحد علي قطع الطريق فحسب ، ذلك أنه وإن جاز إطلاق هذا اللفظ علي موضوع الحد ، فإن ذلك باعتبار أنه مصطلح الأكثر تعريفا لأحد أوجه هذه الجريمة وهي " الحرابة " وباعتبار أن له معنى خاص من معان الإفساد ، لكن مصطلح قطع الطريق لا يندرج تحته كافة صور الإفساد في الأرض المشار إليها سلفا ، لذا تعين ألا ندرج هذا المصطلح كوصف لجريمة الإفساد ، وإن جاز إطلاقه كوصف لجريمة "الحرابة" على سبيل التعيين في حالة بذاتها .

 

 وذلك لأن "الإفساد" معنى أشمل وأعم من "الحرابة" ولكل من الجريمتين مفهومهما ومعالمهما الذاتية ، ومن ثم فإننا نعرض في هذا الصدد لصور الإفساد في الأرض التي توجب هذا الحد ، وذلك حتى يكون المعيار محدد للماهية ، وذلك بعد تصنيفها بحسب محل الجناية التي تمثل تعديا على أحد مقاصد الدين على النحو التالي :-

 

أولا : جرائم العدوان على الدين :-

وتشمل (الاستهزاء بالمعتقدات والمقدسات – تحريف النصوص المقدسة – نشر الإلحاد والكفر في الأطفال..الخ)

ثانيا : جرائم العدوان على النفس :-

وتشمل (الترويع والتخويف والبلطجة - جريمة الإبادة الجماعية  - خطف الأطفال والنساء والمعاقين..الخ)

ثالثا : جرائم إتلاف العقول :-

(الاتجار في المواد المخدرة و المسكرات ، والعمل في مجال صناعتها وتقديمها ..الخ)

رابعا : جرائم إفساد الأخلاق

وتشمل (الفعل الفاضح العلني وإشاعة الفاحشة - هتك العرض –الاغتصاب – الدعارة..الخ)

خامسا : جرائم إفساد المالية والضمان :

وتشمل (السطو - تزييف العملة - تزوير الأوراق الرسمية - رشوة الموظف العام..الخ )

سادسا : جرائم دولية التي هي من جنس ما سبق ولكن الطابع الدولي يؤكد العمومية والاعتياد

(القرصنة البحرية – تجارة المخدرات العابرة للبلدان - الإرهاب الموجه - قطع الطريق في الجو)

 

فقصدق الله الذي قال في كتابه (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام 38)

 

قوله تعالى (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (33) لما كان حدي جريمتي الحرابة والإفساد في الأرض من العموم والشمول فيندرج تحتهما كافة صور الإجرام التي من شأنها تهديد الجماعة الآمنة في الدولة المسلمة في نفسها أو مالها أو عرضها ، الأمر الذي يتطلب محاربة عتاة المجرمين ومعتادي الإجرام بصورة قاطعة ، كان من البديهي أن يتقدم ذلك الأمر بقتال هؤلاء المجرمين ، لاسيما أصحاب المنعة والشوكة والخارجين عن سلطان الإمام ، فهؤلاء يتعذر عقوبتهم دون الإحاطة بهم ، ولا يمكن ذلك بغير مقاتلتهم ، وهو ما يتطلب تدخل قوات الجيش النظامي ، ولا يكتفى بعمل الشرطة أو المحتسب ، لأن المنعة التي يتحصنون بها لا يقتحمها إلا جيش نظامي ، وذلك تقليلا لخسائر الجند والسلاح عند مداهمتهم ، ولذلك ورد الأمر بمقاتلتهم في قوله (أَنْ يُقَتَّلُوا) وليس بقتلهم ، فالقتل عقوبة ، والتقتيل محاربة ومقاتلة وتغلب بعد المبارزة والمداهمة والمباغتة ، إنما الحرب خدعة.

 

ومن المناسب كذلك أن تتنوع العقوبات المقررة بشأنهما ، وتتدرج بين التقتيل ويقصد به محاربة هؤلاء المحاربين بالقوة ودون تمييز بينهم ، أو الصلب تمثيلا بهم ، والتشديد في عقوبة القطع للأطراف على نحو ما ذكرته الآية أو التشديد في عقوبة الحبس بالنفي في الأرض ، وذلك كله بحسب قدر الجناية ومحلها ، فإن كانت في النفوس والأعراض والدين فالتقتيل واجب، وإن كانت في المال أو كانت المنعة أقل فالتقطيع واجب نكاية بهم ، وإن جاز كسر شوكتهم دون تقتيل أو كان الجرم أقل  ولا حاجة للتقطيع ، فهنا يجوز محاكمتهم ، وعقوبتهم بالنفي في الأرض ، كل ذلك بحسب بمقدار الجرم وقدر الجناية .

 

وهي عقوبات تقديرية يوقعها قاضي الموضوع بحسب ظروف كل دعوى وملابساتها ، روي عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ r وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r بِذَوْدٍ وَرَاعٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ r وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ r فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ)[23] .

 

قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (34) المقصود بالتوبة هنا معنى مخصوص مناسب للسياق ، وهو التوبة من جريمة الحرابة ، وليس المقصود بها التوبة المعروفة عن الذنوب كلها ، فهذه يتعذر إثباتها في الدنيا ، وليست مناط الإعفاء ، كما لا يقصد بها إسلام الكافر ، بل إن الكافر المحارب يستفيد مثل المثل من إسقاط حد الحرابة إذا ما سلم نفسه قبل القدرة عليه .

