إعجاز القرآن في القضايا المحورية لعلم الاجتماع - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 441991
يتصفح الموقع حاليا : 94

البحث

البحث

عرض المادة

إعجاز القرآن في القضايا المحورية لعلم الاجتماع

إن دراسة الإعجاز القرآني وعلامات التحدي في القضايا الاجتماعية ليس أمراً مستحدثاً وإن بدا كذلك، فهي ليست بدعاً في النوع والمضمون من أشكال الإعجاز الأخرى، وقد ذكر علماؤنا الأقدمون أن من وجوه الإعجاز تحقيق الأحكام للمصالح وصدق الأخبار القرآنية وإثبات صحتها عند انطباقها على الواقع، وذلك يشمل كافة الحقائق المتعلقة بالعلوم طبيعية كانت أو إنسانية أو اجتماعية، وليس ذلك فحسب بل إن أقدم نظريات الإعجاز القرآني على الإطلاق قد نصت على الإخبار عن حقائق مستقبلية في بعض الشرائح الاجتماعية، وذلك يعني فيما يعني أن هذا النوع قد كان سابقاً لكل أشكال الإعجاز الأخرى وإن لم يتبلور في صورة منهجية متكاملة.

وقد تناولت هذه الورقة بعض القضايا المحورية في علم الاجتماع التي تمت معالجتها في القرآن بوسائل معينة وتمت معالجتها في الغرب بوسائل أخرى – فتكشف الفرق البعيد والبون الشاسع بين المعالجتين وظهر الإعجاز في هذا الجانب الذي لا يمكن أن يعالجه بشر كما عالجه القرآن مهما بلغ من العلم والدراية والحنكة والفطنة.

كما تناولت هذه الورقة القضايا المنهجية اللازمة لدراسة هذا النوع من الإعجاز، فبيّنت أنواع الإعجاز بشكل منهجي عام ومنهجية دراسة الإعجاز المتعلق بالحقائق في إطارها المعرفي العام ونظام السنن والقوانين الاجتماعية في القرآن.

مقدمة:-

لم يقتصر التحدي القرآني على وجه دون وجه ولا على العرب دون سواهم، بل أخبر الله تعالى في كتابه العزيز أن الخليقة كلها لو اجتمعت فتعاضدت وتناصرت وتعاونت على الإتيان بمثل القرآن في كافة جوانبه – لما استطاعت، قال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا)(1)

هذا وقد ربط الله تعالى- في بعض المواضع – الإعجاز بالحقائق وانكشافها فقال: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)(2)أي: كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه ولما يأتهم تأويله أي ولم يحصلوا ما فيه من الحقائق الصادقة والأحكام الجالبة لمصالح العباد.

وهذه الآيات الدالة على الإعجاز تنبه على عدة أمور منها الآتي:

1- إن المعاني الصادقة في القرآن لا يمكن افتراؤها، والافتراء يقع على المعاني دون الألفاظ والنظوم، وذلك أن الذي يحاول الافتراء لا يحيط بعلم الله وحقائقه وكافة معانيه حتى يأتي بمثل القرآن، والقرآن قد أنزل بعلم الله فجعل أمثاله عبراً لمن تدبرها وأوامره هدى لمن استبصرها وشرح فيه واجبات الأحكام وفرق فيه بين الحلال والحرام وضرب فيه الأمثال وقص فيه غيب الأخبار وبيّن فيه الحقائق الصادقة المطابقة للواقع الموصوف، وذكر أنه ما فرط فيه من شيء(3) وقد بين للناس في هذا القرآن من كل مثل احتجاجاً بذلك كله عليهم وتذكيرا لهم وتنبيها على الحق ليتبعوه ويعملوا به (4).

2- قال تعالى في آية أخرى متحدياً البشر: ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) (5) أي إن عجزتم عن الإتيان بمثل معانيه الصادقة التي لا يمكن افتراؤها وادعيتم أنها مفتراة فتحولوا إلى الأسلوب والألفاظ والنظوم وإن جاءت حاوية لكل معنى باطل مفترى، والافتراء أمر يتعلّق بالمعنى دون الألفاظ والنظوم، وبذلك يكون المعنى: إن كنتم تزعمون أني قد وضعت القرآن وافتريته وجئت به من عند نفسي ثم زعمت أنه وحي من الله – فضعوا أنتم عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن (6)إلا هذه الأساليب والنظوم نفسها قد أعجزتهم معارضتها وأخرستهم مشاكلتها(7).

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر) ولما كان القرآن دائم الهدي فإنه دائم الإعجاز أيضا، وقد تكشف للعلماء مع تعاقب الأزمان أنه معجز في فصاحته وبلاغته وفي إحكام أحكامه وبيان حلاله وحرامه وفي جودة نظمه وصحة معانيه وإخباره بالغيب وفي إشاراته إلى حقائق علمية شديدة الدقة سواء في الجانب الطبيعي أو الإنساني أو الاجتماعي وغير ذلك من وجوه الإعجاز

ولا شك أن الناظر في علم الإعجاز القرآني عبر القرون – ليجد أن هذا العلم الجليل قد اشتمل على رؤى متباينة ومناهج مختلفة، وهذا الاختلاف الواضح بين المناهج إنما يرجع إلى تعدّد جوانب الإعجاز وتكاثر موضوعاته من جهة، وإلى تباين خصائص الناظرين واختلاف بيئاتهم الفكرية من جهة أخرى، ولا شك أن هذا التنوّع المتفرد في إعجاز القرآن نفسه – من شأنه أن يؤثر في هذه المناهج والنظريات المختلفة ويسبغ عليها علامات معينة وسمات مخصوصة، فضلا عن أن هذه النظريات والمناهج التي تباينت أبعادها واختلفت أشكالها – وإن نظرت إلى موضوع واحد – قد تأثرت أيما تأثر بأفكار أصحابها وما يحيط بهم من عوامل ثقافية أو فكرية، ولا تكاد تلك النظريات تنفك عن هذه العوامل أو تجد دونها مناصاً.

ورغم أن القرآن ظاهر الإعجاز بيَّن التفرد واضح التميز إلا أن هذا الأمر الذي تحسّه النفس إحساساً دون أن ترجع فيه إلى سبب معين أو علّة مضبوطة – يختلف اختلافاً بيِّنا عن البناء العلمي الذي لا يعّول فيه على الأمور الذاتية التي مردّها إلى إدراك النفس ومرجعها إلى الشعور الذاتي، حيث لا يكفي في العلم أن تنصب له إحساساً ذاتياً أو دليلاً مجملاً، بل لابدّ فيه من وضع الأيدي على التفاصيل والدقائق والجزئيات حتى تقوم عليها الأدلة وتنهض البراهين، وليس ذلك بالأمر السهل، ولهذا يصف القاضي الباقلاني هذا العلم بأن تمييزه شديد والوقوف على اختلاف فنونه متعذر، وذلك لتعلقه بعلوم غامضة الغور عميقة العقر كثيرة المذاهب(7)

ولما كان القرآن العظيم معجزا من جميع الوجوه، فإنه ينبغي قي هذا المضمار جمع هذه الوجوه المدركة في صور كلية تندرج تحتها الجزئيات، يقول ابن عطية: (وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه)(8).

ويقول ابن تيمية: (التعجيز ثابت في لفظه ونظمه ومعناه)(9).

ويقول ابن كثير: ( القرآن معجز من وجوه كثيرة منها فصاحته وبلاغته ونظمه وما تضمّنه من الأخبار الماضية والمستقبلة وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية)(10).

ورغم اختلاف التعبير وتباين الألفاظ في تحديد وجوه الإعجاز عند العلماء إلا أن هذه العبارات جميعها تحصر الإعجاز في ثلاثة وجوه هي:-

• صحة المعاني: أي مطابقة هذه المعاني للواقع في الأخبار، وتحقيقها للمصالح في الأوامر ودرء المفاسد في النواهي.

• فصاحة اللفظ: أي حلاوة الصوت القرآني وبهجته في النفس وقوة أثرهـ فيها.

• جودة النظم: أي قوة الارتباط وحسن السبك ودقة التراكيب.