 

فقد نقل الإمام جرير الطبري أراء العلماء في هذه المسألة (فعن عطاء الخراساني وقتادة: أما قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، فهذه لأهل الشرك ، فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم حَرْب، فأخذ مالا وأصاب دمًا، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أُهْدِر عنه ما مَضَى) وهو ما يعني بمفهوم المخالفة أنه لو تاب وأسلم بعد أن قُدِر عليه فلا يهدر عنه ما مضى [24].

 

وقال آخرون: بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها "المحاربون اللهَ ورسوله" : "الحُرَّابُ من أهل الإسلام" ، من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه ، ثم استأمن فأُومن على جناياته التي جناها ، وهو للمسلمين حرب ، ومَن فعل ذلك منهم مرتدًّا عن الإسلام، ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن ، قالوا: فإذا أمَّنه الإمام على جناياته التي سلفت، لم يكن قِبَله لأحد تَبِعة في دمٍ ولا مالٍ أصابه قبل توبته، وقبلَ أمان الإمام إيَّاه) [25].

 

أي أن المفترض الأقرب للتصور لقبول التوبة قبل القدرة الموجب لإسقاط الحد عن المجرم أن يعقد الإمام اتفاقا مع أهل الإجرام والعصابات على أن يؤمنهم إذا سلموا أنفسهم له ، ويكون هذا الإتفاق بعد أن وجد المصلحة في ذلك بحيث يقي الأمة شرهم ، ويوفر جنده للقتال في جهة أولى من ذلك ويوفر طاقته وذخائره ، هنا ينفذ إتفاقه عليه ويتلزم به.

 

ولذلك نقل ابن جرير عن السدي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، وتوبته من قبل أن يُقْدر عليه: أن يكتُب إلى الإمام يَستأمنه على ما قَتل وأفسدَ في الأرض:"فإن لم يُؤمنِّي على ذلك، ازددت فسادًا وقتلا وأخذًا للأموال أكثر مما فعلت ذلك قبل" ، فعلى الإمام من الحقّ أن يؤمنه على ذلك ، - وأري أنه ليس ذلك بلازم على الإمام بل له السلطة التقديرية في إمكان القدرة عليهم أو الاتفاق معهم - فإذا أمّنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام ، فليس لأحد من الناس أن يتّبِعه ، ولا يأخذه بدَم سفكه ، ولا مال أخذه ،  وكل مالٍ كان له فهو له – وأرى أن الحاكم في المسألة بنود الاتفاق مع الإمام بالتفاوض بينهما - ، لكيلا يقتل المؤمنين أيضًا ويفسد ، فإذا رجع إلى الله جل وعزّ فهو وليُّه، يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس)[26]،  وقال (فإذا أخذه الإمام، وقد تابَ فيما يزعُم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يُؤمنه الإمام، فليقم عليه الحدّ)[27].

 

كذلك فإن من مفترضات المسألة والأقرب للتصور – كذلك –للتوبة قبل القدرة - لاسيما في زمننا المعاصر- حينما تفوت مدة طويلة لم يقدر خلالها السلطان أن يقبض على مرتكب جرائم الحرابة والإفساد لمنعته أو بعده عن العمران أو هروبه ، وحسنا فعلت القوانين الوضعية حينما أسقطت العقوبات الجنائية بالتقادم ، والدعاوى الجنائية بمضي المدة المقررة قانونا ، فالقانون الجنائي المصري يسقط الدعوى الجنائية في المخالفات بمضي سنة ، وفي الجنح بعد مرور ثلاث سنوات ، وفي الجنايات بعد مرور عشر سنوات

 أما العقوبة المحكوم بها غيابيا فإنها تسقط في الجنح بمضي خمس سنوات ، وفي الجنايات بمضي عشرون سنة ، والإعدام بمضي ثلاثون سنة ، وهي فترة معقولة للإسقاط إذا ما سلم الجاني نفسه بعدها أو قام بمعارضة الحكم الغيابي أو تم القبض عليه بعدها ولم يرتكب خلالها جرما مماثلا خلال فترة التقادم ، فذلك قرينة على توبته من هذا الجرم .

 

وبعد أن عرضنا لمفترضان المسألة وبينا أنها تكاد تنحصر في فرضين (تقادم الجناية)[28] ، (الاتفاق مع الإمام) ننتقل إلى العلة من إسقاط العقاب في هذه الحالة ، يقول الدكتور المستشار عبد القادر عودة (فالمحارب إذا تاب قبل القدرة عليه سقطت عقوبته بالرغم من أنه أتى الجريمة التامة)[29] ، فهذا الاستثناء من العقاب يبين ماهية الجريمة ، وكيف أن مرتكبها يظل أنه في منعة من عقاب السلطان ، وذلك لكونه بعيدا عن يد السلطان في الصحراء وبعيدا عن العمران ، ولذلك خال بعض العلماء أن هذا شرط لتطبيق الحد ، وقد ذكرنا أنه ليس بشرط ولكن قرينة على "الحرابة" .

 

ولما كانت الآية بينت – كذلك - أن مسألة قدرة السلطان هي مسألة وقت ، كما في قوله (من قبل أن تقدروا عليهم) ، أي يتعين على السلطان أن يوجه قوته حتى يقدر عليهم ، فعليه أن يرسل رجاله ليقبضوا على الجناة ومحاربتهم وقتالهم متى لم يستسلموا له وقاوموا السلطات ، لكن العلة من قبول توبته وإسقاط حق الله عليه – لا حقوق العباد -  التسهيل على المجرمين أن يسلموا أنفسهم قبل أن يستفحل شرهم ، فيقل الفساد [30]، وتقليل العبء على رجال المباحث والشرطة وحفظ هذه القوة المدربة  من الأذى وأن نتهك قواها في صراعات داخلية ، طالما في الإمكان درء شرهم دون أن يضطروا لمقاتلتهم ، وقد بين العلامة ابن قدامة العلة من إسقاط الحد عنه إذا تاب قبل القدرة فقال (وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ ، تَرْغِيبًا فِي تَوْبَتِهِ ، وَالرُّجُوعِ عَنْ مُحَارَبَتِهِ وَإِفْسَادِهِ ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ عَنْهُ ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى تَرْغِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْ الْفَسَادِ وَالْمُحَارَبَةِ)[31].

 

أي أن في ذلك إعلاء للصالح العام متى تحقق الرد الخاص بالتوبة ، وقام المجرم بتسليم نفسه قبل أن يقبض عليه بالاتفاق مع السلطات ، وهذا يعني أنه أعجز السلطات زمنا معينا عن القبض عليه ، لا أن يرتكب الجريمة ويسلم نفسه فيظن بذلك أنه قد أفلت من العقاب ونال الجائزة بإسقاط الحد عنه بحجة عدم القدرة عليه وقد اختبأ فترة يسيرة من الزمن ، قال ابن قدامة المقدسي (والمراد بما قبل القدرة أن تمتد إلى المحارب يد الإمام, فإن تاب بعد أن امتدت إليه يد الإمام لم تعتبر التوبة قبل القدرة ولو كان هاربًا أو مستخفيًا أو ممتنعًا)[32] .

 

ومن جهة ثالثة لابد وأن نبين ماهية العقوبة التي تسقط في هذا الفرض وهي (الحد) فقط أي (تَسْقُطُ عَنْهُ حُقُوقُ اللَّهِ) تَعَالَى ( كَالْقَطْعِ ، وَالصَّلْبِ وَانْحِتَامِ الْقَتْلِ) (وَيَبْقَى الْقِصَاصُ ، وَالْمَالُ) [33]، (فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب، والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه)[34] ،  لكن ذلك لا يمنع أن يتضمن الإتفاق مع ولي الأمر تنازل أولياء المقتولين عن القود والثأر لأنفسهم بالقصاص ، وأنهم يقرون بالعفو عن الجناة إما بدية أو بغير دية ، بحسب الأحوال ، سواء تحملتها الدولة أو عاقلة الجناة ، وذلك باب من السياسة الشرعية موكول لولاة الأمور التفاوض فيه حتى يتم الاتفاق على ذلك .

 

 قال المستشار عبد القادر عودة (فإذا تاب المحارب سقط عنه ما وجب عليه من القتل والصلب والقطع والنفى، ولكن التوبة لا يسقط بها ما يتعلق بحقوق العباد فيبقى مسئولاً؛ فإن كان أخذ المال فقط فعليه رده, وإن كان قتل أحدا أو جرحه فعليه القصاص أو إجراءات شكلية ، وإنما يدل عليها رد المال لصاحبه أن كان هناك مال عند القدرة على رده, ويكفى فى التوبة الندم والعزم على ترك مثل ما حدث)[35].

 

وقال المستشار عبد القادر عودة (ومن المسلم به أن هذا النص ينطبق على جريمة الحرابة ، ولا شك أن المبدأ الذي جاء به النص يمكن تطبيقه على بعض جرائم التعازير إذا رأى أولو الأمر مصلحة في ذلك ، أما ما عدا ذلك من جرائم الحدود فمختلف عليه) [36] ، قال السعدي (وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه، تمنع من إقامة الحد في الحرابة، فغيرها من الحدود -إذا تاب من فعلها، قبل القدرة عليه- من باب أولى)[37]، قال ابن حزم الظاهري في المحلي (صح الإجماع بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم , فوجب أن تكون جميع الحدود من : الزنى , والسرقة , والقذف , وشرب الخمر كذلك , لأنها كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها)[38].

 

ويستدل على أن التَّوْبَةَ قَبْل الْقُدْرَةِ تُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ في كل الجرائم ، وذلك قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْمُحَارَبَةِ ، ما روي  عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ r فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَال : يَا رَسُول اللَّهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ r فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ r الصَّلاَةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُل ، فَأَعَادَ قَوْلَهُ ، فَقَال : أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْت مَعَنَا ؟ قَال نَعَمْ ، قَال : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ)[39]

 قال العلماء (وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ غُفِرَ لَهُ لَمَّا تَابَ ، وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَتِ التَّوْبَةُ فِي الْمُحَارَبَةِ مَعَ شِدَّةِ ضَرَرِهَا وَتَعَدِّيهِ ، فَأَوْلَى التَّوْبَةُ فِيمَا دُونَهَا ، وَهَؤُلاَءِ يَقْصُرُونَ السُّقُوطَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَا فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ ، بِخِلاَفِ مَا يَمَسُّ الأْفْرَادَ )[40].

 وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ : أَنَّ التَّعْزِيرَ الْوَاجِبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ –كذلك -، إِلاَّ إِذَا اخْتَارَ الْجَانِي الْعُقُوبَةَ لِيُطَهِّرَ بِهَا نَفْسَهُ ، فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ التَّعْزِيرَ)[41].

 

قوله (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالمغفرة والرحمة قاصرة على المسلم إذا تاب من الحرابة ، وخير مثال نذكره في توبة المسلم من حد الحرابة ما ذكره الفضل بن موسى قال : كان الفضيل بن عياض "شاطرا" أي يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو :  (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)  قال : فلما سمعها قال : بلى يا رب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة وإذا فيها سابلة فقال بعضهم : نرتحل وقال بعضهم : حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا قال : ففكرت وقلت : أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين ههنا يخوفونني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام) [42] ، ومن هنا أطلق عليه لقب (عابد الحرمين).