وهذه الوجوه – وإن ظهرت منفصلة عن بعضها – إلا أنها شديدة الترابط والتشابك، بحيث لا يمكن فصلها عن بعضها أو تجزئتها أو إهمال بعض الجوانب فيها وإذا كان هذان النوعان الأخيران قد درسا عند علمائنا الأقدمين دراسات مستفيضة – فإن النوع الأول لم يدرس بصورة كافية، وإن كانت هنالك إشارات كثيرة له في تراثنا الإسلامي، ولكن لما تفجرت العلوم الحديثة المتعلقة بالكون والتي تناولت معاني القرآن وحقائقها اهتم العلماء بهذا النوع من الإعجاز كل حسب مجاله

بدايات دراسة الإعجاز في المضامين الاجتماعية القرآنية:-

إن أقدم النظريات في دراسة الإعجاز القرآني على الإطلاق هي نظرية النظّام (ولد عام 160 هـ ) التي اهتمت بالمضامين والحقائق والإخبار بالغيوب، إلا أن هذه النظرية قد أنكرت الإعجاز البلاغي للقرآن وغضّت منه، و كان مفادها: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ليس بمعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا دلالة على صدقه في دعواه النبوة، وإنما وجه الدلالة على صدقه ما فيه من الأخبار الصادقة (11) أي: أن الإعجاز كامن في المضامين والمعاني القرآنية وما تشتمل عليه من الحقائق، سواء كانت هذه الحقائق ماضية أو حاليّة أو مستقبلية (12) والمقصود بالأخبار الذي تناولتها هذه النظرية هو التعبير عن الحقائق الصادقة التي لا يدركها الإنسان بعقله المجرد كما لا يدركها إدراكه للأمور البسيطة التي يمكن أن يعلمها كلّ أحد، ولا عبرة البتّة-حسب هذه النظرية – بالأسلوب والنظم وخلافه من الأمور البلاغية في إثبات إعجاز القرآن وتميزه.

وإذا كان النظّام قد قصر الإعجاز على الإخبار بالغيب فقد فصّل الخياط ذلك، وذكر قضايا متعلقة ببعض الشرائح الاجتماعية مثل:

أ-التمكين والاستخلاف للمؤمنين (وذلك عند التزامهم بقواعد الضبط التي حددها القرآن وثبوتهم عليها ).

ب-قتال الأعراب المتخلفين (وهم شريحة اجتماعية مكونة من بعض المنافقين ) لبنى حنيفة في اليمامة والفرس والروم.

ج-امتناع أهل الكتاب(وهم شريحة اجتماعية معروفة ) عن المباهلة

د-عدم تمني اليهود للموت.

هـ-الإخبار عما في نفوس قوم.

و-ما سيقوله قوم.

ويبدو واضحاً أن هذه النظرية لم تكن في الجانب البلاغي من الإعجاز أو متعلقة بالإطار النظمي له بحال، بل كانت على العكس تماماً، وهذا ما يجعلها أمراً متفرّداً وصوتاً ناشزاً في دراسة الإعجاز داخل تراثنا الإسلامي الذي اتجه بكلياته نحو دراسة الإعجاز في جانبه البلاغي والنظمي.

وقد بقي هذا الجانب المضيء من نظرية النظّام بكراً، لم يكتب فيه أحد داخل التراث الإسلامي، ولم تفرد له المصنفات والمؤلفات كما هو شأن الإعجاز البلاغي الذي صار فيما بعد علماً قويّاً مؤسّساً له أهدافه واتجاهاته وتياراته وقواعده ومناهجه، ورغم أن بعض علمائنا الأقدمين قد أيّدوا الإعجاز الذي قال به النّظّام، إلا أنهم لم يكترثوا له كثيراً، ولم يؤلّفوا فيه.

ورغم كلّ ما قيل داخل تراثنا الإسلامي من آراء مناوئة لنظرية النظام، ورغم كلّ ما يقال عنها الآن، ورغم كلّ ما تحمل في طياتها من أخطاء وأغلاط نقر ببطلانها ولا يسعنا إلا إنكارها – فإن الجانب المشرق منها يبقى مشرقاً، وإن أحاطت به الظلمات من كلّ صوب. وذلك الجانب الذي نشير إليه ونقرّ بإشراقه وجودته إنما هو جانب الإخبار عن الحقائق الغيبية التي قصر النّظّام الإعجاز عليها، هذا مع اعتراضنا –بالطبع- على هذا القصر من حيث المبدأ، إذ أن للإعجاز عندنا وجوهاً متعددة وطرقاً مختلفة، ولا يقتصر على جانب الحقائق أو جانب البلاغة منفردين

ومن المعلوم أن المضامين لا تظهر إلى حيّز الوجود إلا عبر ما يدلّ عليها، وهذا الجانب الدال فيه – من الإعجاز ما لا يخفى، وقد تناوله علماؤنا الأقدمون وبسطوا القول فيه، ولهذا كان لقصر النظام للإعجاز على المعاني والحقائق الغيبية أثره الكبير على نشؤ علم الإعجاز البلاغي، يقول الرافعي: (لما فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة وخيف أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد أو العادة وعلى الحشوة من أهل الكلام الذين لا رسوخ لهم في اللغة ولا سليقة لهم في الفصاحة ولا عرق لهم في البيان – مسّت الحاجة إلى بسط القول في فنون من فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه، فصنف أديبنا الجاحظ كتابه نظم القرآن)(13).

ويقول الجاحظ – وهو تلميذ النظام – عن كتابه (نظم القرآن) هذا: (فلم أدع فيه مسألة……. لأصحاب النّظام ومن نجم بعد النّظام ممن يزعم أن القرآن حقّ وليس تأليفه بحجة وأنه تنزيل وليس ببرهان ودلالة)(14).

ولعل الذي عطل النظر إلى هذا النوع من الإعجاز هو اجتراء النظام في الجهة الأخرى على إنكار الإعجاز البلاغي الذي هو في عداد المسلمات عند الأمة، إلا أن إعجاز المعاني المتعلق بالأخبار والأحكام نوع من الإعجاز شديد الأهمية ليس في إثبات صحة النبوة فحسب بل هو أمر يخدم العلوم أيضا، إذ أن العلوم نفسها في حاجة إلى وحي السماء

حاجة العلوم المعاصرة إلى الوحي:

ذكر علماؤنا الأقدمون أنّ الوحي يشتمل على كافة العلوم إما تفصيلاً أو تأصيلاً، أي: إما بتفاصيلها أو بأصولها، ولا زال الوحي يؤكد أن عجائبه لا تنقضي، وأنّ العلماء كلما أمعنوا النظر فيه خرجوا بحقائق علمية في غاية الدقة.

ولما كان الأمر كذلك فقد فقدت المعرفة – باستبعاد الوحي – رافداً من أهم روافدها فدخلت في أزمة خانقة، ولم تقتصر هذه الأزمة على العلوم الاجتماعية والإنسانية التي باتت هذه الأزمة فيها واضحة ظاهرة، وإنما تعدتها إلى العلوم الطبيعية التي يتوهم الكثيرون أنها بمعزل عن هذه الأزمة من جهة وأن علاقتها بالدين والوحي ليست بالمباشرة كعلاقة العلوم الاجتماعية والإنسانية من جهة أخرى.

أ. حاجة العلوم الطبيعية للوحي:

يتوهم الكثيرون أنّ العلوم الطبيعية لا حاجة لها بالوحي وذلك للآتي:

• الارتباط الشديد بين هذه العلوم وبين الواقع المادي، إذ أن طبيعة معطيات تلك العلوم مادية يعتمد إدراكها على التجريب والقياس الذي يمكن به دراسة الواقع المادي بصورة ممتازة. وهذا أمر لا خلاف عليه.

• تشهد هذه العلوم يوماً بعد يوم تطوراً هائلاً وتقدماً ممتازاً، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أنها لا تعاني أزمة منهجية ولا معرفية.

ولكن هذه الأمور مع كونها صحيحة في النظر الجزئي – إلا أنها قاصرة قصوراً شديداً عن التصور الكلي الصحيح، والحق أن من يقول بذلك إنما يتوهم أن هذه العلوم حرفاً يدوية صرفة لا تقتضي تصوراً كلياً للأشياء، يقول البروفسير محجوب عبيد عالم الفيزياء الشهير ” هذا التصور قد يكون مقبولاً حين كان العلم في بداياته يتدرج نحو صقل طرق القياس وتطوير سبل الاستنباط والاستدلال والبرهان حين كان هذا العلم أقرب إلى حنكة الحرفة منه إلى عمق الفكر والمبدأ، ولكن التطورات المعاصرة في الفيزياء النظرية وعلم الكون والهندسة الوراثية قد تجاوزت ذلك الموقف الشكلي وقربت تطوراتها قضايا هذه العلوم من موضوعات البداية والنهاية وأطلت به على مشارف قضايا كبيرة في العقيدة والفلسفة، وهذه التطورات قد أحرجت الموقف الشكلي البسيط الذي يفصل بين الحقائق العلمية والمذاهب الفكرية وفضحت ضعفه أمام الأبواب المفتوحة نحو إشباع طموح الإنسان في الوقوف على أسرار الخليقة وطبيعة الأشياء)(15).

ولما كان الأمر على الوجه الذي ذكرناه فقد اتضح أنّ بالعلوم الطبيعية حاجة ماسة إلى الوحي ومعطياته وإن كانت حاجة العلوم الاجتماعية والإنسانية أقوى وأكبر كما سيأتي، وتتمثل حاجة العلوم الطبيعية للوحي في أمور منها:

*عندما تتحول هذه العلوم من الطبيعة المادية إلى الأطر الكلية الفلسفية فإنها – بطبيعة الحال – تدخل بصورة مباشرة في أسئلة لا يمكن إيجاد حل لها إلا في وحي السماء.

*يؤكد علماء الطبيعيات أنه ليس هنالك من برهان تجريبي قط على صدق أي نظرية علمية تتعلق بالعلوم الطبيعية، فهذه النظريات – وانّ كانت مبنية على الملاحظات والحقائق التجريبية – إلا أنّ تشكيل النظريات يقتضي مفاهيم مترابطة ونسقاً متماسكاً؛ وهنا يدخل التصور الذهني الافتراضي الذي لا يمكن التحقق منه تجريبياً (16).

*رغم أنّ الفكر الغربي قد استبعد المعرفة الغيبية التي مصدرها الوحي وحدد مفهوم العلم تحديداً صارماً – إلا أنّ علماء الطبيعيات في تشكيل نظرياتهم قد وقعوا في مفارقات منهجية، حين لم يتحرجوا من اللجوء إلى غيبيات متخيلة تساعد على فهم المشاهد والمحسوس (17).

ولما كان الأمر كما سبق فليس من المعقول إطلاقاً أن ترفض الحقائق الغيبية التي جاء بها الوحي وكانت من الصدق بحيث لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ثم تقبل أخيلة العلماء وتصوراتهم التي لا يمكن التحقق من صدقها تجريبياً.

ب. حاجة العلوم الاجتماعية والإنسانية للوحي:

إذا كانت العلوم الطبيعية – رغم طبيعتها المادية ورغم دقتها وصحة جزئياتها – في الغالب – قد احتيج فيها إلى معطيات الوحي، فإنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية لهي أكثر حاجة للوحي من تلك العلوم الطبيعية، وتتمثل هذه الحاجة في أمور كثيرة منها:

• إنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية ذات طبيعة تختلف كل الاختلاف عن تلك العلوم الطبيعية، ولأجل ذلك يكثر فيها من التنظير ما لا يكثر في العلوم الطبيعية، الأمر الذي يجعل الإنسان أكثر تدخلاً فيها وأكثر تثبيتاً للأمور الذاتية

• إنّ الصفة العلمية – حسب المفهوم الغربي – في العلوم الاجتماعية والإنسانية مهتزة إلى حد كبير، إذ أن أكثر موادها غير قابلة للتجريب والتحقق العلمي، الأمر الذي يتيح تدخل الأهواء والأخيلة البشرية في تفسير الظواهر تدخلاً مباشراً.

• إنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية لما كانت ذات طبيعة قيمية فقد احتلت المكانة السامية التي كان يحتلها وحي السماء في إرشاد الناس وتوجيههم لما يصلحهم دون الاستعانة بمعطيات هذا الوحي، الأمر الذي جعلها تتخبط تخبطاً شديداً دون أن تصل إلى شيء مقبول.

• إذا كان الوحي يساهم مساهمة فاعلة في تشكيل الرؤى الكلية للعلوم الطبيعية، وإذا افترضنا أنه لا يمكن دخوله في جزئيات هذه العلوم ذات الطبيعة المادية، حيث يمكن إدراك هذه الجزئيات من الواقع المادي المحسوس مباشرة في أكثر الأحيان – فإن هذا الافتراض في العلوم الاجتماعية والإنسانية غير مقبول ابتداء، إذ أن هذه العلوم تحتاج إلى الوحي ليس في تشكيل الرؤى الكلية ولا في بلورة النظريات فحسب بل يتعدى الأمر ذلك إلى جزئيات هذه العلوم وتفاصيلها الدقيقة أيضاً، إذ أن طبيعة بنائها يقتضي ذلك.

• لما لم تجد العلوم الاجتماعية والإنسانية بعد استبعاد الوحي من سلطة مرجعية ترتكز عليها فقد اتخذت هذه العلوم – من العلوم الطبيعية سلطة مرجعية تحاول تقليدها في كل شيء، رغم الاختلاف الكبير بين الطبائع في كلا النوعين من العلوم، ولأجل ذلك ظهرت المفارقة الكبرى في نظريات هذه العلوم (18)الأمر الذي يستوجب إعادة الوحي إلى مضمار المعرفة حتى يخرج هذه العلوم من مآزقها المعرفية.

• لما احتلت هذه العلوم الاجتماعية والإنسانية المكانة العالية التي كان يحتلها الوحي في توجيه الناس وإرشادهم وأصبحت بديلاً له رغم عدم اعترافها بمعطياته – كانت ثمرة ذلك أنها لم تبن نفسها بناء صحيحاً ولا اتخذت سلطة مرجعية مناسبة ولا قدمت حلولاً معقولة للمشكلات خاصة مشكلات العالم الإسلامي المعاصر.

• أخذ العالم الإسلامي علوماً اجتماعية وإنسانية لم تنبع من ذاته، ولم تكن حلاً لمشاكله، وإنما كانت صدى لمشكلات الغرب الخاصة التي عمل على ترويج أنها مشكلات عالمية باعتبار أنه مركز العالم، ولأجل ذلك لم تنجح هذه العلوم في حل مشكلات العالم الإسلامي من جهة بينما ناقشت قضايا تعتبر جانبية في العالم الإسلامي من جهة أخرى.

• عملت العلوم الاجتماعية على تحقيق الأهداف الاستعمارية وفرض المعايير والأنماط الثقافية الغربية بكافة مناهجها وقيمها مع خنق الثقافة المحلية المناهضة.(20)

• لما لم تكن العلوم الاجتماعية والإنسانية علوماً محايدة – فقد أدى اعتمادها في العالم الإسلامي إلى الجهل بالذات وعدم إدراك الفوارق الذاتية لكل من المجتمعات الإسلامية والغربية.

إعجاز السنن الاجتماعية القرآنية: –

لا شك أن الذي يميز السنن والقوانين الاجتماعية القرآنية التي تفسر النشاط الإنساني عموما أنها تقود إلى الحق والصدق واليقين لتمثل علما قاطعا لا تشوبه الأهواء ولا تعتريه الظنون، فيصدق عندئذ التنبؤ من خلال هذه القوانين وتسعد المجتمعات في حياتها الدنيا عند إلتزامها بالأوامر الإلهية المعيارية أو تشقى بمخالفتها، إذ أن السنن القرآنية في طبيعة الكون والأصول الإنسانية الاجتماعية ثابتة محايدة ليس لها من تغيير ولا تبديل ولا تحويل، وذلك بخلاف النظريات والقوانين الاجتماعية الوضعية ذات الأصول المتحيزة التي لم تسلم من الأهواء والظنون، وهذا الجانب الذي يثبت فاعلية القوانين والسنن القرآنية وتميزها يشكّل جانبا من جوانب الإعجاز العميقة التي تتجلى في صدق المعاني والقوانين القرآنية عند انطباقها على الواقع الإنساني والاجتماعي بصورة عامة

ولا شك أن استخلاص السنن والقوانين الاجتماعية القرآنية ليس بالأمر اليسير الذي يستطيع أن يقول فيه كل من شاء ما شاء، بل لا بد من مختصين يحللون عوامل الربط والتسبيب والاطراد والانتظام في الظواهر الاجتماعية فضلا عن المعرفة بقوانين الاستنباط من الواقع من جهة ومن القرآن من جهة أخرى، وذلك يقتضي المعرفة الدقيقة بالمفاهيم الاجتماعية القرآنية الكلية وما يندرج تحتها من مفاهيم جزئية أو أقل كلية وما ينشأ من تفاعلات بين هذه المفاهيم التي تترتب بصورة منهجية فتشكل النظريات المفسرة للفعل الاجتماعي

ولاشك أن الأحكام القرآنية قد جاءت لتحقيق السعادة، ولهذا فقد عملت على تحصيل المصالح وتعطيل المفاسد في كافة أشكال الفعل الإنساني، وهذا هو وجه الإعجاز في ذلك حيث أن الأحكام القرآنية محققة لمصالح العباد بصورة لا يمكن أن يحقّقها أيّ تشريع دينيّ أو بشريّ آخر. ولما أكمل الله للمسلمين الدين وأتمّ عليهم النعمة فإنه لم يغادر في كتابه العظيم مصلحة دنيوية ولا أخروية إلا نبّه عليها (21).