 

 أما الكافر الذي يتوب من الحرابة ولا يزال على كفره فإنه وإن جاز إسقاط حد الحرابة عنه في هذه الحالة ، فإن الله لا يقبل توبته لكفره ، لكن يترتب علي توبته أحكام يستفيد منها في الدنيا ولا يترتب على توبته ثواب في الآخرة ولا تكفير للذنوب .

 

وبعض العلماء يجيزون توبة الكافر إذا أسلم بعد القدرة ، وهذا صحيح ، لكن بعضهم رتب على ذلك نتيجة غير مستساغة ، (وهي إسقاط حد الحرابة عن الكافر لو أسلم بعد القدرة عليه) [43]، وليس ذلك صحيح بإطلاق ، فالإسلام يجُب ما قبله من حدود ، أي إثم ما فعل ، وذلك فيما ليس فيه مساس بحقوق العباد ، أما الدماء لابد التحلل منها بعفو أهل القتيل ، والأموال المسلوبة لابد من أدائها لأصحابها وضمان ما أتلف منها ، أما إسقاط حد الحرابة عن الكافر الذي أسلم  - قبل القدرة -  فليس فيه دليل ، فالعبرة ليس بإسلامه ، إنما بتسليم نفسه للإمام باتفاق سابق قبل القدرة عليه كما ذكرنا ، لأن المعول عليه في التوبة (التوبة من الحرابة) ، وليس (التوبة من الكفر) بدخول في الإسلام ، لاسيما وأن كثير من أهل الحرابة مسلمون ، بل يجب قطع يد السارق ، ويطبق حد الحرابة على المحارب إذا ما ثبت جرمه متى قُدِر عليه قبل أن يعلن توبته ، فالمسلم والكافر في ذلك سواء بسواء ، وإلا كان ذلك ذريعة لأي محارب أو مفسد في الأرض أن يتحلل من العقاب بمجرد إعلان إسلامه .

 ولا حجة في حديث أسامة بن زيد لما عاتبه النبي r على قتله المحارب بعد أن نطق بالشهادتين ، لأن محل الذم أنه لم يطبق عليه أحكام الحرب ، بوجوب أسره وتسليمه للنبي r لينظر في أمره ، وليس لأسامة أن يطبق الحدود في الحرب ، فمحل العتاب أنه قتله ولم يأسره مثلما أسر النبي r العباس بن عبد المطلب وهو مسلم .

 

وعليه يكاد ينحصر إسقاط حد الحرابة في زمننا علي حالتين فقط :-

الأولى : إصدار تشريع عام من أصحاب الولاية في التشريع الوضعي بإسقاط العقوبة بعد مضي فترة زمنية معينة على من عجزت الأجهزة الأمنية القبض عليهم شريطة أن يثبت أنهم لم يرتكبوا خلالها جرما آخر من جنس تلك الجريمة ، أي خلال سريان فترة التقادم .

 والأمر الثاني : أن يبرم الإمام اتفاقا أمنيا خاصا مع هؤلاء المحاربين يؤمنهم على أنفسهم شريطة أن يسلموا السلاح ويطبق فيهم حقوق الآدميين إما بالعفو أو الدية أو القصاص وضمان ما اتلفوه ، وذلك كله بحسب ما يراه ولي الدم معهم والمتضررين ، فإن تصالحوا على ذلك أمضاه فيهم  .

 

المسألة الثالثة : الحكمة من تغليظ عقوبة التقطيع للأيدي والأرجل

 

وفي تقطيع أيدي وأرجل قطاع الطريق أو المحاربين من البشاعة والإرهاب يوازي ما اقترفوه من بشاعة وإرهاب للآمنين علي أرض الدولة المسلمة ، فلا شك أنهم بجريمتهم هذه يعدون خارجين علي الإمام إذا أخذت الجريمة شكل العصبة والتحزب في أماكن نائية عن العمران كالجبال و نحوها ، فهؤلاء يعلنون صراحة أنهم قطاع طريق ولا يخافون شوكة الإمام وأن الإمام إذا ذهب لملاقاتهم بجنوده لديهم من الإمكانيات ما يجعلهم يناوئونه ويردون ضربته بمثلها فيقتلون من جنوده ما يقتل منهم أو أكثر ، فهؤلاء إذا ما لم تأخذ الدولة المسلمة علي أيديهم بالشدة أول أمرهم لسهل عليهم بعد ذلك إعلان خروجهم عليه بالكلية ، واستقطاب غيرهم لهم ، ونشر الأسلحة بينهم ، لذا كان في تقرير أشد أنواع العقوبات العادلة علي هؤلاء المجرمين إذا ما ارتكبوا جريمتهم من الدرجة الثانية ما يدرأ بلوغهم إلي شكل جريمة الحرابة من الدرجة القصوى  ، ولا شك أن تشديد العقوبة  في هذه الجريمة عن جريمة السرقة العادية ذا معزى ، إذ لا يسوغ الاكتفاء بقطع أيديهم وقد جمعوا إلي سرقتهم إفزاع المسلمين أو المستأمنين و هو ما يسمى بإخافة السبيل ، فعن النَّبيُّ r : لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً»[44] ، فكان في تغليظ العقاب عليهم تحقيق لمقاصد الشريعة الإسلامية من العقاب

 

المسألة الرابعة : تعقيب على الإعفاء من حد الحرابة لمن رغب في التوبة

 

قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) (35) نداء للذين آمنوا وتابوا إلى الله للاستعانة به سبحانه في التخلص من شرور أنفسهم ورغباتها الجامحة ، والاستعانة على ذلك بعبادته ، والاجتهاد في الأعمال الصالحة كوسائل تقربهم إلى مرضاة الله  .

 

 وناسب هذا النداء أن يكون تاليا للحديث عمن تاب إلى الله تعالى قبل القدرة ، وقد اقترن بألوان المعاصي ما أعجز السلطان عن أن يمسكه ويحاسبه ، فلما تاب قبل ذلك تاب الله عليه ، واحتاج لتعويض ما فات ، فدله الله بهذه الآية على ذلك ، فإنه لما كان استعان على المعصية بقوته ، فلا سبيل لله للقرب إلى إلا إصلاح ما فات بأن يستعمل نعم الله عليه في الخير كما استعملها في الشر ، بأن يعوض ذلك بأن يحول قوته من المعصية إلى الطاعة ويتقدم ذلك الجهاد في سبيل الله .

 

فالوسيلة كل عمل صالح يتوصل به العبد إلى إعادة الصلة بينه وبين مولاه ، فيتقرب به إليه ، والمقصود بها وفي هذا السياق خصوصا الدعاء ، لأن المسلم بالدعاء يتوصل إلى ما لا يتوصل إليه ، ويتدارك ما فات ، يقول سبحانه (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [45]، وقال تعالي (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء/ 57)

 

 وعلى وجه العموم فإن من أفضل الوسائل للتقرب إلى الله الصيام والقرآن ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ)[46]

 

وعلى وجه الإجمال فإن العارفين بالله عبروا عن الوسيلة بـأنها (الرضا بالقضية / والصبر على الرزية ، والمجاهدة في سبيله ، والصبر على عبادته)[47] .

 

فإذا كانت" الوسيلة "هي العمل الصالح الذي يتقرب به العمل إلى رضوان الله ، فهي كذلك الجزاء الذي ينعم به العبد عندما ينال رضوان الله ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ r يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)[48]

 قال المباركفوري (الوسيلة في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به وجمعها وسائل ، يقال وسل إليه وسيلة وتوسل والمراد به في الحديث القرب من الله) [49]، قال المناوي (أي اتقوه بترك المعاصي وابتغوا إليه بفعل الطاعات من وسل إلى كذا تقرب إليه ، وإنما سميت وسيلة لأنها منزلة يكون الواصل إليها قريبا من الله ، فتكون كالوصلة التي يتوسل بالوصول إليها والحصول فيها إلى الزلفى منه تعالى والانخراط في غمار الملأ الأعلى)[50].

 

أما الحض على الجهاد بعد التوبة من الحرابة ، فهو من باب واسع لاستعمال القوة والمنعة التي أنعم الله بها على المحارب في الخير بعدما مضى زمن وقد أضاعها في الشر ، فلعله بذلك يكفر عن سفك الدم الحرام ، ولعله يتصدق بالغنيمة ليكفر عن سلب أموال الناس بالباطل وهكذا .

 قال تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (169) ، قال رسول الله r (لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا)[51]

 

 وقد تنبه الفضيل بن عياض لقصيدة عبد الله بن المبارك حين لامه على أنه بعدما تاب اعتكف في الحرمين ليكفر عما فعل من  قطع للطريق ونسي أن يسلك طريق الجهاد في سبيل الله ، فقال عبدُ الله بنُ المُباركِ :-

1-  يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا           لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ

2-  مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ[52]             فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ[53]

3-  أو كان يُتْعِبُ خيلَهُ في باطلٍ[54]              فخيولُنا يومَ الصَّبِيْحَةِ تَتْعبُ[55]

4-  رِيْحُ العَبِيْرِ لكمْ ونحنُ عبيرُنا               رَهْجُ السَّنابكِ والغبارُ الأطْيبُ[56]

5-  ولقد أتانا مِنْ مَقالِ نبيِّنا                   قَوْلٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكْذَبُ

6-  لا يَسْتَوِي وغُبارُ خَيْلِ اللهِ في                أَنْفِ امرئٍ ودُخَانُ نارٍ تَلْهَبُ

7-  هذا كتابُ اللهِ ينطِقُ بَيْنَنا                    ليس الشَّهيدُ بميِّتٍ لا يُكْذَبُ[57]

 

قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (36) نفي لأن يكون للكافرين وسيلة لطلب مرضاة الله تعالى ، ولم يسلموا ، والمعنى أن الكافر المحارب لو استفاد من أحكام التوبة من جريمة الحرابة قبل القدرة عليه في الدنيا فإنه لن يغفر الله له يوم القيامة ، بل تظل ذنوبه معلقة في رقبته ليحاسب عليها يوم القيامة بخلاف توبة المسلم ، فإنها تسقط الحد عنه في الدنيا ويعفو الله عنه يوم القيامة .

 

فأهل الحرابة غالبا ما يكونون من الكافرين الناقضين للعهد والميثاق ، الخارجين على سلطان الشريعة ، ولذلك يستحلون لأنفسهم ما يفعلونه من عدوان على المسلمين أو المعاهدين لهم وإن كانوا أهل ملتهم ، باعتبار أن من ليس معهم فهو ضدهم ، فلو أنهم جمعوا من أعمال الغصب والعدوان كنوز الأرض كلها ، وجاءوا بها ليفتدوا بها من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ،  ولهم عذاب أليم ، وكان يقبل منهم أقل من ذلك لو أنهم آمنوا بالله ورسوله ، فعن نَبِيَّ اللَّهِ r كَانَ يَقُولُ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ)[58]، وفي رواية يقول الله (أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي)[59]

 

 في حين أن المسلم مهما اقترف من ذنب فإنه يتخلص من عذاب الله تعالى بشهادة أن لا إله إلا الله ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ ، فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ – التي فيها لا إله إلا الله - فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ)[60].