القرآن وقضايا علم الاجتماع:

سبق أن أول دراسة في الإعجاز القرآني على الإطلاق قد تناولت المعاني القرآني والإخبار عن فعل اجتماعي يصدر من بعض الشرائح الاجتماعية المخصوصة، والحق أن القرآن العظيم قد اهتم اهتماماً كبيراً بتأسيس الحياة الاجتماعية وما ينشأ فيها من علاقات مختلفة، وأحكام القرآن وأوامره – في الغالب – هي قواعد تصوغ التفاعل الاجتماعي في كافة أشكاله وتحدد الأهداف والوسائل التي تمكّن من تحقيق هذه الأهداف. وما علم الاجتماع عموماً إلا علم يقوم بدراسة التفاعل الاجتماعي ويصوغ هذا التفاعل حسب الأهداف العامة للمجتمع ووسائل ذلك، وغاية ما يصبو إليه هذا العلم هو دراسة هذا التفاعل وتفسيره ووضع القوانين التي تحكمه.

ولعلم الاجتماع قضاياه المحورية الكبرى مثل قضايا الأسرة والتغير الاجتماعي وضبط السلوك الإنساني وغير ذلك، ويعتبر موضوع الضبط الاجتماعي من أهم قضايا علم الاجتماع ويحظى بعناية واسعة من قبل العلماء والدارسين، ويتمثل ذلك في العناية بدراسة ماهيته ووسائله وأثره على الأفراد والجماعات وأثر عمليات التطور التلقائية والتداخل الثقافي الحادث بين المجتمعات.

والضبط الاجتماعي هو مجموعة من القواعد والمعايير الرسمية وغير الرسمية المنظمة للسلوك الإنساني والتي تعمل على تنظيم وتوجيه سلوك الفرد من خلال مجموعة من الوسائل التي تحدد أنماط السلوك المقبول وغير المقبول اجتماعياً، ويختلف هذا المفهوم اختلافاً جوهرياً باختلاف الرؤى الفكرية، ومن هنا فإن هذا المفهوم يختلف في الرؤية القرآنية عنه في الرؤية الغربية، حيث دار هذا المفهوم في الفكر الغربي حول ثلاثة اتجاهات:

أ_ الاتجاه الطبيعي الذي يدرس الضبط كما موجود دون التركيز على الأهداف أو المثل التي يعمل على تحقيقها، ودون تكوين رؤية معيارية له.

ب- الاتجاه النفسي وهو الاتجاه الذي يأخذ فيه هذا المفهوم صبغة سيكولوجية ويتم فيه استخدام معايير علم النفس وعلم النفس الاجتماعي.

ج- الاتجاه المثالي الذي يذهب إلى أن الضبط الاجتماعي عملية ذاتية يضبط فيها المجتمع نفسه بنفسه وبمعاييره النسبية الخاصة.

أما في الإسلام فإن الضبط ليست عملية نابعة من المجتمع نفسه، وإنما هو ضبط إلهي متعال، ويسعى هذا الضبط إلى صياغة الإنسان وتزكيته من خلال عملية لها أهدافها ومقاصدها التي تحقق للإنسان مصالح الدنيا والآخرة.

فلسفة الضبط الاجتماعي بين الرؤية القرآنية والرؤية الغربية:-

إن الفلسفات التي نشأت في الفكر الغربي لم تكن على وجهة متفقة، إذ اختلفت باختلاف المنطلقات الفكرية والمنهجية، ولأجل ذلك اختلفت وجهات النظر في موضوع الضبط الاجتماعي باختلاف تلك الفلسفات التي يستند عليها العلماء، ويتمثل ذلك بصورة خاصة في الخلاف المحوري بين الاتجاهين الآتيين:

• أنصار علم الاجتماع المحافظ كاتجاه يسود علم الاجتماع الغربي، ويعبر هذا الاتجاه – في مجمله – عن الوضع القائم في المجتمعات ويعمل على وصفه وتبريره والدفاع عنه وإظهار الجوانب التي تعبر عن الثبات والاستقرار والتكامل والنظام والاتفاق، ويتمثل ذلك في كتابات المدرسة الفرنسية وعلى رأسها أوجست كونت وإميل دوركايم وفي المدرسة الإنجليزية وعلى رأسها هربرت سبنسر والمدرسة الألمانية وعلى رأسها ماكس فيبر.

• وفي مقابل ذلك أنصار الإتجاه الراديكالي والمتمثل في الإتجاه الماركسي.

وهذه المدارس تعدّ نتاجاً طبيعياً لعدم وجود أسس فكرية ثابتة تتفق عليها هذه المدارس سوى التخلص من الفكر الديني والتزام جانب المادي والمحسوس، ولهذا فإن الضبط الاجتماعي لديهم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنطلقات الفلسفية لكل من مدارس هذين الاتجاهين، ومن هنا حددت خصائصه ومجالاته ووسائله ومفاهيمه.

وقد بنى روس – وهو أول من أفرد الضبط الاجتماعي بالدراسة وجعله فرعاً مستقلاً – على مجموعة من المسلمات التي دار عليها كل الباحثين بعده، وإن اختلفت مدارسهم، وهذه الأسس والمسلمات تفصيلها كالآتي:

أ- البناء على الأساس المادي الذي قوامه القانون الطبيعي.

ب- شكلت الفلسفة الوضعية أسس تلك الدراسات حيث اعتبرت الحس وحده المادة الأولية لنشأة كل معنى كلي، فتمّ تشيؤ الظواهر الاجتماعية، الأمر الذي حصر دراستها واختزلها في انعكاساتها المادية الظاهرة للعيان فحسب.

ج- ترجع مصادر الضبط الاجتماعي إلى المجتمع نفسه، فالفعل الإنساني يكتسب قوته أو صحته المعيارية بتواضع المجتمع عليه وليس له مرجعية عليا سوى تعضيد المجتمع له.

د- التركيز على مفهوم النسبية الأخلاقية.

هـ- الدين جزء من الثقافة العامة وليس ضابطاً لسلوك المجتمع أو حاكما عليه.

فلسفة الضبط الاجتماعي في القرآن:-

يرتبط مفهوم الضبط الاجتماعي وطبيعته وماهيته في القرآن بالقيم والمقاصد الكبرى، ولهذا فإن النظم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والقواعد القانونية تقوم على المصالح الكلية التي يحددها القرآن، ولهذا فإن الضبط الاجتماعي بقواعدهـ ووسائله المختلفة في القرآن يحكم المجتمع ولا يحتكم إليه، وهذا النموذج يقدم إطاراً شاملاً ويحدد معالم منهج متميز للضبط الاجتماعي يظهر تميز الأحكام القرآنية ويبرز إعجازها في هذه التشريعات.

وقد ارتبط مفهوم الضبط الاجتماعي في القرآن بالإيمان ارتباطاً وثيقاً، فهو إطار فكري عقدي تنبثق عنه أشكال الفعل الإنساني، ولهذا ربط الله تعالى في القرآن في غير ما موضع الإيمان بعمل الصالحات، ولما كانت السنة مفسرة للقرآن ومبينة له فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ” وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الدين وربطها بالقواعد الخلقية السلوكية ووضعها بين طرفين أولهما يمثل القمة والمرجعية لما هو دونه ومنتهاهما الطرف الآخر الذي يمثل أبسط نموذج لقواعد السلوك والضبط الاجتماعي والآداب العامة.

وسائل الضبط الاجتماعي في الفكر الغربي:-

هنالك شبه اتفاق – في علم الاجتماع الغربي – على أن للضبط الاجتماعي قسمان رئيسيان من حيث الوسائل المستخدمة فيه، وهما:

1- الوسائل غير الرسمية:-

وتتمثل في:

-الطرق الشعبية، وهي الوسائل التي أقرها المجتمع ليصوغ أفراده سلوكهم وفقاً لها.

– الآداب الاجتماعية، وهي تمتاز عن الطرق الشعبية بقوة إلزامية.

– العرف، وهو الوجه التقنيني للعادات والتقاليد وآداب السلوك العامة.

2- الوسائل الرسمية:-

وتتمثل هذه الوسائل في مواد القانون، وتعمل من خلال المفهوم العام للضبط الاجتماعي في الفكر الغربي حيث أن المجتمع لا يمكن ضبطه إلا عبر الجزاءات التي تفرض عبر الوسائل سواء على المستوى غير الرسمي من حيث تقبل الهيئة الاجتماعية لسلوك الفرد أو نبذه، ويتشكل المجتمع بناء على قوة هذه الجزاءات أما المستوى الرسمي فوسائله هي مواد القانون التي تقوم على تجريم بعض السلوك ووضع عقوبات متناسبة معه.

وسائل الضبط الاجتماعي في القرآن:

يعمل الضبط الاجتماعي في القرآن على تدعيم القيم من خلال التزكية النفسية حيث يتشكل الضمير الديني الذي يصبح وازعاً يضبط سلوك الفرد الذي تتطابق إرادته السلوكية مع القواعد الكلية للأحكام القرآنية ومقاصدها وأهدافها، ولهذا فإن الضبط الاجتماعي في القرآن يسعى إلى الوقاية من المفاسد ولا يلجأ إلى العقوبات القانونية إطلاقاً إلا عند حدوث الخلل الظاهر، ولذلك فإن وسائل الضبط الاجتماعي في القرآن تكمن في الآتي:

1- الوسائل غير الرسمية:

– نظم العبادات والمعاملات، وترتبط العبادات والمعاملات بالإيمان، وهو مفهوم ذو صبغة ضبطية إلزامية لدى الفرد، حيث يقوم على الخضوع لأوامر الله وتعظيمها وإجلالها، وهذه العبادات هي عوامل ضبط للسلوك الداخلي والخارجي، وهي المحرك الفاعل فيه، وليس ذلك فحسب بل إن مفهوم العبادة مفهوم شامل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة في السلوك الإنساني إلا ويدرجها تحته مظلته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(22) وقال أيضا: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(23)

– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

هذه الوسيلة الضابطة من أهم خصائص المجتمعات المسلمة، قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ)(24) وقد ربط الله تعالى – كما هو ملاحظ – بين ولاية المؤمنين لبعضهم وبين أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وقد عاب على غيرهم عدم قيامهم بهذا الدور الفاعل في ضبط المجتمع فقال: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(25)

 الوسائل الرسمية:

حافظ القرآن بشدة على الكليات التي تصون كيان المجتمع وتحفظه وحرم الجرائم التي تهدد ذلك الكيان لسوء عاقبتها وشدة خطرها، ولكنه لم يكتف في الزجر عن اقتراف الجرم بالترهيب من غضب الله وسخطه وعذابه يوم القيامة، إذ أن الوازع الديني قد لا يكون كافياً في بعض النفوس، ولهذا شرع الله تعالى العقوبات التي تقوم على المحافظة على المصالح الكلية للمجتمع مراعياً فيها حقوق الله وحقوق المجتمع وأفرادهـ والحقوق المشتركة بينهما، ويتمثل في الآتي:

المحافظة على عقيدة المجتمع المسلم التي تحفظ تماسكه وشرع عقوبة الردة:

إنّ الارتداد يدخل الخلل في صفوف المجتمع المسلم ويفككه ويضعف قوته ويشيع الاستخفاف به، وفي ذلك شر عظيم، لأنّ أخطر شئ على حياة الأمم والمجتمعات وكيانها الفوضى في الاعتقاد والاضطراب الفكري وعدم الثقة بما يظلها من نظام.

ومن الواضح لكل عاقل أنّ كفر المرتد بعد إسلامه أخطر على الأمة من الكفر الأصلي، لأن الشك في الدين والتفكك في الجماعة قد يكون من العوامل الأساسية في نصر الأعداء ولذا لم يترك الإسلام للمرتد حرية الرجوع، إذ أجبره على هذا الرجوع بالتهديد بالقتل، هذا مع احترامه الشديد لحرية الاعتقاد بالنسبة للكافر الأصلي قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (26).

وكما كانت الردة عن الإسلام من أخطر المفاسد التي تشكك في الدين وتفكك الأمة وتعمل على تفتيت كيانها فقد كان الارتداد أكثر خطورة من الكفر الأصلي، ولهذا تشدَّد الإسلام في أمر الارتداد وجعله محبطاً للأعمال الصالحة وماحياً للحسنات قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (27).

ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أنّ هنالك فرقاً كبيراً بين المنافق والمرتد ويتمثل ذلك في أن المنافق يظهر الإسلام ويخفي الكفر في ذلة بينما المرتد يتبجح بارتداده العلني الظاهر متحديا المجتمع بأكمله ومستهترا بثوابته، ولهذا فإن المرتد يمهل فإن تاب خلي سبيله وإلا قتل حدا.

المحافظة على أفراد المجتمع وشرع عقوبة القتل:

الإنسان من أعظم مخلوقات الله تعالى،، ولذلك كانت المحافظة على النفس البشرية من المقاصد التي عملت الشريعة الإسلامية على تثبيتها، ولأجل ذلك جعلت للإنسان حرمة عظيمة من أكبر الحرمات وجعلت قتله من كبائر الذنوب وأعظمها وأقبحها، وليس ذلك فحسب بل جعلت هذا القتل من الفظائع التي تستوجب غضب الله تعالى. قال تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) (28). وقال أيضاً:” وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ً ” (29) وقد تشدَّد الله تعالى في القتل غاية ما يكون التشدُّد وحذَّر من ذلك أشدَّ ما يكون التحذير قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) (30).

وقد جعل الله تعالى قتل النفس الواحدة في هذه الآية بمثابة قتل جميع الناس يقول الإمام القرطبي ” إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع (31)” والحق أنه لو لم يكن الإنسان مكرماً عند الله وله مكانة عظيمة لما تشدد الإسلام في تحريم إزهاق نفسه هذا التشدد.

وقد حافظ الله تعالى على نفوس أفراد المجتمع فشرع القصاص لئلا يستسهل الناس القتل فينعدم الأمن وتعم المجتمع الفوضى، قال تعالى: ” وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “ (32).

المحافظة على مصلحة العقل وشرع عقوبة الخمر:-

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون ) (33).

والخمر هي أم الخبائث ومصدر كل الجرائم الاجتماعية وباعثة كل رذيلة وهي تثير ما عملت الشريعة على محاربته والقضاء عليه من العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، ومعلوم أنّ الإنسان إذا فقد عقله أو غاب أو أختل لم يتميز عن الحيوان أصلاً.

ولما كان الأمر كذلك فقد حذرت الشريعة من كل ما من شأنه أن يفسد العقل البشري الذي هو أعظم نعمة، يقول بنتام في كتابه ” أصول الشرائع” مشيراً إلى إصابة الإسلام عند تحذيره من المسكرات ” النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يصيره كالمجنون، وقد حرمت ديانة محمد جميع هذه المشروبات؛ وهذه من محاسنها” (34).

وقال أحد الأطباء الألمان ” اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والملاجئ والسجون”(35).

ومعلوم أنّ للخمر أضرارا كثيرة جداً، ومن هذه الأضرار الآتي:

– الخمر مذهبة للعقل، ومعلوم أنّ العقل هو الذي يميز الإنسان فإذا ما أفقدت الخمر هذا الإنسان عقله كان حاله حال الحيوان.