 

قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (37) بيان لمدى عجزهم وقد أسخطوا الله عليهم ، فلم ينالوا منه غير العذاب ، ولم يقدموا لأنفسهم وسيلة يستنقذون بها أنفسهم من النار ، فليس معهم شيء يفتدون به ، مهما قدموا ، ولم يكن الإسلام هو وسيلتهم للتقرب إلى الله .

 

 في حين أن من أسلم إلى الله ، فإن الله يتوب عليه بعد أن يمحصه من ذنوبه بالنار إن لم تمحص بالتوبة ، فعن طلق بن حبيب قال كنت أشد الناس تكذيبا بالشفاعة فسألت جابرا فقال يا طليق سمعت النبي r يقول (يخرجون من النار بعد دخول ونحن نقرأ الذي تقرأ)[61]، وفي رواية (عن طلق بن حبيب قال لقيت جابر بن عبد الله وكنت أشد الناس تكذيبا بالشفاعة فقرأت عليه كل آية في القرآن وعد الله أهلها الخلود في النار فقال لي يا طليق أتراك أعلم بكتاب الله وسنة نبيه مني؟  قلت لا قال فصمتا وأشار بيديه إلى أذنيه إن لم أكن سمعت محمدا يقول يخرجون من النار ونحن نقرأ الذي تقرأ وإن الذي تقرأ هم المشركون هم أهلها قلت ومن هؤلاء القوم قال قوم أصابوا فعذبوا بذنوبهم ثم أخرجوا)[62].


 

[1] ) معجم ألفاظ القرآن الكريم ج 2 ص 68

[2] ) لسان العرب ج  1 ص  305

[3] ) دون ثائرة (هياج) ولا ذحل (ثأر) ولا عداوة .

[4] ) تفسير القرطبي ج 6 ص 151

[5] ) تفسير القرطبي ج 6 ص 151

[6] ) بداية المجتهد و نهاية المقتصد لابن رشد الحفيد ج2ص455 من أروع الكتب التي قرأتها ولم أبلغ بعد بعض وعشرين سنة

[7] ) تفسير أحكام القرآن للجصاص ج 4 ص 51

[8] ) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 594 ، الشرح الصغير للدردير 4 / 491 ، الكبائر للذهبي ص100 ، كبيرة 270 -الشيخ سيد سابق : فقه السنة ج 2 ص 450 – سعود بن عبد العالي البارودي العتيبي : عضو هيئة التحقيق والإدعاء العام - فرع منطقة الرياض - الطبعة الثانية 1427 - الموسوعة الجنائية الإسلامية المقارنة بالأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية ج1 ص 481 

[9] )  المغني ج20 ص 290

[10] )  المغني ج20 ص 290

[11] ) حيث فصل الجصاص الحجج التي تؤكد أن الردة ليست بشرط لإيجاب حد الحرابة علي المحاربين

[12] ) الشرح الكبير لابن قدامة ج10 ص 303

[13] ) المغني ج20 ص 289

[14] ) فقه السنة ج 2 ص 449

[15] ) بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص 455

[16] ) المغني ، بداية المجتهد ، فقه السنة ، المراجع السابقة

[17] ) https://www.emaratalyoum.com/local-section/accidents/2012-08-10-1.504111

[18] ) حرابة..محاكمة: آدم عيسى علي -  م ع/غ إ/إعدام /20/2003م -  السودان - القانون الجنائي لسنة 1991م – جريمة الحرابـة - المادة (167) من القانون

المبدأ:الركن المادي في جريمة الحرابة الخروج لقطع الطريق أو إرهاب العامة ، وينظر للقصد وقت الخروج لأن القصد اللاحق يغير من وصف الجريمة .

 

خلاصة الوقائع بتاريخ 3/10/2000م وعندما كان المجني عليهم عائدين من سوق نيالا إلى قريتهم مهاجرية وعند الكيلو 18 إلى الجنوب من طريق زلط (نيالا-كاس) ظهر لهم المتهمان الأول والثاني راكبين على ظهر جملين وسألا المجنى عليهم عن وجهتهم وقبيلتهم ثم انصرفا وظهرا مرة أخرى وكلاهما مشهر سلاحه (بندقية كلاش) وطلبا من المجنى عليهم تسليمهما الجمال وما معهما من أموال وأمتعة وعندما رفضوا ذلك أطلقا النار عليهم وأصيب المجني عليه سعيد عبد الله مطر بطلقه في رأسه أودت بحياته في الحال وأصيب كل من الزين عبد الله وعثمان حبيب بطلقة في رجله اليمنى وسببتا لهما أذاً بالغاً وتمكن المتهمان من أخذ الجمال والمال والأمتعة ووليا هاربين وأبلغ الشرطة المدعو آدم خبورة وبتتبع أثر الجناة بفريق سليمان جمعون وفريق المدعو عيسى عبد الكريم تم القبض عليهما كما تم القبض على من آواهما وهما عيسى عبد الكريم والهادي أحمد وصدر في مواجهة بقية المتهمين الحكم آنف الذكر

 

القاضي: عبد العزيز الرشيد التاريخ: 14/3/2003م

أدانت محكمة جنايات المتهمين (1) آدم عيسى علي (2) ضحية سليمان مهل أدانتهما تحت المواد (130) و (139) و (175) من القانون الجنائي 1991م والمادتين (26) و (42) من قانون الأسلحة والذخيرة وحكمت عليهما تحت المادة 130... وتحت المادتين (26) و (42) أسلحة بالإعدام شنقاً حتى الموت إعمالاً لمنشور رئيس الجمهورية رقم 175 باعتبار دارفور منطقة منزوعة السلاح.