– للخمر على الجهاز العصبي أثر بالغ السوء،حيث تلحق به الهبوط والضعف والاضمحلال وتسبب أمراضاً خطيرة كشلل الأطراف والهذيان والارتعاش وفقدان البصر

– كثيراً ما يؤدي تسمم الجهاز العصبي الذي تسببه الخمر إلى الجنون، وقد ثبت بالإحصاءات الرسمية أنّ 30 % من المجانين الذين يعالجون في المستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية كان جنونهم ناشئاً عن تعاطي المسكرات.

– إن أجهزة الجسم كالأوعية الدموية والكليتين والرئتين تكون في حالة السكر مضطرة للقيام بعملها مضاعفاً، ولذلك تقوم بنشاط غير طبيعي لمواجهة الظروف غير العادية، وذلك أمر خطير يجهد الجسم أيما إجهاد فتسهل حينئذ إصابته بالالتهابات العديدة.

– إن الخمر لا تتحول إلى دم كما تتحول سائر الأغذية النافعة بعد الهضم، وإنما تبقى هذه الخمر على حالها، فتزاحم الدم في مجاريه وعندئذ تسرع حركته وتخرج هذه الحركة عن وضعها الطبيعي، ومعلوم أن الخمر مادة كحول وزيادتها في الجسم لمدة طويلة يحدث التهاباً مزمناً في الأعصاب والكلى وتصلّبا في الشرايين وتحجراً في الكبد وضعفاً في القلب.

– للخمر تأثير على المعدة، إذ ترشح العصارة الفعالة في الهضم حتى يغلظ نسيجها وتضعف حركتها وقد تحدث احتقاناً أو التهاباً.

– يكون موت السكران محققاً إذا بلغت نسبة الكحول في دمه ستة في الألف.

– جعل الإنسان مستخلفاً في المال يقضي به ضرورياته وحاجاته وفق ما أمره الله، ولكن مدمن الخمر يضيع ماله في الخمر دون أن يحصل على ضرورياته في الحياة وبذلك يخسر دنياه وأخراه، وذلك هو الخسران المبين الواضح.

– إنّ من شأن شارب الخمر المدمن لها الفشل الاجتماعي والتقصير في حقوق الزوجة والأولاد فتراه مهملاً لشؤونهم في الرعاية والعناية من جهة تاركاً حاجتهم وضرورياتهم دون تلبية، وبذلك تضيع أسرته ضياعاً لا يخفى على أحد.

– يقود شرب الخمر إلى مفاسد كالزنا الذي لا يتورع منه السكران في الغالب كما هو معروف، وبذلك يخرّب السكران نظام المجتمع ونظام الشريعة التي أراد الله للناس أن يسيروا على نهجها ووفقاً لطريقتها.

– الخمر تثير العداوة والبغضاء بين الناس وربما أدى السكر إلى القتل كما هو معروف، وما ذلك إلا لأن الخمر تثير الشهوة والغضب، فتنطلق هاتان الصفتان دون عقل يضبطهما ودون حاجز يقيد حريتهما، فتنشأ بين الناس النزعات التي يكون فيها السب والقذف أيضاً، فيؤدي ذلك إلى البغض والكراهية،وربما أدى هذا في بعض الأحيان إلى الضرب والقتل أيضاً، ولهذا قال تعالى في الخمر ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (36).

– الأمم والمجتمعات – في أصلها – مكونة من أفراد وأشخاص، فإذا اختل أمر الأفراد وانتشرت المسكرات اختل – باختلاله – أمر الأمة وأصيبت بالضعف والوهن والتفكك.

– من الأمور الواضحة أن الخمر تؤثر تأثيراً سالباً على القوى العاملة فتضعف نشاطها وتعطل طاقاتها وتقلل إنتاجها.

– الخمر تحل العقل من قيوده، فيكون ذلك مرتبطاً بإذاعة الأسرار وكشف الخفايا، فنجد السكران يذيع سره ولا يقوى على كتمه والاحتفاظ به في قلبه، فيفشي أخص أسراره وأسرار أسرته بل وأسرار دولته إلى الأعداء، وفي ذلك شر كبير ومصيبة عظمى ليس بعدها من مصيبة.

ولهذا شرعت عقوبة الخمر للمحافظة على العقل من الاختلال أو الغياب أو الفساد، وشارب الخمر يعاقب في الشريعة الإسلامية بالجلد حتى يرتدع، وقد اختلف العلماء في عدد الجلدات في شرب الخمر هل هو أربعين جلدة أم أكثر، يقول القاضي عياض ” إن حد الخمر لا ينقص على الأربعين إجماعاً، وإنما الخلاف في الزيادة على الأربعين ” (37). وقد ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الخمر لا حد فيها (38) وقد ذكر آخرون أن حد الخمر ثمانون جلدة (39).

المحافظة على تكاثر المجتمع وشرع عقوبة الفواحش وإشاعتها:-

حافظت الشريعة الإسلامية على النسل وعملت من أجل استمراره وعدم تعطله لأنه يمثل الأجيال والمجتمعات التي تعمر الأرض وتقوم بمهام الأمانة والتكليف والاستخلاف، والنسل يعمل على تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك خير كثير واجر كبير قال صلى الله عليه وسلم “تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة “(40) وقد حث الإسلام المسلمين على الزواج، وجعل له هدفاً أصيلاً وأهدافًا تبعية مكملة لذلك الهدف، أما الهدف الأصلي فيتمثل في المحافظة على النسل وحفظه من الانقطاع وما عداه مما يقصده الإنسان من منافع الزواج يعتبر من الأهداف التبعية المكملة والمتممة للمقصد الأصلي وعلى هذا فإنّ فكرة تحديد النسل وتقييد تعدد الزوجات أمور تناقض قصد الشارع إن كانت في صورة مبدأ عام لحياة الأمة الإسلامية وأما في حالة الضرورة الخاصة فإنّ ذلك يقدر بقدره ويخضع لأحكامه.

ولاشك أنّ العقول السليمة والفطرة المستقيمة تقضي بأن تكون رابطة الزواج هي الطريق الوحيد لامتداد النسل والمحافظة عليه من الانقطاع. ويلزم من ذلك سد الطريق الذي يناقض مقتضى هذا الطريق أو يعرضه للخطر. فرابطة الزواج هي السبيل الوحيد الذي يكفل للنسل البقاء والاستمرار في أسمى صور المحافظة وعليه فإن طريق الزنا المقابل للزواج يعد محظوراً أمام جميع أفراد المجتمع من غير استثناء لأنه يناقض مقتضى نظام الزواج ويعرضه للفوضى والانهيار ويهدم كيان الأسر وبالتالي يعرض بقاء الجنس البشري لمخاطر عظيمة. ولذا تجد جميع الشرائع السماوية مجمعة على تحريم الزنا تحريماً قاطعاً على جميع الناس وفي كل الأحوال

ورغم أنّ الجنس يؤدي إلى أصل عملت الشريعة على المحافظة عليه وهو النسل، إلا أنّ هذا الجنس إذا خرج عن منهاج الله تعالى كان وبالاً وخراباً على الأمم والمجتمعات ولأجل ذلك عملت الشريعة في المحافظة على هذا المنهاج بالآتي:

(أ) شرع عقوبة الزنا

قال تعالى: (ولا تقربوا الزنى أنه كان فاحشة وساء سبيلا) (41). ولما كانت المحافظة على النسل وإثبات النسب في الشريعة الإسلامية أمراً منضبطاً وله قواعده وأركانه فقد أبطلت الشريعة كل ما عداه، وجعلت الزواج دائماً غير مؤقت بوقت معين، إذ ليس المقصود في الشريعة هو قضاء الشهوة فحسب بل المقصود هو حصول النسل وبقاؤه، ودوام الزواج يضمن رعاية النسل وتربية الأطفال، ولما كان الأمر كذلك فقد أوجب الإسلام الإعلان عن الزواج حتى يعلم كل فرد من أفراد المجتمع أن هذه المرأة صارت مقصورة على هذا الرجل.

ولما كان الأمر كذلك فقد ثبت أنّ الزنى أمر قبيح ومحرم وذلك لأمور كثيرة منها:

• الزنا خروج عن منهج الله تعالى وضوابطه ومعاييره التي حددها في حفظ النسل وتربية الأطفال وإثبات النسب.

• الزنا ينشأ عنه أطفال لا راعي لهم فينشأون مشردين في أغلب الأحوال دون أن يرعاهم أو يربيهم أحد، وهم إذا بقوا أحياء كانوا في حالة صغرهم عالة على المجتمع وكانوا مجرمين عند شبابهم في الغالب.