 

 لقد أكد ثلاثة من شهود الاتهام وهم الزين عبد الله مطر وعثمان حبيب وعلي أحمد البشير أكدوا أن المتهم الأول والثاني قد اعترضا طريقهم عند عودتهم من سوق نيالا على بعد 18 كيلو من شارع الزلط وطلب منهم تسليم أموالهم وأمتعتهم وجمالهم التي يركبونها ولما رفضوا تسليمها أطلقا عليهم أعيرة نارية من أسلحتهم الكلاش التي كانوا يحملونها وأصابا المجني عليه سعيد بطلقة في رأسه أودت بحياته في الحال وأصيب كل من الزين عبد الله وعثمان حبيب بطلقة في رجله اليمنى سببت لكل منهما أذى جسيماً وأخذا الجمال وأمتعة المجني عليهم ووليا هاربين

 

القاضي: عبد الله الفاضل عيسى التاريخ: 6/5/2003م : (صحيح أن البينة الكافية الموضوعية لإدانة المتهمين واردة لكني لا أكيف فعل المتهمين (المدانين) حرابة لأنهما لم يخرجا لقطع الطريق وقطعا ليس لإرهاب العامة فهما في مسيرهما وجدا المجني عليهم أمامهما وسارا معهما بعض الوقت ثم أخرجا سلاحهما لطمعهما في الجمال واكتفيا أخيراً بالأمتعة دون الجمال فهذه سرقة وسرقة مشددة بالتالي هي نهب أما حيازة السلاح دون ترخيص فنعم وعقوبتها الإعدام نعم – تعزيراً وهذا يستتبع أخذ موافقة رأس الدولة أما وأن الأمر لا يشكل حرابةً بل هو نهب فلأن خروج الجاني بقصد مصاحب ينعقد عند الخروج شرط لقيام جريمة الحرابة وقد اشترط المشرع لإحدى صورتي الحرابة قطع الطريق وقطع الطريق لا يكون إلا بالخروج إليه داخل أو خارج العمران مع الوضع في الاعتبار طبعاً تعذر الغوث فبدونه أيضاً لا تتحقق الحرابة ، قال الشهيد عودة رحمه الله على ص 638 من التشريع الجنائي ح2 (وجريمة الحرابة وإن سميت بالسرقة الكبرى إلا أنها لا تتفق تمام الاتفاق مع السرقة فالسرقة أخذ المال خفية والحرابة هي (الخروج) لأخذ المال على سبيل المغالبة وركن الحرابة هو الخروج لأخذ المال سواء أخذ المال أو لم يؤخذ ) على ذلك فالأمـر يتوقف على قصد الجاني وقت خروجه لا ما تحقق بعد خروجه فإن خـرج بقصـد المال ولم يتحقق أخذ المال فإنه بالحـد الأدنـى قطع الطريق وقد خرج أصلاً قاصداً قطع الطريق ليأخذ المال ، يقول الشهيد على ذات الصفحة الأولى وإذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخاف السبيل ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحداً والثانية إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال وقتل في هذه الحالات الأربع يعتبر الشخص محارباً ما دام قد خرج بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة ) وهنا يؤكد الشهيد عودة على الخروج كركن أساسي ومصاحب للخروج بقصد أخذ المال مغالبة ، وهذا واضح ارتباط الخروج بالقصد منه وقت الخروج ، ويؤكد صاحب الفقه على المذاهب الأربعة على الخروج إلى الطريق العام حيث قال ص 909 من ح5 (اتفق الأئمة على أن من خرج في الطريق العام وأشهر السلاح مخيفاً لعابر السبيل خارج المضر )وقال صاحب الفقه الإسلامي وأدلته ح6 ص 129 (ركنه: هو الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع المرور )ومن هذا يتضح أيضاً أن الخروج مصحوب بقصد الجاني منه وهو أخذ المال ولتطبق ذلك لابد من بينة تثبت هذا القصد ولا يفترض القصد بل يثبت بكل وسائل الإثبات على ذلك

 

وبالرجوع للوقائع المعطاة فإن الثابت أن الجناة والمجني عليهم إنما كانوا رفقة جمعهم الطريق وليس من بينة تقول أن الجناة قد علموا مسبقاً بحركة المجني عليهم وخرجوا إليهم (قطعاً لطريقهم) بقصد أخذ أموالهم ...فلا جدال في قيام جريمة السرقة والقتل وحيازة السلاح بدون ترخيص وهذه كلها جرائم تعزيرية لأن السرقة مع استعمال القوة الجنائية نهبْ والقتل بقصد الحصول على المال إن لم يكن في حال الخروج المصحوب بذات القصد فإنه يظل قتلاً عمداً وراجع تعريف الحرابة في (الفقه الإسلامي وأدلته ج6 ص 129) فالحرابة إذا هي كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه تتعذر معه الاستغاثة عادة) فالقصد هنا مصاحب للخروج هو قصد المال أما إذا كان الخروج بَدْءً لارتكاب جريمة ضد النفس فهي ليست حرابة لعدم قيام قصد تحقق الخروج (الحصول على المال(

 