• الزنا يؤدي في كثير من الأحيان – إذا حملت المرأة – إلى إزهاق أرواح الأطفال حيث تلقيهم أمهاتهم خوفاً من العار دون أن تأبه لحياتهم أو موتهم.

• الزنا يمنع تكاثر الأمة وزيادة النسل وهو أمر مقصود في الشريعة، وذلك لأنّ كثرة الزنا تزهد الإنسان في الزواج وتنفر من أعبائه.

• الزنا يفكك الأسر القائمة إذ أنه اعتداء على أغراض الغير من ناحية وخيانة عظمى للزوج أو الزوجة من ناجية أخرى فهو لأجل ذلك أمر منافٍ للفطرة والعقل الصحيح(42).

• الزنا ينقل الأمراض وبه تتجدد الأمراض، وقد ظهر السيلان والزهري ثم كانت الطامة الكبرى في طاعون القرن العشرين وما بعده ” الأيدز” وفيروس الأيدز كما هو معلوم يدخل إلى جسم الإنسان عبر الاتصال الجنسي وغيره، وسرعان ما يبحث عن خلايا لتستضيفه ثم تستعد هذه الفيروسات لمعركة شرسة مع الخلايا الثانية المسئول الأول في جهاز المناعة، فيفقد الجسم قدرته على التصدي للأمراض الميكروبية، فيظل حاله كذلك حتى يموت صاحبه متأثراً بذلك(43). ولأجل ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا”(44) وقد أدت إشاعة هذه الفاحشة إلى ظهور مرض الأيدز الخطير، وقد انتشر الزنا عند الغربيين في إطار البحث عن الحرية الفردية والتحرّر من قيود الدين، وقد تبلور ذلك في الفلسفة التي سادت في عصر النهضة وما بعده، ثم بلغت الحرية الجنسية ذروتها بمذهب الحداثة وما بعد الحداثة التي توسعت فيها مفاهيم الحرية الجنسية والإباحية المطلقة والإمعان في الحصول على المتعة الجنسية بكافة الوسائل.

أما عقوبة الزنا فقد قال تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) (45) وهذه الآية حكم عام لكنه مقصور على البكر أي غير المتزوج من الرجال والنساء أما الثيب فحكمه الرجم بالحجارة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم ” يا أنيس أغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فأرجمها فقدا أنيس عليها فاعترفت فأمر صلى الله عليه وسلم فرجمت(46). وروي عن جابر بن سمرة ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً بن مالك ولم يذكر جلداً”(47).

(ب) عقوبة اللواط

إذا كان الزنا أمراً قبيحاً فإنّ اللواط لهو أكثر قبحاً وبشاعة وذلك لأنه منافٍ للفطرة السوية، وهو شذوذ وانحراف عن الطبيعة، وقد ذم الله تعالى وعاب من فعل ذلك، بقوله تعالى: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون ) (48) وإذا كان قوم لوط الذين دمر الله مدينتهم “سدوم” وأمطر عليهم الحجارة قد انحرفوا عن فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليهم فمالوا إلى الذكور دون الإناث – فإن الحضارة الغربية السائدة الآن قد نجمت عنها ثورة الحداثة التي تولدت عنها الممارسات غير الشرعية بالصورة التي تندى لها جبين الإنسانية ففاقوا فيها قوم لوط أنفسهم الذين لم يكن لديهم سحر الثورة الجنسية المعاصرة بآلياتها التكنولوجية والإعلامية ووسائلها السمعية والبصرية الجذابة المعضدة بوسيلة العلم والتدعيم النفسي الذي تتلقاه من العلوم الاجتماعية العلمانية، والحق أنّ اللواط من أخطر الأمور على الإنسانية ومن مخاطره الآتي:

1- اللواط جريمة بشعة للغاية تخالف الفطرة السليمة والخلق القويم.

2- اللواط أمر يعطل النسل الذي عملت الشريعة من أجل المحافظة عليه، وهذا التعطيل يكون في كلا الطرفين فاعلاً ومفعولاً كما هو معلوم.

3- في اللواط من الأمراض ما لا يعلم خطورته إلا الله، ومن أخطر الأمراض المعروفة الأيدز الذي هو مرض ناتج عن الممارسة الجنسية المنحرفة التي يتعاطاها الشواذ جنسياً وقد كان اسم الإيدز عندما ظهر للمرة الأولى “GRID” ويشير هذا المصطلح إلى Gay – related immune Deficience”” أي نقص المناعة الناجم عن الممارسات الجنسية المثلية.

أما عقوبة اللواط فقد اختلف العلماء في حد مرتكب هذه الجريمة الغريبة فمنهم من ذهب إلى أن حده الرجم ومنهم من ذهب إلى أنه كحد الزنا ومنهم من ذهب إلى أنه الحرق ومنهم من ذهب إلى أن حده القتل بالسيف ومنهم من رأى رميه من مكان عال ومنهم من ذهب إلى أنه لا حد فيه وإنما فيه التعزيز

(ج) عقوبة القذف:

إذا كانت الشريعة الإسلامية الغراء قد عملت على المحافظة على المجتمع من مفاسد الزنا والرذائل الجنسية فقد عملت أيضاً على المحافظة على هذا المجتمع من عار الجنس المنفلت الذي تأباه الفطرة السليمة، ولأجل ذلك منعت رمي الناس بجريمة الزنا سواء صح هذا الرمي أو كان اتهاماً باطلاً، إلا إذا تجرأ مرتكب هذه الجريمة ولم يراع لمجتمع المسلمين حرمته فارتكب جريمته أمام أعين أفراده حتى توفر منهم أربعة شهود وفي هذه الحالة يعاقب هذا الجاني بما حاول من نشر الفساد في المجتمع وإلا فحسابه على ربه إن لم يره أحد.

ولما كان غرض الإسلام من تحريم القذف هو الستر وعدم إشاعة الفاحشة في مجتمع المسلمين فقد ذم الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في مجتمع الذين آمنوا فقال ” (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (49).ولتحقيق معنى الستر اشترطت الشريعة العدد الكبير وهو أربعة في الشهود، بل إنّ الشهود إن لم يوطنوا أنفسهم ويتأكدوا من صحة اتهامهم عوقبوا على ذلك وقد قال (صلى الله عليه وسلم) لهلال ابن أمية “ائت بأربعة شهداء يشهدون صدق مقالتك وإلا حد في ظهرك(50).

وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد عملت على الستر فإنّ الحضارة السائدة الآن كما هو معلوم تسعى لإشاعة الفاحشة ونشر الزنا والرذيلة، وقد كرست وسائل الإعلام الغربية جهوداً جبارة لصناعة الجنس في الرواية والأدب والإعلانات والأفلام.

وليس ذلك فحسب بل عمدت وسائل الإعلام الغربية إلى تلطيف المفردات الجنسية المنفرة فسمت الزنا “الجنس مع شركاء متعددين ” وسمت “اللواط” بـ ” الجنسية المثلية” وقد جاء ذلك التعبير مرتبطاً عندهم بتغيير في الاتجاهات النفسية والاجتماعية نحو الجنس. ولم يقف الإعلام الغربي عند حد إشاعة الفاحشة وتلميع صورتها الشوهاء بل إنه حاول تزييف الحقائق المتعلقة بأخطار هذه الممارسات، إذ نجده أتى في كارثة الأيدز بنظرية لا أساس لها من الصحة وهي أنّ الأيدز بضاعة أفريقية قد سببها القرد الأخضر للإنسان الأفريقي ثم انتقل إلى أمريكا.

والحق أنّ الأيدز لم يأت من أفريقيا ولم يسببه القرد الأخضر ولم يأت كذلك من مجرة فضائية مقتحماً عليهم الكرة الأرضية ولم يصنع كذلك في أضابير المعامل الحربية الأمريكية وإنما كان مرضاً جنسياً ناتجاً عن الممارسة الجنسية المنحرفة التي يتعاطاها الأمريكيون الشواذ جنسياً(51).

وقد اقتنعت المؤسسات الأكاديمية الأمريكية تماماً بالأسباب الحقيقة لانتشار الأيدز إلا أنّ باحثيها قد لاذوا بالصمت وأخفوا نتائج أبحاثهم تفادياً لسطوة الإعلام وخوفاً من جمعيات الشواذ جنسياً وجمعيات الضغط كما حدث للباحث سونانيد حين أعلن أنّ نمط الحياة عند الشواذ هو وراء أزمة الإيدز، ويقول الباحث الأمريكي الشهير ” لقد أمعنت النظر والتحليل في المعلومات الطبية فوجدت نظريات الأيدز مليئة بالثقوب الواضحة والتناقضات المشوشة والمفارقات الواضحة، أنا لا أقول أكثر مما قال به الأدب الطبي عن الأيدز ولكن الفارق الوحيد أنني أستطيع أن أقول ذلك جهرة وعلانية على صعيد الحياة العامة بينما لا يستطيع معظم الباحثين والعاملين في مجال الأيدز ذلك”(52).

والحق أنه ما من أمة أو مجتمع تنشر الفاحشة وتشيعها إلا وقع عليها الوبال والكوارث والأزمات والأوجاع التي لم يسبق لها مثيل.

ولما حافظ الإسلام على المجتمع من الفواحش فقد حافظ عليه من الإعلام الجنسي الهدام، فجعل الله تعالى لرمي الناس بالزنا باطلاً حّداً معيَّناً في القرآن سواء كان كاذباً أو كان صادقاً ولم يستطيع إثبات اتهامه، قال تعالى: ( والذين يرمون ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) (53).

المحافظة على الأموال وعقوبة سرقتها:-

لما كان للمال في الشريعة الإسلامية أهمية كبيرة فقد عملت الشريعة على حفظه فشرعت عقوبة السرقة وهي قطع يد السارق من الكف وذلك لقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) (54).وقد جاءت الشريعة بهذه العقوبة الشديدة لأن السارق يتعدى على حقوق الغير بصورة فيها استهانة بالآخرين وبحقوقهم كما أن فيها من الترويع ما فيها إذ ينتهك الحرز ويكسر ما أغلق ويروع أفراد المجتمع، ولهذا أوجب الله تعالى فيه القطع دون المختلس والمنتهب، يقول ابن القيم: ” إن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور وينتهك الحرز ويكسر القفل ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضاً وعظم الضرر واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمغتصب فإنّ المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه وإلا فمع التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق بل هو بالخائن أشبه”(55).

المحافظة على أمن المجتمع وعقوبة الحرابة:

الحرابة من الأمور التي تقطع الطريق وتعطل حياة المجتمع في انتقال أفراده من مكان إلى مكان، ومن الممكن أن تعوق هذه الحرابة مصالح الناس الكبرى ولأجل ذلك كانت من أكبر الكبائر واستحقت عقاباً شديداً، ومن مساوي هذه الجريمة البشعة الآتي:

* أخذ مال الغير دون وجه حق

* ترويع الناس وتخويفهم.

*إلحاق الأذى بالآخرين وقتلهم أحياناً.

ولما كانت الحرابة من الجرائم التي تهدد أمن الناس وتعطل منافعهم التي تتوقف على الأسفار والضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله فقد شرع الله تعالى للحرابة عقوبة شديدة، قال تعالى ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) (56).

وبهذه الآية يتبين أنّ للحرابة عقوبات مختلفة هي:

• القتل والصلب، وفي هذه الحالة يكون المحارب قاتلاً وآخذاً للمال.

• القتل بدون صلب، وفي هذه الحالة يكون المحارب قاتلاً دون أخذ المال.

• قطع اليد والرجل من خلاف وفي هذه الحالة يكون المحارب آخذ للمال بدون قتل.

• النفي من الأرض، وفي هذه الحالة يكون المحارب يخيف الطريق دون قتل أو أخذ مال

وبهذا التقسيم صرح ابن عباس رضي الله عنه فبما روى عنه حيث قال ” إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا اختلفوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض”(1).

النتائج المترتبة على الضبط الاجتماعي في كلا النموذجين:-

لما كان مفهوم الضبط الاجتماعي وطبيعته وخصائصه تختلف اختلافاً جوهراً نسبة لاختلاف الأسس والمنطلقات التي تبنى عليها الفلسفة العامة – فقد اختلفت النتائج التي تترتب على عملية الضبط الاجتماعي في كل من النظامين القرآني والغربي، ولأجل ذلك كانت النتائج التي ترتبت على الضبط الاجتماعي الغربي كالآتي:

– فقدت وسائل الضبط الغايات العليا التي يجب أن تهدف إليها.

– فقدت وسائل الضبط عنصر القداسة والإلزام عند الفرد الموجهة إليه.

– سادت روح النسبية وافتقدت المجتمعات إلى القواعد المعيارية الثابتة المتعالية.

– ازدادت حدة الخلخلة في المجتمعات وظهر الفساد وتفشت الرذائل والانحرافات حتى سعت المجتمعات إلى تقنينها وإجازتها.

– ساد الشعور بعدم الثبات في قواعد التجريم وأهملت حالة التطابق بين السلوكيات والمعايير فتآكلت المجتمعات.

أما في الإسلام فإن الأمر مختلف اختلافاً واضحاً ولهذا تميزت نتائج الضبط الاجتماعي القرآني بالآتي:

– إن حالة المطابقة بين السلوك والقواعد الخلقية المعيارية – التي يرجى الثواب عليها- إنما هي حالة طبيعية عند الفرد والمجتمع حيث أن المرتكز هو الإيمان الذي تغدو في إطاره حالات الانحراف شاذة ونادرة وبعيدة عن النمط العام.

– إن سيادة الأمن والانضباط والتواؤم الاجتماعي هي مكون أساس للمجتمعات المسلمة التي استجابت كلياً لعملية التزكية بما تحمل من أسس وقواعد، وهذه العملية إنما ترتكز على الروح الكلية للإسلام ولا تتأتى بالعقوبات والقوانين فحسب.

– إن أسس ومكونات الضبط في القرآن تؤدي إلى تهيئة الظروف النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمع حتى تطابق بين السلوك والمعايير، وهي كما تسعى لهذه التهيئة فإنها تسعى من جانب آخر إلى تجفيف منابع الشر والانحراف في النفس والمجتمع.

– أنشأ القرآن من النظم الاجتماعية ما هو كفيل بهذا الضبط المنشود، وذلك عن طريق آلية مستمرة لمتابعة التقيّد بالمعايير، مثل آلية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلاً عن المراقبة الداخلية للفرد.

– إن فلسفة النظام القرآني تقوم على التحصين والوقاية ودرء المفاسد، وليس هو نظاما علاجيا عقابيا يهتم بنتائج الأعمال ويغفل أسبابها، إذ أنه لا يلجأ إلى الحدود والعقوبات إلا في آخر المطاف وعند ظهور المفسدة المشهود عليها، ولهذا فإن هذا البناء لا يقوم على القوانين، بل إن أساسه المتين هو وجدان الفرد لا العقوبات القانونية.

– يتميز الضبط الاجتماعي في الإسلام بالثبات والمعيارية لا النسبية، كما يتميز بأنه إلهي المصدر، الأمر الذي يمنحه القداسة والاحترام عند أفراد المجتمع.

ولما كان الأمر كذلك فقد أحس الغربيون أنفسهم بإعجاز الضبط الاجتماعي الإسلامي في مستويات تزكية النفس البشرية وتهذيبها كما أحسوا بعجز نظامهم في الضبط الاجتماعي وفشله في هذه الجوانب إزاء النظام الإسلامي وإن لم يعترفوا بذلك صراحة، ويبدو ذلك واضحا في أنهم يجلبون شيوخاً مسلمين إلى عتاة السجناء المجرمين عندهم ليهذبوا أخلاقهم ويحسنوا طباعهم ويضبطوا سلوكهم ليعودوا مواطنين صالحين يأمن المجتمع شر جرائمهم، وهو أمر معتاد في السجون الأمريكية كما هو معروف.

ولا شك أن تميز نظام الضبط الاجتماعي في القرآن يكشف عن إعجازه في هذا الوجه المتفرد الذي لا تستطيع التشريعات الإنسانية أن تأتي بمثله أو تفضي إلى مثل نتائجه، ومن أحسن من الله حكماً وضبطاً وتنظيماً للمجتمعات.

  • الاربعاء PM 09:10
    2021-02-10
  • 1630
Powered by: GateGold