القاضي: محجوب الأمين الفكي  : التاريخ: 1/6/2003م أوافق زميلي عبد الله الفاضل فيما ذهب إليه أنه لا بد أن يكون الخروج على المارة بقصد أخذ المال علـى سبيل المغالبة ولا بد أن يصاحب القصد ذلك وبالتالي يجب أن يثبت هذا القصد ابتداء على النحو الذي تفضل الأخ عبد الله الفاضل في إبانته

 

القاضي: محمد إبراهيم محمد التاريخ: 2/6/2003م  ما زلت عند رأيي أن هذه الوقائع تشكل جريمة حرابة – وأؤيد رأي مولانا عبد العزيز الرشيد

 

الأمر النهائي:1- تأييد الحكم الصادر من محكمة الموضوع: 2- مخاطبة السيد رئيس جمهورية السودان بشأن عقوبة الإعدام شنقاً حتى الموت تعزيراً

عبد العزيز الرشيد - قاضي المحكمة العليا - رئيس الدائرة - 18/6/2003م

[19] ) رواه أبو داود ج11 ص 442 رقم 3799 وصححه الألباني : صحيح وضعيف سنن أبي داود ج9 ص 369 رقم 4369

[20] ) خواطر / سيد قطب  في ظلال القرآن ج2 ص 354

[21] ) المعجم الوجيز – مجمع اللغة العربية - ص 471

[22] ) معجم ألفاظ القرآن الكريم ج 4 ص 334

[23] ) رواه البخاري ج13 ص 91 رقم 3871

[24] ) خلافا لما ذكره ابن قدامة المقدسي ، وسوف نعرض له بعد ذلك

[25] ) تفسير الطبري ج10 ص 279

[26] ) تفسير الطبري ج10 ص 282

[27] ) تفسير الطبري ج10 ص 282

[28] ) سنذكره في الفقرة بعد التالية

[29] ) د عبد القادر عودة : التشريع الجنائي في الإسلام ج1 ص 389

[30] ) في هذا المعنى : د حازم أبو الحمد حمدي الشريف مدرس الشريعة الإسلامية بكلية حقوق أسيوط ، التكييف الفقهي للجرائم الإرهابية في ضوء جريمة الحرابة  ـ منشور في المجلة القانونية العدد الثامن والثلاثون لسنة ٢٠٢٣م – الإصدار الأول ١/٢ ص  83

[31] ) المغني ج20 ص 303

[32] ) التشريع الجنائي في الإسلام ج4 ص 226

[33] ) زكريا السنيكي : أسنى المطالب شرح روض الطالب لابن المقري اليمني :  ج20 ص 147 فقه شافعي

[34] ) سعود بن عبد العالي البارودي العتيبي عضو هيئة التحقيق والإدعاء العام بالرياض : الموسوعة الجنائية الإسلامية المقارنة بالأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية  ج1 ص 363

[35] ) التشريع الجنائي في الإسلام ج4 ص 225

[36] ) التشريع الجنائي في الإسلام ج2 ص 17

[37] ) تفسير السعدي ج1 ص 229

[38] ) المحلي ج11 ص 127

[39] ) رواه البخاري ج21 ص 97 رقم 6323

[40] ) الموسوعة الفقهية الكويتية ج12 ص 286

[41] ) الموسوعة الفقهية الكويتية ج12 ص 286

[42] ) رواه البيهقي شعب الإيمان ج5 ص 468 رقم 7316 ، انظر ترجمة الذهبي له في سير أعلام النبلاء ج8 ص 423

[43] ) قال ابن قدامة في الغني (والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها‏,‏ ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال)

[44] ) رواه أبي داوود في سننه و أحمد في مسنده و البيهقي في سننه ج15 ص 386

[45] ) (الفرقان/77)

[46] ) رواه أحمد ج11 ص 199 رقم 6626

[47] ) تفسير السلمي (حقائق التفسير) ج1 ص177

[48] ) رواه مسلم ج2 ص 327 رقم 577

[49] ) تحفة الأحوذي ج10 ص 57

[50] ) فيض القدير ج4 ص 143

[51] ) رواه البخاري في الأدب المفرد ج1 ص 106 رقم 281 ، رواه النسائي ج10 ص 158 رقم 3059 وصححه الألباني : صحيح الأدب المفرد ج1 ص 124

[52] ) لبكائه من خشية الله في الصلاة والذكر ومواضع الخشية

[53] ) أي رقابنا تتلون بلون الدماء أثناء القتال في سبيل الله

[54] ) أي كان يركب خيله ليقطع الطريق

[55] ) لأن الخيل نواصيها الخير تجاهد مع المجاهدين يوم الصبيحة حين يغيرون على الأعداء كما في قوله (والعاديات ضبحا فالمغيرات صبحا)

[56] ) يعقد مقارنة بين يتعطر وهو في المسجد حيث تحب الملائكة طيب الريح ، بينما المجاهد في سبيل الله يلتصق به العرق والتراب والغبار

[57] ) (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران/169)

[58] ) رواه البخاري ج20 ص 204 رقم 6057

[59] ) رواه البخاري ج20 ص 221 رقم 6072

[60] ) رواه الترمذي ج9 ص 232 رقم 2563 وصححه الألباني : الجامع الصحيح ج1 ص 266 رقم 2657

[61] ) رواه البخاري في الأدب المفرد ج1 ص 285 رقم 818 وصححه الألباني : صحيح الأدب المفرد ج1 ص 308

[62] ) مشكل الآثار للطحاوي ج12 ص 371 رقم 4961 ، الدر المنثور للسيوطي ج 3ص374

  • الاثنين PM 03:04
    2025-12-01
  • 37
Powered by: GateGold